الرئيسية / سياسة / نهاية الدعم: لماذا لا يحرّر مصرف لبنان مليارات الاحتياطي الإلزامي؟

نهاية الدعم: لماذا لا يحرّر مصرف لبنان مليارات الاحتياطي الإلزامي؟

مجلة وفاء wafaamagazine 

تخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي إلى الـ10% يُحرّر ما بين 7 و8 مليارات دولار

مصرف لبنان لم يدعم سكان لبنان «من جيبته»، فما يحمله من دولارات هو أموال للمودعين استُخدمت لأغراض شتى، بينها دعم أسعار بعض السلع بصورة عشوائية، غير مُرتبطة بأي استراتيجية اجتماعية بعيدة المدى لتعود بالفائدة على المجتمع ككلّ. هل بالإمكان استمرار الدعم بشكله الحالي؟

أموال مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، التي يُشار إليها باسم «حساب الاحتياطي»، لم تُبَدَّد على دعم المازوت والبنزين والدواء والسلّة الغذائية، ببساطة لأنّها ليست مُلكاً له حتّى يدّعي «فقدانها». هي «موجودات» أُلزمت المصارف التجارية بإيداعها لديه، لقاء فائدة سنوية تُقدّر بنحو 600 مليون دولار.

70.18 % من مطلوبات مصرف لبنان، تعود إلى القطاع المصرفي، بحسب آخر أرقام نشرة «بلوم بنك انفست». الرقم ضخم، ويُشكّل عامل إدانة لمصارف لم تحترم أبسط القواعد المالية: تنويع الاستثمارات حتى لا تُعرّض كلّ أموال المودعين للخطر. خالفت القاعدة، ووضعت أموال الناس في فم التنين، حتّى صُرفت بـ«خُبث»، ولم يتبقَّ منها إلا قرابة الـ17.5 مليار دولار، على ذمّة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة. ويدّعي الأخير أنّه لا يُمكنه المسّ بما بقي في عهدته، «لأنّها أموال المودعين»، زاعماً أنّه لا يملك سوى مبلغ يتراوح بين 2 و3 مليارات دولار قادر على أن يتصرّف به لتمويل الاحتياجات الرئيسية.
توظيفات المصارف لدى «المركزي»، بالعملات الاجنبية، «بلغت 70 مليار دولار. وهي، كالاحتياطيات الإلزامية، ملك الناس. فكيف تمكّن من تبديد 53 مليار دولار، والآن يظهر أنّه ضنين على أموال المودعين؟»، يسأل الاقتصادي إيلي يشوعي. ويُضيف أنّ «الاحتياطي الإلزامي يُمثّل 15% من الودائع لدى المصارف، لا مانع من أن يأخذ مصرف لبنان قراراً بخفضه إلى الـ10% فيكون قد حرّر ما بين الـ7 و8 مليارات دولار، خاصة أنّ النسبة العالمية تراوح ما بين 2% و5%. ولكن في لبنان رفع مصرف لبنان من نسبة الاحتياطي الالزامي حتى تبقى الفوائد مرتفعة».
يوم الجمعة، قال رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب، إنّ «الخسائر باستمرار الدعم أقل خسارة من رفع الدعم، وحبذا لو أوقف مصرف لبنان تمويل سياسات الهدر من أموال المودعين». كلامه الرافض لرفع الدعم، سبقه اجتماع في السراي «ساده جوّ سيّّئ بين دياب وسلامة»، بحسب مُطلعين على فحواه، «لإصرار دياب على أنّه يُمكن الاستمرار في الدفع». لا يُلام رئيس الحكومة المُستقيل، فسلامة هو الذي أبلغه في شباط الماضي حين كان يُدافع عن ضرورة دفع استحقاقات آذار من سندات الدين بالعملات الأجنبية «يوروبوندز»، أنّه يُمكن صرف كلّ ليرة في «الاحتياطي الإلزامي»، قبل أن يُغيّر رأيه في آب ويُحذّر من أنّ المبلغ لا يكفي أكثر من ثلاثة أشهر.

ولكن تلطّي سلامة خلف حُجّة «الاحتياطي» مردّه إلى عدم سحب بساط الأمان من تحت المصارف. يقول مُقرّبون منه إنّه «يُحافظ على الاحتياطي الإلزامي حتى تبقى حسابات المصارف لدى مصارف المراسلة قائمة ولا يُشكّل صرف المبلغ مشاكل لها في الخارج»، ويُضيفون أنّه «لا يُمكن صرف المبلغ من دون ترافقه مع إصلاحات أو اتفاق سياسي». شُكّلت لجنة تضم الوزراء زينة عكر وغازي وزني وراوول نعمة وريمون غجر لتبحث مع سلامة في الدعم، قبل أن ترفع خلاصة نقاشاتها إلى رئاسة الجمهورية ويُعقد اجتماع مالي. الاتجاه هو لـ«ترشيد الدعم»، وقد طلب «المركزي» من وزارات الاقتصاد والطاقة والصحة تقديم سيناريوات عديدة في حال رُفع الدعم أو خُفّض.

«الدعم» هو كُرة النار التي تتقاذفها كلّ القوى السياسية والمسؤولين النقديين حالياً، بعد أن وصل النموذج المعتمد إلى حافّة النهاية. هو في الأساس قرارٌ سياسي ولا يُمكن حصره بالأرقام والنظريات الاقتصادية: ماذا تُريد الدولة أن تفعل؟ هل ستُقرّ استراتيجية حماية اجتماعية تُوفّر الحقوق الأساسية للسكان وتُغني عن مُساعدات محدودة ومهدورة؟ النقاش على المستوى الرسمي لا يلتفت إلى هذا الإطار، فيُترك الأمر ليتحكّم فيه مصرف لبنان الذي لا يقيم أي اعتبار لشيء بعيداً عن ورقة الأرباح والخسائر. فموقف دياب المؤيّد لاستمرار الدعم أساسه «عدم رغبته في أن يُبتّ إلغاؤه خلال وجوده في السراي»، بحسب المصادر المُطلعة، مثله مثل باقي الوزارات المعنية، الرافضة لتبنّي أي موقف ما لم يصدر عن مجلس الوزراء مُجتمعاً. مثلاً وزير الطاقة ريمون غجر أبلغ «المركزي» حين سُئل عن «السعر المُناسب» لصفيحة البنزين أنّ «الوزارة لا تُحدّد سعراً مناسباً، فالدعم قرار سياسي ونحن نُنفذ قرارات مجلس الوزراء». حتّى سلامة أبلغ المسؤولين السياسيين أنّ «هذا القرار لا أستطيع اتخاذه، ولكن أُبلغكم أنني لم أعد قادراً على الدعم».

من يحلّ هذه المعضلة؟ الأكيد أنّ رفع الدعم من دون خطّة مواكبة «له سلبيات واضحة، ويُمثّل كارثة كبيرة اجتماعياَ. البنية الاجتماعية ستتغيّر بشكل مُخيف»، يُخبر مدير المركز اللبناني للدراسات، سامي عطا الله. ويُضيف أنّ «الدعم في لبنان جزء من الحماية الاجتماعية وعامل أساسي لأفراد فقدوا وظائفهم وتدّنت قيمة رواتبهم وحُجزت أموالهم في المصارف». القلق من زيادة الاضطرابات الاجتماعية حاضر بشكل كبير لدى ممثلي «المجتمع الدولي» في لبنان. بعض الدول الأوروبية طلب إجراء دراسة تُحاكي «الأثر المباشر وغير المباشر لتوقّف الدعم»، ومؤسسات دولية غير حكومية تعاقدت مع أشخاص وظيفتهم مراقبة الحوادث الأمنية في المناطق المُصنّفة «شعبية».

لوقف الدعم آثار جانبية عنيفة، ولكن رفعه ليس المأساة بعينها إذا ترافق مع خطّة حكومية تحمي الطبقات الاجتماعية المُتضرّرة أثناء مرحلة الهبوط الحادّ. فاستمرار تقاسم هذا «الفتات» من دون أن يكون مُوجّهاً، لا يؤدّي إلى تحقيق المساواة وتوفير الخدمات الضرورية للجميع. أحد الخبراء الاقتصاديين يعتبر أنّه «لا يُمكن الدفاع عن الشكل الحالي من الدعم. لا بُدّ من التدرج في رفعه، مع تأمين الحدّ الأدنى من الحماية للأكثر فقراً وتصحيح فوري للأجور». من ناحيته، يعتبر سامي عطا الله إنّ «أكثر المستفيدين من الدعم هم الأغنياء القادرون على استهلاك كميات كبيرة من المواد المدعومة، والمحظيون الذين استفادوا مثلاً من الدعم على القروض السكنية. السؤال اليوم كيف يُمكن أن نُوجّه الدعم ليحصل عليه الأكثر حاجة إليه؟».

في السياق نفسه، يسأل أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت، ناصر ياسين: «لماذا من يملك سيارة مُميزة يشتري البنزين المدعوم مثل أي مواطن؟ يجب دعم القطاعات بطريقة ذكية، حتى لا يعود الدعم مُفيداً للمحتكرين والتجار والمُنتفعين». المؤسف، بالنسبة إلى ياسين، أنّه «منذ البداية، وبميزان مدفوعات سلبي (الأموال التي تدخل لبنان وتلك التي تخرج منه) كان واضحاً أن الدعم بشكله الحالي سيوصل إلى هذه النتيجة. كان لدينا قرابة سنة حتى تطرح الإدارة العامة البدائل، لكنها لم تُنجز شيئاً». يتحدّث بشكل خاص عن «دعم البدائل في الأدوية، وكسر احتكار الموزعين، ودعم النقل العام بالتزامن مع نزع الدعم عن المحروقات تدريجياً». نقد ياسين يطال أيضاً مجموعات الانتفاضة الشعبية «التي لم تخض نقاشاً في العمق وتطرح هذه الإشكالية والحلول لها».

هو يُحذّر من أنّه في ظلّ هذا الفراغ، «ستُفرض علينا سياسة الدعم الخاصة بالمؤسسات المالية الدولية، وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي قدّم قرضاً مُيسّراً لإعطاء 140 ألف ليرة شهرياً لـ112 ألف عائلة، في حين أنّ المطلوب سياسة اجتماعية بديلة». في مقابلة سابقة مع ملحق «رأس المال» في «الأخبار» (28 أيلول 2020)، قال الخبير الاقتصادي كمال حمدان إنّ «استهداف فئات بعينها لتخفيف وطأة العيش عنها ممكنٌ عندما تكون بؤر هذه الفئات تمثّل 10% أو 15% من السكان، لكن عندما ترتفع إلى 50% و55% وقد تبلغ 70% مع مفاعيل رفع الدعم، فالمفاضلة للسياسات الاجتماعية، وهذا مشروط بحكومة مستقلة من خارج المنظومة وبصلاحيات تشريعية وبنظام ضريبي تصاعدي».
الحلّ السياسي حاضر في حديث إيلي يشوعي؛ فمن جهة «رفع الدعم سيُرتّب طبع نقد، سيُنتج ارتفاعاً جديداً في الأسعار، ولن يعود بمقدور أحد السيطرة على سعر الصرف»، ومن ناحية ثانية «لا نقدر على أن نقطع البلد من الدولارات». لذلك، هو يطرح «خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي، وتحرير بعض الدولارات، والذهاب مباشرةً نحو حلّ سياسي وتأليف حكومة في أسرع وقت».

نحو 3 مليارات فقط للدعم
منذ بداية العالم الحالي، حتى أيلول، انخفضت موجودات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية بقيمة 11.3 مليار دولار، 2.2 مليار دولار منها سُجّلت بين 15 أيلول و30 أيلول الماضي (راجع ملحق «رأس المال»، عدد يوم). أبرز «المُتهمين» باستنزاف العملة الصعبة، دعم المحروقات، الدواء، السلة الغذائية. في وزارة الاقتصاد، تبيّن أنّ السلع الغذائية المدعومة بسعر 3900 ليرة للدولار، بلغت كلفتها في أربعة أشهر قرابة 230 مليون دولار، وقد تقرّر خصم 40% من المواد المدعومة، سيطال معظمها مواد أولية لا غذائية. أما على صعيد الدواء، فقد بلغ الدعم منذ كانون الثاني حتى تموز 2020: 670 مليون دولار، مقسمة بين 80 مليون دولار مستلزمات طبية والباقي دواء وحليب أطفال ومواد أولية للصناعة الدوائية. الفاتورة الأكبر تُدفع على المشتقات النفطية: 1.5 مليار دولار للبنزين والديزل، و0.75 مليار دولار للكهرباء، منذ بداية العام حتى أيلول. أين ذهب باقي الأموال؟ بحسب مصادر مُطّلعة على عمل مصرف لبنان، «حين قال رياض سلامة إنّ الأزمة الحادة أصبحت وراءنا كان يقصد تخفيض مديونية المصارف في الخارج إلى حدود مليار ونصف مليار دولار، هي عبارة عن التزامات واستحقاقات».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأخبار