مجلة وفاء wafaamagazine
ناجي س. البستاني
لم تنفع كلّ القرارات والإجراءات التي إتخذت وإعتمدت خلال الأسابيع القليلة الماضية في لجم سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانيّة، بل زادت سُرعة إنهيار قيمة العملة الوطنيّة، مع كلّ النتائج الكارثيّة المُترتّبة عن ذلك. فما هي الأسباب، وهل فعلاً سيتمّ اللجوء إلى بيع الذهب كخيار أخير لوقف هذا المنحى الكارثي؟!.
بحسب الخُبراء الإقتصاديّين إنّ الحُكومة الحالية إرتكبت سلسلة من الأخطاء التي ضاعفت من وقع الأزمة التي كانت تعمّقت أكثر بفعل أخطاء لا تقلّ فداحة إرتكبتها جمعيّة المصارف ومعهم مصرف لبنان! وأبرز هذه الأخطاء على مُستوى الحُكومة:
أوّلاً: إعتماد حُلول أمنيّة لمُشاكل إقتصاديّة-ماليّة، على غرار توقيف الصيارفة مثلاً، بحيث صار الهمّ مُعاقبة أشخاص يسعون إلى تحقيق الربح السريع على حساب المواطنين، بدلاً من مُعالجة المشاكل الفعليّة المُتراكمة. والأسوأ من هذا الخيار هو عدم الذهاب به إلى النهاية، بحيث تمّ إطلاق من جرى توقيفه بعد فترة زمنيّة قصيرة، من دون أيّ تبرير مُقنع لعمليّة التوقيف، ولا لعمليّة الإطلاق في ما بعد!.
ثانيًا: إستمرار الضياع الكامل على مُستوى طبيعة المُفاوضات مع صُندوق النقد الدَولي، بحيث أنّه بدلاً من توحيد المواقف والأرقام، يُفاوض لبنان من موقع ضعيف، في ظلّ ضربات مُتتالية يتلقّاها، على غرار الإستقالات المُتكرّرة لأعضاء من الوفد المُفاوض(1)، وفي ظلّ إشاعات كثيرة عن تعثّر هذه المُفاوضات، من دون تكذيب رسمي وحاسم لهذه الأخبار، الأمر الذي جعل التشاؤم يترسّخ أكثر في النُفوس وينعكس مزيدًا من البلبلة في الأسواق.
ثالثًا: إعتماد سياسة هروب إلى الأمام لمُواجهة التضخّم، لجهة تغطية ضخّ مصرف لبنان المزيد من الأموال بالعُملة الوطنيّة في السوق، بحيث إرتفعت الكتلة النقديّة بالليرة اللبنانيّة بنسبة تبلغ نحو 225 % بين تاريخ إنطلاق الإحتجاجات الشعبيّة في مُنتصف تشرين الأوّل من العام الماضي ومُنتصف حزيران الماضي، لتصل قيمتها إلى أكثر من أحد عشر مليار ليرة. وتسبّب هذا الأمر، والذي ترافق أيضًا مع رفعٍ مُتتالٍ لقيمة السُحوبات بالليرة من أموال المُودعين بالدولار الأميركي(2)، في تضخّم مرعب على مُستوى الأسعار في السوق، بحيث تقلّصت القُدرات الشرائيّة للأغلبيّة الساحقة من المُواطنين اللبنانيّين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة وليس بالدولار.
رابعًا: المُشكلة الأكبر بحسب الخُبراء، تتمثّل في وضع الحُكومة كل بيضاتها-إذا جاز التعبير، في سلّة واحدة، هي سلّة صندوق النقد الدَولي، بحيث أنّ مُجرّد الحديث عن عدم الحُصول على مُساعدات مالية قريبًا، يترك آثارًا مُدمّرة إقتصاديًا وماليًا، لأنّ الحُكومة لم تبدأ أيّ إصلاحات ميدانية حقيقيّة، بل إكتفت بالتعويل على ما سيُقدّمه المُجتمع الدَولي، بدلاً من الإنكباب على تنفيذ خطة لتضييق مزاريب الهدر، وللشروع في مُواجهة فساد الإدارة! وبالتالي، باتت كلّ الحُلول في حكم المُجمّدة في إنتظار ما ستؤول إليه المُفاوضات مع صُندوق النقد الدَولي.
وبالنسبة إلى ما يُمكن القيام به حاليًا، لمُحاولة وقف وتيرة التدهور المُتسارعة، يؤكّد الخُبراء الإقتصاديّون أنّ الممرّ الوحيد لهذا الأمر يتمثّل في إستعادة الثقة، فكل قرار أو إجراء يُوحي بها يُقدّمنا خطوة نحو الحلّ، والعكس صحيح. وسأل هؤلاء، كيف يُمكن إستعادة الثقة في ظلّ التخبّط الحاصل على مُستوى السياسة الحُكوميّة؟! وكيف يُمكن إستعادتها في ظلّ هذا الكمّ الهائل من الإشاعات التي بلغت حدًا لا يُطاق، تارة عند الحديث عن إحتمال إفلاس المصارف، وتارة أخرى عند الحديث عن إمكان بيع الذهب كخرطوشة أخيرة لتأمين السيُولة؟! ويؤكّد الخُبراء أنّ إستمرار غياب الثقة يعني إستمرار عدم إقدام أيّ مُواطن-ثريًا كان أم فقيرًا، على إيداع ليرة واحدة في المصارف! وفي السياق عينه، إنّ إستمرار غياب الثقة يعني أنّ أيّ أموال ستأتي إلى لبنان، ستتبخّر سريعًا، من جهة لتغطية مصاريف الدولة بعد تراجع وارداتها بشكل هائل، ومن جهة أخرى بفعل الطلب الكبير على العملات الأجنبيّة من قبل التُجار والمواطنين، إمّا لإستخدامها في الإستيراد أو حتى لتخزينها في المنازل بعد إنهيار الثقة بالعملة الوطنيّة! من هنا، إنّ بيع إحتياط لبنان من الذهب في هذا التوقيت، أكان بشكل جزئي أو كلّي، هو أمر مرفوض ولا يؤمن الثقة المَطلوبة على الإطلاق. فهذه الخُطوة يُمكن اللجوء إليها، بعد إطلاق سلسلة من التدابير الإصلاحيّة الفعليّة، وبعد سدّ مزاريب الهدر والفساد، وبعد الحُصول على أموال من صُندوق النقد الدَولي. عندها فقط يُصبح تسييل أو حتى رهن جزء من الذهب، مفيدًا لضخّ المزيد من الأموال بالعملات الصعبة في السوق.
في الخُلاصة، من غير المَسموح لأي شخص في موقع المسؤوليّة الحديث عن عدم قُدرته على إيجاد الحُلول للأزمة، لا لأّنّ صلاحيّاته لا تسمح بذلك، ولا لأنّ أحدًا من القوى السياسيّة الأخرى لم يؤازره، ولا لأنّ التعقيدات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة تمنع المُحاسبة، ولا لأيّ ذريعة أخرى! لأنّه بكل بساطة، إذا كانت هذه الحجج صحيحة، على المسؤول العاجز عن تحقيق أيّ خطوة إلى الأمام، الإستقالة فورًا، وعدم التمسّك بالسُلطة من أجل الكُرسي، بحيث يُصدّقه الرأي العام في أيّ إتهام يُوجّهه بالعرقلة أو بالفساد. وعلى الأشخاص في موقع المسؤوليّة عدم اللجوء إلى خيارات مُتهوّرة وغير مَدروسة، على غرار بيع الذهب، في ظلّ إنعدام الثقة الحاصل، وطالما أنّ أيّ خُطوة إصلاحيّة جدّية لم تُتخذ بعد، وأي خُطوة مُحاسبة فعليّة لم تتمّ بعد!.
النشرة