مجلة وفاء wafaamagazine
جورج عبيد
سأتجاوز إهانة النائب بيار أبو عاصي بحقّ رئيس يحمل في فؤاده وعقله قيم المحبة والسلام والرقيّ لأقول له الإناء ينضح بما فيه، ومن ثمارهم تعرفونهم، لأنطلق إلى جريمة رهيبة حدثت في كفتون ليلة أول من أمس ضحاياها ثلاث شباب من خيرة أبناء القرية الوادعة في ناحية القويطع-الكورة.
ربطتني بقرية كفتون علاقة روحية-جماليّة وبعائلاتها علاقة وَجْدِيّة راقية. أقبلت إليها من تاريخ مبارك جمع عائلتي بالمرحوم الأديب جورج كنعان وولده العميد موسى وقد كان وزيرًا سابقًا في عهد الرئيس سليمان فرنجيّة، من دون أن أنسى آل فارس وسركيس وآخرين. ثمّ أقبلت إليها من خلال رفقتي الرائعة والحلوة للحبيب المطران جورج خضر، نمرّ بين بيوتها التراثيّة العابقة بالتاريخ إلى أن نبلغ دير السيدة المحفور على صخرة الإيمان والمستكين على نهر، كأنه نهر ماء الحياة صافيًا كالبلور يعكس على الأرض شعاعًا سماويًّا منهمرًا من فوق.
عاصرت الكثير فيها من أترابي في انشدادنا نحو الإيمان المستقيم. كنّا مأخوذين إلى الرؤى المتجليّة من رحم حركة انسكبت نهضة أعادت إلى التاريخ بهاء المسيح. ليست كفتون منفصلة إطلاقًا عن هذا البهاء بل كتبته بمداد الروح ورسّخته بامتداد فكريّ ومناقبيّ متصاعد في مدى المشرق العزيز.
كفتون الحبيبة اغتسلت بدم ثلاثة شباب أبرار، ذنبهم الوحيد أنهم واجهوا الإرهاب بما امتلكت أياديهم فانقضّ عليهم وحوش-ذئاب. إنها مواجهة بين جمال وجوه ساطع بالحق وقباحة ذئبيّة عوت فجأة في ليل كفتون لتصحو صباحًا على صوت جرس كنيسة القديس فوقا يقرع حزنًا. “ذهب الذين تحبهم ذهبوا”، كما قال الشاعر الراحل محمود درويش. ذهبوا إلى مجد الصليب، ودماؤهم المنهمرة على الأرض امتداد لدماء شهداء بيروت، بل امتداد لدماء الناصريّ، وقد شهدنا من خلالها أروع قصة حبّ وجوديّة هائللة.
أمّا وقد استشهد هؤلاء الأحبّة الطيبون، فإننا بدورنا لا بدّ من الإضاءة على هذا الحدث الخطير بالتقييم والمعايير والمعاني.
خطورة الجريمة، أنها تمّت داخل قرية وادعة لم يكن لها يومًا دخل في الأحداث اللبنانيّة، وأهلها معروفون بانتماءاتهم ولم تكن يومًا حروفيّة بالمعنى الضيّق للكلام. وتمّت كما بيّن بعضهم أثناء عشاء عائليّ لنديم الجميل في قرية كفرحاتا الواقعة قبل كفتون والملاصقة لها. ليس من معلومات واضحة حول ما إذا كان نديم مستهدفًا أو لا. وفي غالب الظنّ ليس من شبهات أو دلائل أو معطيات تشير بأنّ نديم شخصيّة مستهدفة، فهو ليس من اللاعبين الكبار إلاّ إذا كان المقصد إشعال فتنة في الكورة الخضراء ما بين القوميين السوريين من جهة والكتائبيين-القواتيين من جهة أخرى فيصار إلى تشتيت الوجود المسيحيّ في الكورة صعودًا نحو إهدن وبشري وجنوبًا نحو البترون وصولاً إلى المتن الشماليّ، وهذا مستبعد بحسب رأي بعض المعنيين.
منذ تشرين الثاني الماضي، أي بعد شهر من ثورة 17 تشرين الأوّل، وردت معلومات دقيقة أفادت بأن جهازًا أمنيًّا تركيًّا تابعًا للرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان، قد رسّخ نشاطه بقوّة وثبات ما بين طرابلس والضنيّة وعكار، انطلق هذا الجهاز بعمله بتمويل قطريّ (قيل بأنّ النشاط عبّر عن صراع ما بين الأتراك والقطريين من جهة والسعوديين-الإماراتيين من جهة أخرى)، وتسهيل جهاز أمنيّ لبنانيّ أقلّه من باب غضّ الطرف عن السلاح الذي كان يؤتى بها عن طريق البحر، ومن ثمّ يمرّر خلسة عن طريق سريّ رابط بين عكار وحمص، ومن هناك إلى إدلب، وربما لإيقاظ حركات نائمة في محافظة حمص.
ما هو ثابت بأن الحركات التكفيريّة في طرابلس وعكار والضنيّة قد أوقظت وعاد ظهورها من جديد يطغى بقوّة على الساحة اللبنانيّة، وقد بدأ تأثيرها يظهر في الشمال مع تجنيس أكثر من خمسة آلاف لبنانيّ بإعطائهم الجنسية التركية ومساعدة الفقراء ماليًّا وبناء المدارس وإنشائها لهم. الأتراك في الشمال متوغلون لمن لا يريد أن يرى ويبصر ويدرك، وتقول معلومات مراقبة بأنهم غير أبرياء من انفجار بيروت الرهيب لا سيّما بوجود الأمونيوم في المرفأ. الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون عرف ذلك، ويملك معلومات عن مصادر الأمونيوم ومعنى التفجير، ولذلك حضر توًّا إلى بيروت وأوعز إلى البوارج الفرنسيّة الحربيّة للرسوّ قبالة الشواطئ اللبنانيّة لقطع الطريق على التوغّل التركيّ في المدى اللبنانيّ.
من هنا لا بدّ من الاعتراف بأن شمال لبنان بأسره وبعد جريمة كفتون بات تحت الخطر الشديد. تلك الجريمة عبّرت عن ذروة الخطر، باستهداف قرية مسيحيّة-أرثوذكسيّة على وجه التحديد فيها دير عريق هو دير السيدة. السؤال المطروح والمفترض أن تتمّ الإجابة عليه، هل ننتظر جريمة ثالثة بعد بيروت وكفتون لنستفيق من نوم أهل الكهف، هل نحن مضطرون وبسبب من الرخاء الأمنيّ المريب، لكي نحمل أكفاننا على أكفّنا، ونمضي من موت إلى موت، أو حيث لا نشاء، وكما قال المطران الياس عودة خلال رثائه للمثلّث الرحمات الأرشمندريت نقولا بدوي الذي استشهد سنة 1988 في بيروت؟
السلطات السياسية والقضائيّة والأمنيّة أمام امتحان كبير بعد جريمة كفتون. لقد بات لبنان تحت الاستهداف التركيّ-القطريّ-التكفيريّ من جديد بوجه التواجد الفرنسيّ، والتقارب الفرنسيّ-الإيرانيّ-الروسيّ. لبنان في وسط تغيير قواعد اللعبة وخلط أوراق وعلى مفترق تسويات واضحة ستفضي وكما قال رئيس التيار الوطنيّ الحرّ المهندس جبران باسيل إلى تسوية أميركيّة-إيرانيّة. السؤال المطروح على تلك السلطات هل نقبع في محطات الانتظار فتبدو محطّة التهاب ينتظم ضمن دائرة تتكدّس في جوفها مجموعة صراعات هي التالية: التركيّ-الفرنسيّ، والتركيّ-السوريّ، والتركيّ المصريّ-السعوديّ، والأميركيّ-الإيرانيّ؟ أننتظر مجموعة جرائم تحدث في الشمال وبيروت والبقاع فنبدو مجموعة بكّائين على ضحايا بريئة نفقدها في لعبة صراع الأممة والدول، أو نحسم ونحزم أمرنا ونعزّز موقع الجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة ضمن مفهوم لبننة الحسم، ونعدّ الخطّة للقضاء على الخلايا المتحرّكة في الشمال أو هنا وثمّة؟
قد يقول قائل بأنّ اللبنانيين يتحركون بالضوء الأخضر الفرنسيّ. غير أن السؤال المطروح، وبشدّة، هل مصلحة لبنان تكمن في الانتظار، أو في الاقتحام؟ وإذا كان من تلاق أو عدم تلاق لبنانيّ-فرنسيّ في تقييم المنظومة التركيّة الراسية في الشمال اللبنانيّ، وبعض من البقاع الأوسط، فلا يمكن البتّة غضّ الطرف عن توسّع النشاطات التركيّة بالمنظومة التكفيريّة في الشمال وتركها تتحوّل إلى آلة موت تقضّ مضجع اللبنانيين وتهدّدهم في حياتهم، وتهدّد الكيان اللبنانيّ برمته.
من هنا تشير بعض الأوساط بضرورة أن يقوم فخامة الرئيس ميشال عون بدعوة المجلس الأعلى للدفاع للانعقاد بالإضافة إلى مجلس الوزراء وإن كانعت في الحكومة في فترة تصريف الأعمال وتحويل مجزرة كفتون الرهيبة إلى المجلس العدليّ، وربّما إعلان حالة الطوارئ في الشمال لقمع تلك الحركات التكفيريّة بقوّة وشدّة، وقبل ذلك إلقاء القبض على منفّذي تلك الجريمة والكشف عن داعميهم ومشغليهم ومحركيهم.
رحم الله شهداء كفتون وبيروت الأبرار، والتعزية إلى اهلنا في تلك القرية الحبيبة، عسى الرب يمنّ عليهم صبرًا جليلاً، والدعاء أن يكفكف دموعهم. لعلهم إذا ما نظروا إلى أيقونة المصلوب أدركوا بأنه حمل عاهاتنا وأوجاعنا. والرجاء به بأنّ القيامة آتية لا محالة
التيار