الـ«حزب» المُكوّن من القطاع المصرفي وعدد كبير من النواب والسياسيين، لا يُريدون أن تتحمّل خزينة البنك المركزي والمصارف التجارية خسائر الأزمة الحالية. عملهم يكمن في أن يتلقّى المجتمع، وتحديداً الطبقات الأكثر ضعفاً، وحده المصائب، حتّى ولو حاولوا التعمية باستخدام أدبيات لطيفة على نسق: «حماية المودعين». فالأساس اليوم في التجاذبات بين مختلف قوى السلطة يكمن في تحديد كيفية توزيع الخسائر، ومن سيتحمّل الجزء الأكبر منها. الاندماج شبه الكامل بين المصرفيين وقسم فاعل من البرلمانيين، لم يعد خافياً على أحد. تجلّى التعاون بين الاثنين في اجتماعات «لجنة تقصّي الحقائق» التي أنهت العمل على تقريرها «الاستقصائي» للأرقام الأسبوع الماضي. وأبرز ما ورد يومها، ويُعطي تفسيراً دقيقاً لعبارة «معركة توزيع الخسائر»، كان في حديث النائب ابراهيم كنعان عن القروض المُتعثّرة في القطاع المصرفي. قال يومها إنّه «تبيّن» وجود فارق بقيمة «26 ألف مليار ليرة بين ما تطرحه الحكومة وحقيقة أرقام القروض المتعثّرة»، فالخطة المالية الحكومية أشارت إلى وجود 40 ألف مليار ليرة من القروض المُتعثّرة، في حين أنّ اللجنة النيابية تبنّت الرقم الذي زوّدتها به المصارف، وهو 14 ألف مليار ليرة. الفارق الأساسي أنّ لجنتَي المال والموازنة، و«تقصّي الحقائق»، أدرجتا في الحسابات وجود الضمانات العقارية، التي على أساسها تُعطي المصارف القروض، وبالتالي يُمكن الاستفادة منها لتخفيف الخسائر، علماً بأنّه من غير الواضح، كيف تمكّنت المصارف من احتساب قيمة هذه الضمانات، وعرفت كم ستستفيد منها، فيما تشير تقديرات كثيرة إلى أنّ قيمة هذه الضمانات تراجعت مع انهيار سعر صرف الليرة، والسوق لا يُحرّكه سوى الأشخاص الذين يشترون العقارات لـ«يُهرّبوا» أموالهم عبر الدفع بالشيكات.

الضمانة هي ما تحجز عليه المصارف، لقاء الموافقة على إعطاء الزبون قرضاً. الإعلانات عن مزاد علني، ووضع إشارة قضائية على عقارٍ، وإقفال مصنع… كانت تملأ وسائل الإعلام، في كلّ مرة كانت المصارف تُريد فيها تنفيذ العقد الموقّع بينها وبين المُقترض، الذي قد تدفعه أسباب متنوعة إلى أن يتخلّف عن تسديد مستحقات الدين. منذ سنوات، والمصارف التجارية اللبنانية لا تُمارس دورها في تفعيل الاقتصاد ودعم القطاعات المُنتجة. تحوّلت إلى ممارسة «المراباة»، بعد أن اكتشفت أنّها طريقة سهلة لجني الكثير من الأرباح بطريقة «شرّيرة»، ولا سيّما إقراضها «الدولة اللبنانية». فالأخيرة زبون مُفلس، غارقٌ في الديون والعجوزات، المنطق يفرض عدم الاستمرار في إقراضه. فلو كان من يطلب الاستدانة أحد المُزارعين المُحتاجين إلى تمويل مشروع زراعة التين، لما كانت المصارف ستُخاطر و«تدعمه». ولكن مع الدولة الأمر مُختلف. استمرت المصارف، عبر مصرف لبنان، في أخذ أموال المودعين واستخدامها لشراء سندات دين عام، لقاء فوائد مرتفعة كانت تُسجّل أرباحاً للمُساهمين في البنوك. وحين قرّرت «الدولة» تخفيف تبعيتها للدين العام، عبر اقتراح إعادة هيكلة 40% منه، ردّت المصارف بالدعوة إلى «مُصادرة» أملاك كلّ الشعب، فتتمكّن من تعويض خسائر «القلّة» المهيمنة. هذا ما ورد في الخطّة التي عرضتها جمعية المصارف، بأنّ على «الدولة أن تضع أصولاً من أراض تملكها، وشركتي الخلوي، وطيران الشرق الأوسط، وشركة انترا، وشركة كازينو لبنان، والمرافئ اللبنانية، ومطار بيروت، وسواها، في صندوق. وإيرادات هذا الصندوق ستغطّي الخسائر».
بالمنطق نفسه تُريد المصارف أن تتعامل مع التعثّر في قروض القطاع الخاص. فوضع اليد على الضمانات العقارية يعني زيادة بؤس الناس. من رهن بيتاً، سيجد نفسه مطروداً منه. سيارة شخصٍ ما، ستُنتزع منه لأنّه تخلّف عن تسديد السندات. عقارات عديدة ستبيعها المصارف في المزاد العلني، لأنّ أصحابها لم يُسدّدوا قروضهم. معامل ومؤسسات سيضطر أصحابها إلى الإقفال وطرد العمّال، لأنّ المصرف حجز على ممتلكاتها. كلّ ما رُهن في سبيل الحصول على قرض، ستضع المصارف يدها عليه لمحاولة تعويض الخسائر في محفظتها، فتُنجّي بذلك نفسها من دفع رساميلها لإطفاء الخسائر. تعاملت المصارف، واللجنة النيابية، مع هذا الموضوع من خلفية حسابية بحت، من دون إقامة أي اعتبار للمعايير الاجتماعية، تماماً كما فعلت منذ ما بعد تشرين الأول 2019 وأزمة «كورونا»، إذ لجأت إلى الحجز على أملاك مُتخلفين عن تسديد الفوائد على التسليفات، مُتحدّية قرارات الإعفاء مؤقتاً.