مجلة وفاء wafaamagazine
قلّما كانت بريطانيا بحاجة ماسّة إلى رئيس وزراء ذي مهارات قيادية، كما هي اليوم، بينما تواجه تحدّيات وجودية ليس أقلّها إدارة العلاقة بالاتحاد الأوروبي بعد “بريكست”، والتعامل مع تفاعلات تفشّي “كورونا”. بوريس جونسون ليس بالتأكيد تلك الشخصية، بعدما تراكم فشله إلى درجة ترقى قانونياً إلى مستوى “جرائم دولة”، وهو ما دفع تياراً داخل “المحافظين” إلى التفكير بالتمرّد عليه
لندن | لا يكاد يختلف اثنان في بريطانيا على أن أداء الحكومة الحالية التي شكّلها حزب المحافظين الحاكم منفرداً (تموز/ يوليو من العام الماضي) يمثّل مستوى قياسيّاً من الرداءة، غير مسبوق في تاريخ الحكومات البريطانية المتعاقبة. ومن الجليّ أن بوريس جونسون – الرئيس الحالي للمحافظين -، وبعد سنة من تولّيه رئاسة الوزراء، لا يمتلك الكفاءة السياسية، ولا القدرة الفنية على تولّي المنصب التنفيذي الأهمّ في المملكة المتحدة، عدا عن الإفلاس الأخلاقي والقانوني والدبلوماسي الذي يميّز مختلف سياساته عالمياً (ملف العلاقة مع الاتحاد الأوروبي) ومحلياً (تبعات الانتشار الوبائي لفيروس كورونا)، وكذلك تعريضه سمعة القضاء البريطاني (المزعومة) لتراجع حادّ، من خلال احتجاز جوليان أسانج، مؤسّس “ويكيليكس”، في ظروف تعسّفية، وقبول النظر في طلب استرداد له قدّمته الولايات المتحدة، الجادّة في تغييب الرجل وفق قائمة اتهام طويلة. وهذه جميعها ملفّات حاسمة، لها أبعاد راهنة ومستقبلية واسعة النطاق، ربّما يمتدّ تأثير القرارات المتخذة في شأنها اليوم إلى عدّة أجيال قادمة، ولا سيما أن الحكومة الحالية كانت قد تسلّمت اقتصاد المملكة وناسها منهكون من جرّاء سياسات التقشّف التي نفّذتها حكومات المحافظين المتعاقبة منذ الأزمة المالية العالمية (2008)، ويستمرّ جونسون وحاشيته في التخبّط في التعامل معها، إلى درجة استدعت إعراب الأمم المتحدة عن قلقها عدّة مرّات، وتهكّم الفرقاء الأوروبيين، وحنق بروكسل (برلين – باريس تحديداً)، بل وتشكيل لجان للتحقيق في أداء الحكومة من قِبَل مجلس العموم (النواب)، وتوفّر أرضية قانونية – وفق خبراء وأكاديميين – لتوجيه تهم للحكومة بارتكاب ما قد يرقى إلى مستوى “جرائم دولة” وانتهاكات بالجملة لحقوق الإنسان.
وإذا كان تهديد جونسون للاتحاد الأوروبي بالخروج مع نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المقبل باتفاق أو من دونه استخفافاً علنياً بالقانون الدولي واتفاقيات الاتحاد الأوروبي، يجعل من المحتّم توجّه اسكتلندا إلى الاستقلال وإيرلندا الشمالية إلى الالتحاق بالجمهورية الأمّ في دبلن، فإن الأمر لا يزال في إطار التهديد الذي يمكن بشكل أو بآخر التراجع عنه، واعتباره مجرّد تكتيك تفاوضي فجّ اعتاده الاوروبيّون من “مهرّج” لندن – كما تسمّيه الصحافة الألمانية -. إلا أن إدارة الحكومة المتفلّتة لوباء “كوفيد – 19” تَسبّبت بالفعل بخسارة فادحة، سواء في الأرواح (42000 على الأقلّ، وهي الأعلى إلى الآن في جميع دول الاتحاد الأوروبي) أو الاقتصاد (انكماش بمعدّل 21% في النصف الأول من العام الحالي)، وفوق ذلك كلّه فقدان النظام البريطاني بمجمله لثقة المواطنين وتعرّضه لصفعات متكرّرة من المجتمع الأهلي (ولا سيّما في مجال التعليم، وتصحيح الامتحانات، وتنفيذ تعليمات الحكومة في شأن السلوك في التجمّعات العامة)، وذلك مع إصرار الحزب الحاكم على المخاطرة بحياة السكان لأجل استعادة دورة الاقتصاد والاستهلاك والتشغيل من دون توفّر خطط أو معدّات أو بنية تحتية صحية أو كوادر كافية.
إدارة الحكومة المتفلّتة لوباء “كوفيد – 19” تَسبّبت بالفعل بخسارة فادحة
وكان سوء الإدارة المتعلّق بـ”كوفيد – 19″ قد بدأ مبكراً، بعدما أبلغت “منظمة الصحة العالمية” أعضاءها بانتقال المرض إلى مستوى الوباء في كانون الثاني/ يناير الماضي، حيث تَلكّأت السلطات البريطانية في فرض الإغلاق، وأُبقيت المدارس والجامعات والمرافق العامة مفتوحة لغاية نهاية آذار/ مارس الماضي، الأمر الذي تَسبّب بانتشار جنوني للمرض، قضى على عدّة آلاف من المواطنين، وهي أرواح كان يمكن تجنيبها ذلك المصير لو اتُّخذ قرار الإغلاق مبكراً – كما في الصين (أقلّ من 4000)، وتايوان (6 وفيات) مثلاً -. وقد تبنّت الحكومة، وقتها، استراتيجية تُسمّى “مناعة القطيع”، من دون أن تتوفر لها معطيات علمية كافية عن طبيعة الفيروس المُسبّب للمرض، ومن دون أن تُهيّئ أدوات الحماية الشخصية للعاملين في القطاع الطبّي والقطاعات الحيوية الأخرى كالشرطة والنقل العام ومتاجر الأغذية والصيدليات، وفي ظلّ امتناعها عن توفير عدد كافٍ من أجهزة التنفّس اللازمة لغرف العناية الفائقة أو معدّات الفحص. وهي لاحقاً أخفت الحقائق في ما يتعلّق بأعداد الوفيات، متجاهلةً كارثة ألمّت بآلاف العجزة من نزلاء دور الرعاية الذين فتك بهم المرض، ولم تُضِف أرقام ضحايا تلك الدور إلى الرقم العام، ما منح السكان شعوراً مزيّفاً بمدى خطورة الجائحة. كذلك، لم تتّخذ أيّ إجراءات فاعلة للتعامل مع الانتشار الطبقي للمرض بين الفقراء والأقلّيات الدينية والعرقية (4 أضعاف ذوي البشرة البيضاء الأكثر ثراءً وتعليماً على العموم).
وعلى رغم تحذيرات العلماء والقائمين على التربية والتعليم من خطورة استئناف الدراسة على نحو اعتيادي مع بداية أيلول/ سبتمبر الحالي، فإن جونسون أصرّ على موقفه، الأمر الذي تَسبّب الآن في تصاعد متسارع في أعداد الإصابات (بحدود 4000 إصابة يومياً بعدما كانت قد هبطت بعد الإغلاق الأول إلى مستوى 200 حالة يومياً فقط) في ما وصفته الحكومة بالموجة الثانية من “كوفيد – 19”. ويكاد جونسون يكرّر خطأ تأجيل الإغلاق مرّة أخرى هذا الأسبوع، إذ أعلنت حكومته أنها ستكتفي في مواجهتها الموجة الثانية بإغلاقات محلية للمدن والبلدات، والاكتفاء بفرض عقوبات باهظة على مَن يلقى القبض عليهم في حالة مخالفة لأحكام تباعد اجتماعي تفرضها الحكومة (10 آلاف إسترليني)، مع توجّه لرشو المواطنين إن هم أَبلغوا عن مخالفات جيرانهم وزملائهم. ويأتي ذلك في الوقت الذي تستعدّ فيه الطبقة العاملة لليوم التالي لانتهاء حزمة المساعدات الاجتماعية والحماية المؤقتة من البطالة والإخلاء التعسّفي من المساكن المستأجرة، وهي حزمة ترفض الحكومة تجديدها، ما يهدّد بدفع عدة ملايين من المواطنين إلى التشرّد في الطرقات وإغراق النظام القضائي بالدعاوى.
ووفق خبراء قانونيين وأكاديميين نُشرت مقالاتهم في مجلات ومواقع أكاديمية مرموقة (انظر مثلاً موقع المبادرة العالمية حول جرائم الدول ISCI)، فإن سوء إدارة الكوارث الطبيعية يمكن معاملته كما جرائم التعذيب والإبادة والحرب، أي “جرائم دولة”، قد تُعرّض النظام وكوادره للعقوبات والملاحقة. مع ذلك، فإن جونسون – أقلّه إلى الآن – يبدو في حماية حديدية من العزل، نظراً إلى تمتّع حزبه بالأغلبية البرلمانية لدورة انتخابية ستستمرّ لأكثر من أربع سنوات قادمة – وهو حزب معروف بتقديمه مصالح النخبة على المصالح العامة -، وخضوع القضاء البريطاني والصحافة بأكملها لهيمنة الجناح التنفيذي للسلطة، كما انعدام وزن المعارضة، ولا سيّما حزب العمال الذي انحرف بشكل حادّ نحو اليمين بعد خسارته الانتخابات الأخيرة في عهد رئيسه اليساري السابق جيريمي كوربن، وغياب تمثيل حقيقي للطبقة العاملة يمكن أن يتحدّى الحكومة في المحاكم الدولية.
ولعلّ الفرصة الوحيدة التي يعوَّل عليها الآن للتخلّص من شخص جونسون – دون حاشيته -، هي تلك الأنباء عن توسّع أعداد المشتركين في “مؤامرة داخلية” بين كوادر الحزب الحاكم، تحاول الاستفادة من “بهلوانيّات” الرئيس لإطاحته، وتصعيد رئيس (محافظ) بديل يكمل ما تبقى من الفترة الانتخابية. وعلى الأغلب، فإن هؤلاء لن يتحرّكوا قبل نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، لترك جونسون يراكم مزيداً من الأخطاء في إدارة ملف “بريكست”، وكذلك لتبيّن نتائج موجة “كوفيد – 19” الثانية.
الاخبار