مجلة وفاء wafaamagazine
حذرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، أخيراً، من أن 640 من حوالى 1050 من الأبنية المصنفة تراثية قد تضرّرت جراء انفجار مرفأ بيروت في الرابع من الشهر الجاري، خصوصاً في أحياء الجميزة ومار مخايل القديمة. ولفتت الى 60 من المباني المتضررة معرّضة للانهيار، ناهيك عن أضرار لحقت بمتاحف عدة كالمتحف الوطني ومتحف سرسق ومتحف الجامعة الأميركية في بيروت ومواقع ثقافية ودينية.
منذ عام 1975، تتعرّض بيروت لمسلسل تدمير ممنهج تارة وتجاري تارة اخرى، استغلالا لحروب داخلية وخارجية ساهمت في محو هويتها وذاكرتها المعمارية والحضرية وتراثها الشعبي والتاريخي، وفق مراحل متتالية:
– المرحلة الأولى (التخريب الداخلي) بدأت مع بداية الحرب الأهلية، عندما تحوّل قلب المدينة امتدادا الى طريق الشام ووصولاً الى المتحف الوطني، خط تماس بين الاطراف المتقاتلة في معارك شوّهت المباني ودمرت الأسواق وألغتها من يوميات المدينة التي كانت تعج بالحركة المنتجة.
– الحلقة الثانية (التدمير الخارجي) بدأت عام 1982 مع الإجتياح الإسرائيلي الذي دمّر معالم بيروتية كثيرة (المدينة الرياضية مثلاً)، وزاد في تهشيم وجه المدينة وأحيائها بالقصف والتدمير خصوصاً في المناطق الغربية من العاصمة والضاحية الجنوبية .
– الحلقة الثالثة (التجارة والإستثمار) بدأت بعد اتفاق الطائف وبدء مرحلة «اعادة الاعمار» (عام 1992 التي تولاها الرئيس رفيق الحريري عبر شركة «سوليدير». في هذه المرحلة، استُكمل هدم ما خرّبته الحرب الاهلية والاجتياح الإسرائيلي وأبيد قلب العاصمة ومبانيها التراثية حتى صار وسط بيروت والاسواق وساحة الشهداء تعرف باسمها التجاري، «سوليدير»، في الغاء كامل لهوية المدينة. وفي هذه المرحلة، أيضاً، تمت اكبر عملية تهجير للتجار والأسواق والذاكرة وتغيير ديموغرافي وتصنيف طبقي ومهني، ولم يبق من قلب المدينة اثر يذكر الا بعض الكنائس و«البيضة» و«التياترو»، ومبان قليلة في شارع المصارف والشوارع المحيطة، وصار قلب المدينة صامتا بلا حركة، تسكنه الابراج الزجاجية الهشّة، ويتجول فيه الغرباء والسياح، بلا مواطنين او مقيمين الا كعابرين مسرعين في سياراتهم. تحوّل قلب بيروت مدينة نهارية يسكنها الصمت والوحشة والأضواء المتسللة من النوافذ المغلقة لأبنية بلا شرفات!
– الحلقة الرابعة (الاستثمار العقاري) استمرّت منذ عام 1992 حتى الآن عبر قضم الأبنية المصنفة تراثية وهدمها. وقد لجأ المستثمرون العقاريون الى التحايل والخداع ومخالفة القوانين عبر الهدم البطيء او التخريب الممنهج لهذه الأبنية ما أدى الى تناقصها الى نحو 1200 مبنى في كل بيروت، ولايزال الهدم «السري» مستمراً!
– الحلقة الخامسة (انفجار المرفأ) بدأت في 4 آب 2020 مع إلحاق الانفجار أضراراً جسيمة بالأحياء القديمة المحيطة بالمرفأ، في الجميزة ومارمخايل وخندق الغميق وزقاق البلاط والباشورة، وصولا الى كل احياء بيروت وأصاب نحو نصف المباني التراثية المتبقية بأضرار بنيوية وشاملة تهدد بقاء بعضها، في اكبر عملية تدمير لحظوية وشاملة. الا ان الأسوأ مبادرة المستثمرين العقاريين لاستغلال اللحظة بشكل متوحش لشراء المباني مستغلين حالة الصدمة وحاجة اصحاب العقارات والمنازل للأموال نتيجة خسارتهم، وغياب الرقابة الرسمية والمدنية، للإجهاز على ما تبقى من أبنية تراثية سواء كانت قابلة للترميم ام لا، مما يستدعي تحرّكا عاجلا لحماية هذه الأبنية من الهدم وحفظ ما امكن من هوية المدينة المعمارية وذاكرتها التاريخية.
حفظ الهوية المعمارية والتاريخية للعاصمة واجب وطني وانساني، ولا بد من التعامل معه على انه جزء من التراث العالمي، ما يستوجب حفظه في هذه المرحلة التي يتعرض فيه ارثنا الحضاري، وخصوصاً المعماري، للهدم والإبادة الممنهجة كما حصل في سرقة الكنوز الأثرية في سوريا والعراق. ولأن المستثمرين يسابقون الوقت للهدم في لحظة الانشغال السياسي والإغاثي، المطلوب، من دون تأخير، تعيين حرّاس من البلدية ووزارة الثقافة ومتطوعين من المجتمع المدني لحماية الأبنية المتضررة من الهدم المفتعل، وتوثيق المباني المتضررة بالصور والأفلام والتقارير منعا للتحايل، والمسارعة الى تدعيم المباني الاكثر تضررا وترميمها قبل انهيارها خصوصاً على مشارف فصل الشتاء، واصدار قرار يتبنى اعادة ترميم المباني التراثية على نفقة الدولة والتواصل مع اليونسكو والمؤسسات الدولية لتأمين الدعم، وتكليف نقابة المهندسين مع الجهات المختصة والجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة وضع دراسات هندسية وفنية للحفاظ على المشهد المديني العام الذي دمره الانفجار، وانتاج افلام وثائقية عن المشهد الحالي للتأريخ والأرشفة والذاكرة والإستعانة بها عند الترميم. وأخيراً، دعوة الفنانين والرسامين الى رسم المشهد الطبيعي في مواقع الانفجار لتأسيس معرض عن الكارثة الحضرية التي اصابت لبنان، حتى لا تبقى بيروت مدينة من زجاج، معرّضة لأن تتهشم كل يوم!
الاخبار