الثلاثاء 20 آب 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
أطلق القضاء سراح غالبية السماسرة الذين أوقفهم فرع المعلومات في ملف “مكافحة الفساد القضائي” الذي أدى إلى الاشتباه في تورط عشرات القضاة والمحامين والمساعدين القضائيين في ملفات فساد. “السماسرة” زعموا أن القضاة والمساعدين والمحامين المشتبه فيهم قبضوا رشى وتلقوا “هدايا” من مطلوبين للقضاء بجرائم مختلفة. بعد أشهر على فتح التحقيق، لم يبق أحدٌ موقوفاً بسببه. قرر القضاء “تحرير” السماسرة بضمانة منع السفر لا غير!
لا يُريد كثيرون من قوى السلطة مكافحة الفساد، كيف الحال في أكثر الأماكن حساسية في الدولة، أي الجسم القضائي؟ القيّمون على ملف مكافحة الفساد القضائي يستشعرون سعياً خفياً لوأده. حرج السلطة السياسية والقضائية لا يزال مكتوماً في التعامل مع هذا الملف، إذ إنّ أحداً لم يجرؤ على أن يعترض علانية على طريقة التعامل مع القضاة المشتبه فيهم.
وبعيداً عمّا يتردد عن إفراغ الملف أو فراغه، هل يكفي طرد القاضي من السلك أو الطلب منه تقديم استقالته إذا ثبت وقوع جرمٍ جزائي. أوليس التماس حامي العدالة لمنفعة مادية يُعدُّ جرماً جزائياً؟ لماذا لا يُسجن قاضٍ أسوةَ بالضباط والموظفين القضائيين؟ بل أكثر من ذلك، لماذا لا يقوى القانون إلا على القاضي الضعيف؟ تزدحم الأسئلة التي لا يبدو أن احداً سيجيب عنها قريباً، ليحضر صوت مرجعية سياسية تكشف لـ “الأخبار” أنّ “الملف انتهى وأنّه لن يكون أكثر ممّا كان”، مشيرة إلى أنّ “التوقيف سيقتصر على أولئك الذين أوقفوا، مرجّحة عودة أحد القضاة لاستئناف عمله”.
وتلفت هذه المرجعية إلى أنّ مسار الملف سيكون بطيئاً جداً ليُصبح طيّ النسيان رويداً رويداً. فقد خرَج معظم السماسرة القضائيين الذين أوقفوا في ملف فضيحة الفساد القضائي من السجن. لم يبقَ سوى ثلاثة موقوفين أساسيين من أصل أكثر من عشرة جرى توقيفهم على مراحل بجرم دفع رشى لقضاة ومحامين نقدية وعينية، ورغم أن سيف التوقيف لم يطل سوى السمسار المشتبه في أنه الراشي، من دون أن يقترب من القاضي المشتبه في كونه مرتشياً في أكثر من حالة (باستثناء القضاة الخمسة الأوائل).
ليس هذا فحسب، بل تتكشّف الفضيحة عندما يتبين أنّ أحداً من السماسرة لم يعد موقوفاً بسبب ملف الفساد، بل إن الذين لا يزالون في السجن إنما يقضون عقوبات جرائم أخرى هم مطلوبون فيها. ترك القضاء “سماسرته” بضمانة منع السفر لا أكثر! أما الذريعة، بحسب المصادر القضائية، أنّ الملف يحتاج إلى وقت طويل لا يجوز أن يُترك فيه المشتبه فيهم موقوفين طوال هذه المدة.
وبذلك، يكون القضاء والساسة قد قرروا أنّ لكل سلكٍ كبش فداء. في السلك القضائي، أسماء خمسة قضاة باتت معروفة متروكة لمصيرها إن لم تتدخّل مرجعياتها السياسية والطائفية لحمايتها. وفي سلك المحامين، محاميةٌ وحيدة رُفعت عنها الحصانة لتُدكّ في السجن منذ شهرين تقريباً، فيما العشرات من زملائها المشتبه فيهم أحرار طلقاء.
وهؤلاء طبعاً يشتبه في تورطهم بما هو أكثر مما يُنسب إلى المحامية الموقوفة بناءً على إفادة أحد عناصر مكتب مكافحة المخدرات الموقوف أيضاً، والذي تحدث عن قبضه رشوة منها. وفي هذا السياق، يقول المحامي ساسين ساسين، وكيل المحامية الموقوفة م. ع. لـ”الأخبار”: “أوقف قاضي التحقيق موكّلتي بسبب وجود عسكري وضابط موقوفين”، وإذ استنكر وكيل المحامية الموقوفة أصل الجُرم المنسوب لموكّلته لجهة الادعاء أنّها دفعت مبلغاً من المال لرتيب ليخبرها عن ملف أحد موكّليها، قال ساسين: “لقد أخطأ القضاء بتوقيف الضابط والعسكري”.
واعتبر المحامي أنّ “القرار الصادر عن نقابة المحامين برفع الحصانة عن موكّلته في غير محلّه”، معتبراً أنّ الملف ليس فيه سوى فيديو يُظهر أنّ موكّلته “أعطت هدية عبارة عن جاكيت لصديقها الضابط في عيد ميلاده أمام عشرات الأشخاص… وهذا ثابت”.
واستغرب المحامي ساسين إصرار القاضي على إبقاء موكّلته موقوفة رغم انقضاء فترة الشهرين. وكشف أنّه تقدّم بطلب لإخلاء سبيلها مرّتين، لكنّه رُفض، مشيراً إلى وجود طلب إخلاء سبيل ثالث في عهدة القاضي لم يبتّ بعد.
إذاً، لُبُّ المشكلة أنّ لا عدالة في ملف مكافحة الفساد، بحسب قضاة ومحامين وسياسيين. لا نية حقيقة لمكافحة الفساد فعلاً. فالمحظي يُحمى، فيما الضعيف يُضرب ليكون عِبرة للضعفاء أمثاله. فرغم أنّ تحقيقات فرع المعلومات في ملف مكافحة الفساد القضائي كشفت عن تورّط عشرات القضاة في قبض رشى وهدايا من سماسرة ملاحقين بملفات نصب واحتيال، إلا أنّ الملف الذي انطلق انطلاقة صاروخية فُرمِل بضربة واحدة.
اقتصرت المحاسبة على بضعة قضاة، قبل أن ينجح ضغط السياسة في لجم الاندفاعة. تراجعت الحملة لحساب هجومٍ مضاد شُنّ للتبخيس بالتحقيقات الجارية بإشراف فرع المعلومات في قوى الأمن، على الرغم من كونها أوّلية تجري بإشراف المدّعي العام التمييزي، فضلاً عن أنّها لم تقتصر على إفادات الموقوفين، بل دُعِّمت بتسجيلات صوتية وتحليل الاتصالات الذي رصد حصول عشرات الاتصالات بين القضاة المشتبه فيهم والسماسرة الموقوفين.
غير أنّ نقطة الضعف فيها، بحسب المناهضين لها، كانت أنّ هدايا بسيطة كسُبحة أو صينية شوكولا فاخرة أو قلم أو دعوة على عشاء، هي الأدلة التي استند عليها محققو فرع المعلومات للنيل من القضاة. غير أنّ وجهة النظر المقابلة ترى أنّ العِبرة في هوية السمسار الراشي. فهل يُعقَل أن يقبل قاضٍ هدية من مطلوبٍ للقضاء، كائناً ما كانت هذه الهدية؟ فضلاً عن أن التحقيقات مع السماسرة الموقوفين كشفت وجود قضاة كانوا هم الذين يبادرون إلى الطلب من السمسار جلب الهدايا لهم! فهل يستوي قاض كهذا مع قاضٍ نزيه لا يقبل حتى دعوة عشاء؟
لقد كان يُفترض أن يسلك ملف محاسبة القضاة مسارين: تأديبي وجزائي. الأول يتولّاه كل من هيئة التفتيش القضائي ومجلس تأديب القضاة، فيما يأخذ النائب العام التمييزي على عاتقه مسؤولية محاسبة القضاة جزائياً. غير أنّ المحاسبة اقتصرت على كبش فداء اتُّفق عليه من سلكي القضاة والمحامين.
حتى إنّ المعلومات تكشف أنّه حتى القضاة الذين صدرت قرارات بوقفهم عن العمل أو بطردهم، قد يعودون بعد إعادة المحاكمة في الاعتراض المقدم من القضاة أنفسهم. وبالتالي، يبقى الثابت أنّ انطلاقة ملف الفساد القضائي الصاروخية لم تُفلِح في ضمان استمراريته، قبل أن يُفرمَل على أعتاب القاضي المحسوب على التيار الوطني الحر، مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بيتر جرمانوس.
المصدر: الأخبار