في السنة الماضية، أثناء مناقشات مشروع موازنة 2020، تجرّأت قوى السلطة، أو ازدادت وقاحة وكذباً، على إطلاق مبادرة ترمي إلى إعداد وإقرار موازنة 2020 بعجز يساوي صفراً في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. غالبية النقاشات التي جرت في الحكومة ثم في مجلس النواب حصلت بهذه الخلفية كخطة أو مسار للالتفاف على الأزمة أو الهروب منها. ظنّت قوى السلطة أن الهروب مسألة بسيطة وساذجة يمكن تنفيذها عبر التلاعب بالمؤشرات، فعمد وزير المال في حينه، علي حسن خليل إلى «كتم» الكثير من المدفوعات لتأجيل تسديدها للسنوات اللاحقة، تماماً كما فعل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حين ظنّ أنه يمكن تأجيل إطفاء الخسائر في ميزانيته للسنوات المقبلة. إنه النهج نفسه والمسار نفسه منذ مطلع التسعينيات لغاية اليوم. الفرق أن وزير المال الحالي غازي وزني، الآتي من المدرسة نفسها، ليس هو شخصياً المسؤول عن زيادة في العجز بقيمة 1100 مليار ليرة في ثلاثة أشهر حتى بات عجز الموازنة يساوي 76.5% من الإيرادات.


الإيرادات تتدهور
أمس، وبعد انتقادات وجّهها ممثلو صندوق النقد الدولي لوزارة المال بالنسبة إلى التأخّر في نشر نتائج المالية العامة، وزّع المكتب الإعلامي لوزير المال إحصاءات المالية العامة عن أول شهرين من السنة واللذين يظهران أن العجز بلغ 1744 مليار ليرة. لكن «الأخبار» حصلت على إحصاءات الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2020، والتي تظهر أن العجز بلغ 2420 مليار ليرة. هذا العجز ناجم عن تراجع الإيرادات بنسبة 14%، وزيادة في النفقات بنسبة 12%.


ففي الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية، انخفضت إيرادات الخزينة إلى 3150 مليار ليرة مقارنة مع 3671 مليار ليرة في الأشهر الثلاثة الأولى من 2019. هذا الانخفاض ناجم بشكل أساسي عن تراجع إيرادات الرسوم الجمركية (كانت 455 مليار ليرة ثم بلغت 280 مليار ليرة)، ومن إيرادات ضريبة القيمة المضافة (كانت 858 مليار ليرة ثم بلغت 495 مليار ليرة)، والإيرادات غير الضريبية المحصلة من وزارة الاتصالات بشكل أساسي (كانت 689 مليار ليرة ثم بلغت 550 مليار ليرة). اللافت أنه سُجّل في هذه الفترة ارتفاع باقي الرسوم والضرائب (غير الجمارك وضريبة القيمة المضافة) من 1669 مليارة ليرة إلى 1840 مليار ليرة، إلا أن هذا الارتفاع لم يعوّض الخسارة الناجمة عن مسار التراجع الإجمالي في بنود الإيرادات.

«كتم» النفقات
على ضفّة النفقات، كان الأمر لافتاً بمجمله، لأن غالبية البنود طرأت عليها زيادات بينما كان يفترض أن تنخفض قيمتها. ففي نهاية آذار 2020 بلغت قيمة النفقات المسجّلة في الخزينة 5580 مليار ليرة مقارنة مع 4982 مليار ليرة في الفترة المماثلة من السنة الماضية. من أبرز البنود التي سجّلت ارتفاعاً، هي النفقات العامة (كانت 3477 مليار ليرة وارتفعت إلى 4104 مليار ليرة) والنفقات على حساب موازنات سابقة (كانت 979 مليار ليرة وارتفعت إلى 1562 مليار ليرة)، وفوائد الديون الداخلية (كانت 1065 مليار ليرة وارتفعت إلى 1250 مليار ليرة).
إذاً، كيف يمكن أن تزداد مدفوعات الدولة لفوائد الديون، بينما هي توقفت عن سداد فوائد ديون سندات اليوروبوندز؟

ما هي تلك النفقات المقيدة على حساب موازنات سابقة؟ عملياً، واصلت الخزينة سداد مدفوعات فوائد سندات الخزينة بالليرة اللبنانية للمصارف ولمصرف لبنان والضمان الاجتماعي. كما أنها واصلت تسديد قيمة المدفوعات المتوجبة على الدولة والتي صدرت فيها أوامر صرف من وزارة المال، لكنها نائمة (لم تُدفع) في أدراج الوزارة منذ سنوات. ربما هي نائمة منذ سنة أو أكثر، وقد يشار إليها على أنها المتأخرات التي فتحت لها اعتمادات في سنوات سابقة ثم أنجزت المشاريع أو سلّمت البضاعة أو الخدمة، ولاحقاً صدرت أوامر صرف بشأنها، إلا أن وزير المال لم يدفعها لأسباب غير واضحة.

معرفة قيمة المتأخرات تشكّل عنصراً متغيراً وحسّاساً في خطّة الإصلاح

قد تكون الحجّة عدم توافر السيولة في حساب الـ 36 الذي وصل مراراً إلى حافة النشفان، أو قد ينطوي التأخير على عمليات ابتزاز. لكن في المبدأ، إن وزير المال غازي وزني ورث حملاً ثقيلاً عن سلفه علي حسن خليل الذي كان واحداً من دعاة الترويج لموازنة صفر عجز. قيل في فترات سابقة إن قيمة المتأخرات المترتبة على وزارة المال تفوق 3000 مليار ليرة، لكن الحقيقة «مكتومة» في أدراج وزير المال. معرفة قيمة المتأخرات تشكّل عنصراً متغيراً وحسّاساً في خطّة الإصلاح التي لم تشر إلى ضرورة التخلّي عن النظام النقدي الفاشل المعتمد في الدولة اللبنانية نظراً إلى كونه يتيح التلاعب بالقيود العامة لتجميل المؤشرات المالية في نهاية كل سنة، ويشكّل أداة فعالة لإخفاء العيوب الحقيقية للنظام الزبائني.

العجز: إلى أين؟
في المحصّلة، بلغت قيمة العجز 2420 مليار ليرة في نهاية آذار 2020 مقارنة مع 1310 مليارات ليرة في نهاية آذار 2019، أي بزيادة 1107مليارات ليرة. وبالمقارنة مع شباط 2020 حين كان العجز يبلغ 1676 مليار ليرة، فإنه يكون قد ازداد بقيمة 744 مليار ليرة في شهر واحد. ولتكمل القصّة، فإنه في نهاية آذار 2019 كان في الخزينة فائض أولي بقيمة 194 مليار ليرة، لكنها اليوم تسجّل عجزاً أولياً بقيمة 1135 مليار ليرة. وإذا قسنا العجز المسجل في نهاية آذار 2020، على باقي أشهر السنة، يمكن تقدير أن العجز في نهاية 2020، إذا استمرّ المسار نفسه ومن دون أي تدخلات أو تطورات إضافية، فسيبلغ 10 آلاف مليار ليرة رغم المتأخرات المكتومة، ورغم أن لبنان متوقف عن سداد ديونه بالعملة الأجنبية التي تبلغ قيمتها 3300 مليار ليرة (2189 مليون دولار على أساس سعر صرف 1507.5 ليرات وسطياً مقابل الدولار الواحد).