نظرياً، لم يُقفل ملف التدقيق الجنائي بعد، وإن كانت كل المؤشرات تؤكّد أن الإعلان عن فشله لن يتأخر. يوم غد هو موعد نهاية المهلة المحدّدة لمصرف لبنان للإجابة عن أسئلة شركة «الفاريز أند مارسال»، التي أعادت إرسالها إلى المصرف عبر وزارة المالية. لا مفاجآت متوقعة. عبارة «هذه المعلومات ذات طبيعة سرية وفقاً لقانون النقد والتسليف»، التي ملأت الخانات في المرة الأولى، ستعود لتملأ الخانات المرافقة للأسئلة المطلوبة مرة ثانية. وهذا سيقود، كما أُبلغت أكثر من جهة، إلى إعلان شركة التدقيق توقّفها عن العمل، هي التي كانت قد أوضحت عند إرسالها الأسئلة مرة أخرى أنها «لن تتمكن من القيام بعملها في حال عدم توفر هذه المعلومات».

أمام هذا الواقع، كان لافتاً أن أحداً لم يناقش أساس المشكلة، أي امتناع مصرف لبنان عن تسليم معلومات لا تخضع للسرية المصرفية ولا يعيق قانون النقد والتسليف تسليمها. لم يعترض أحد على اعتماد سلامة على هذين القانونين كشمّاعة لرفض تسليم معلومات يحق للمجتمع الاطلاع عليها، قبل الحديث عن حق الحكومة أو حق شركة التدقيق المكلّفة من قِبلها.

اللافت أن كثراً، ومنهم «مفوضية الحكومة لدى مصرف لبنان»، ذهبوا إلى التسليم بأن السرية المصرفية والسرية المهنية تمنعان مصرف لبنان من إعطاء كل الداتا المطلوبة. لكن على سبيل المثال، لم يسأل أحد لماذا تكون معاملات الهندسة المالية مشمولة بالسرية؟ ولماذا يكون حتى طلب وثيقة تتضمن «وصفاً لأنظمة الدفع والمحاسبة المتبعة» سرياً؟ هكذا قرر سلامة، مدركاً أن لا جهة أو أيّ نص قانوني يمكنه إلزامه بما لا يريد، طالما أنه لا يزال مشمولاً بالرعاية السياسية. وبناءً عليه، لم يكترث سلامة لطلبات الشركة ووزارة المالية. وبعدما استهزأ حاكم مصرف لبنان بكل الأسئلة المرسلة إليه، عاد وزير المالية غازي وزني إلى هيئة الاستشارات مجدداً، طالباً إبداء الرأي بمدى تلاؤم مهمة شركة التدقيق الجنائي مع قانونَي السرية المصرفية والنقد والتسليف.


الأسماء محميّة بالسرية
في الاستشارة الرقم 881/2020، الصادرة عن رئيسة الهيئة جويل فواز، في 22 تشرين الأول الماضي، والمحالة إلى وزارة المالية في 26 منه، تأكيد أن «السرية المصرفية تنحصر فقط بعدم إفشاء أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلّقة بهم، ولا يدخل ضمن نطاقها ضبط مخالفات المصارف والجرائم المالية التي ترتكب في إدارة الأموال من جانب المؤسسات المصرفية». كما أفادت بأنه «في حال كان لهذه الجرائم ارتباط وثيق بأسماء الزبائن، فيشار إلى أسمائهم بأرقام حفاظاً على السرية بالنسبة إليهم».
تخلص الاستشارة إلى أن قرار مجلس الوزراء التعاقد مع شركة «ألفاريز اند مارسال» للقيام بعملية التدقيق الجنائي ما هو إلا تطبيق للمادة 65 من الدستور التي أناطت بمجلس الوزراء رسم السياسة العامة للدولة في جميع المجالات واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها. وفي الحالة الراهنة، فإن قرار التعاقد مع شركة التدقيق يكون ملزماً للجميع، ولا سيّما الأشخاص المعنيّين بتطبيقه من أجل تمكين الشركة من القيام بمهمتها و«منهم طبعاً ومن دون أي شك حاكمية مصرف لبنان والأجهزة التابعة له أو المرتبطة به أو المنشأة لديه».
تنطلق فواز من المادة 25 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، والتي تلزم من شاهد اعتداء على الأمن العام أو على حياة شخص أو على ماله، بإعلام المدعي العام، لتشير إلى أنه «لا يدخل ضمن نطاق السرية المصرفية ضبط مخالفات المصارف والجرائم المالية التي تُرتكب في إدارة الأموال من جانب المؤسسات المصرفية التي من ضمنها دون أدنى شك المصرف المركزي الذي هو مصرف القطاع العام، وإلا لكان المشرع قصد حماية الجرائم العادية التي يمكن أن ترتكبها المصارف في ممارستها تحت غطاء السرية وليس فقط الزبائن». أما بالنسبة إلى وجوب حفظ السرية المصرفية والمهنية، فتؤكد الاستشارة أنه يسقط أمام موجب الإبلاغ عن الجرائم، مستطردةً أن مخالفة السرية المصرفية لا تُشكّل في كل حال جرماً يُعاقب عليه القانون، إلا إذا تم إفشاء السرّ عن قصد «بنيّة الإضرار بالغير».

إلى مجلس النواب؟
وفيما علمت «الأخبار» أن وزارة المالية حوّلت هذه الاستشارة إلى المصرف المركزي، فإن مصادر مطلعة تؤكد أنها لن تغيّر من سلوك سلامة، المستند أولاً وأخيراً إلى حصانة سياسية لا تزال تحميه من المساءلة، بما يذكّر بأن القرار السياسي وحده قادر على إيصال التدقيق إلى برّ الأمان.
وفي هذا السياق، تؤكد المصادر أن اتجاهاً من ثلاثة يُفترض أن يسلكه التدقيق الجنائي، بصرف النظر عن بقاء «ألفاريز» أو انسحابها:
إلزام سلامة من قبل حمايته السياسية بالالتزام بالاستشارة القانونية الصادرة عن هيئة الاستشارات، والتي تفرض التزام المصرف بالتصريح عن المعلومات لأي جهة تقررها الحكومة، علماً بأن خطوة كهذه يمكن أن تكون مرادفاً لرفع الغطاء عن سلامة.
التئام مجلس النواب لتفسير قانونَي النقد والتسليف والسرية المصرفية، وهو أمر يحتاج إلى موافقة الرئيس نبيه بري.