الرئيسية / فنون / «مهرجان البندقية»: عينه على السينما وتحوّلاتها

«مهرجان البندقية»: عينه على السينما وتحوّلاتها

الإثنين 26 آب 2019

مجلة وفاء wafaamagazine

في أواخر آب (أغسطس) من كل عام تستقبل جزيرة «ليدو» (البندقية – إيطاليا) العالم والفن والسينما. انطلقت النسخة الأولى من «مهرجان البندقية السينمائي» في فندق «إكسلزيور» في ليدو دي فينيسيا عام ١٩٣٢، واليوم ما زال المهرجان يحوّل البندقية إلى قبلة للسينما الدولية بسحرها وعروضها الأولية ونجومها والصحافة والباباراتزي. منذ انطلاقه على يد رجل الأعمال والسياسي الإيطالي جوسبي فولبي؛ تربع المهرجان على قائمة أهم المهرجانات العالمية (مع مهرجاني كان وبرلين).

عنوان أساسي لعالم السينما استقطب عدداً لا يُحصى من المشاهير (تشارلي تشابلن، صوفيا لورين، بيار باولو بازوليني، فيديريكو فيلليني، وودي ألن، كلوديا كاردينال حتى سيلفادور دالي حضر المهرجان عام ١٩٨٥)، ومصدر حكايات لا تنتهي: من الممثلة مارلين ديتريش الإلهية التي كرّمت على السجادة الحمراء عام ١٩٣٧، إلى شون كونري الذي وصل عام ١٩٧٦ إلى «ليدو» على طريقة جيمس بوند على متن قارب مائي.

من قصة بريجيت باردو مع عازف الغيتار الفرنسي ومغني الجاز ساشا ديستيل، إلى صورة بول نيومان عام ١٩٦٣ في القارب المائي التي أصبحت واحدة من أكثر الصور شهرة للممثل الوسيم.
هذا العام، يحتفي «مهرجان البندقية»، أو لنكنْ أكثر دقة «معرض الفن السينمائي» أقدم المهرجانات السينمائية العالمية، بدورته السادسة والسبعين (٢٨ آب/ أغسطس حتى ٧ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٩). سيُتاح لعشاق الفن السابع فرصة مشاهدة أحدث الأفلام واستعادة الكلاسيكيات السينمائية وأيضاً إنهاء اليوم السينمائي بالاحتفال بالسينما والمشاركة في الحفلات والاجتماعات والمحاضرات المرتبطة بالمهرجان. يهدف الأخير إلى رفع مستوى الوعي وتعزيز السينما الدولية بجميع أشكالها كفن وترفيه وصناعة بروح من الحرية والحوار، وفق ما صرّحت به إدارة المهرجان. 

ألبرتو باربيرا أسد البندقية المعاصر الواضح والصريح
منذ أن تسلّم ألبرتو باربيرا الإدارة الفنية للمهرجان عام ٢٠١٢، لم يسلم من الانتقادات. سنة تلو أخرى، أثبت باربيرا نفسه تاركاً بصماته الواضحة، بخاصة أنه تسلم المهرجان من ماركو موللر الذي أعاد للحدث بريقه الذي فقده تقريباً في التسعينيات. واكب باربيرا الحداثة بفهم عميق للسينما ومتطلباتها. هكذا، بتنا نشاهد عدداً أكبر من الأفلام المعتمدة على الحبكة والحكاية، كما رأينا أفلاماً ليست سينمائية (نتفلكس). باربيرا، منفتح أكثر، يريد أن يطمئن الجميع إلى مستقبل السينما الذي يواجه تغييراً لا يمكن وقفه. برأيه «علينا أن نكون منفتحين على كل شيء»، وهي الروح التي يتعامل بها في مهرجان عريق مثل «البندقية».

لا تبدو نوعية وروح الأفلام المشاركة مختلفة كثيراً عن السنوات الماضية، حددها باربيرا بثلاثة اتجاهات: الأول هو العدد الهائل من الأفلام التي تتعامل مع مشاكل ووضع المرأة في المجتمعات المعاصرة، صنعها مخرجون رجال، فكما أوضح «هذا يكشف عن حساسية جديدة واهتمام خاص بالكيان الأنثوي، وقد يكون مؤشراً إلى الخلافات الأخيرة التي أثارتها الحركات الخاصة بالقضايا النسائية وسوء المعاملة من الذكور في كلّ مجالات المجتمع، وهي الآن قد بدأت تترك بصماتها على الضمير الاجتماعي». الاتجاه الثاني هو الأفلام المكرسة لإعادة إعمار دقيقة موثقة لأحداث من التاريخ الحديث أو القديم، خاصة الأحداث التي يمكن تشويهها بطريقة سهلة.

الاتجاه الثالث الذي أشار إليه باربيرا هو «العودة إلى سينما الواقع بدلاً من الهروب إلى أكوان متوازية أو تخيلية بحت لمواجهة المشاكل». هذا بالإضافة إلى الأنواع الكلاسيكية (إثارة، حرب، رسوم متحركة)، فبرأيه لا يمكن الاستغناء عن الأفلام التي تجذب جمهوراً أوسع من جمهور سينما المؤلف. لكن نلاحظ تدني عدد الأفلام الهوليوودية المشاركة، عدا أنّ باربيرا لم يختر واحداً منها كفيلم افتتاح في سابقة هي الأولى منذ عام ٢٠١٢.

المساواة بين الجنسين، نتفليكس ورومان بولانسكي
بدأ الجدال فور إعلان المهرجان لائحة الأفلام المشاركة. إذ جوبه باربيرا باعتراضين: الأول حول أحقية مشاركة فيلم للمخرج رومان بولانسكي، والثاني بسبب عدم مشاركة عدد كافٍ من الأفلام لمخرجات نساء. دافع باربيرا عن موقفه اقتناعاً منه بدور السينما وبما يريد أن يقدمه، مؤكداً التزامه بالمعايير الفنية في اختيار الأفلام بصفتها الطريقة الوحيدة لإلغاء التمييز على عكس ما تدّعي غالبية المهرجانات في مناصرتها للكوتا.

اتهم باربيرا بالعنصرية، فدافع عنه نفسه قائلاً: «إن كنت سأضع في ذهني كافة الفئات وأنا أختار ٦٠ فيلماً من أصل ١٨٠٠ تقدمت للمهرجان؛ فعليّ أن أختار أفلاماً لمخرجين سود، وأخرى لمخرجين مثليين، ثم لفئات تعرضت للتمييز لأسباب مختلفة. وفي النهاية لن يكون هذا معرضاً للفن إنما مهرجان للحقوق المدنية». لم يرضَ باربيرا الخضوع لمعايير تُفرض فرضاً على الفن، «إذا تركت هذا يحدث، فوظيفتي انتهت وحريتي انتهت». 

أما عن الاعتراضات التي وُجّهت له، لا سيما من قبل حملات «مي تو»، بسبب اختياره فيلماً لرومان بولانسكي المُدان بإقامة علاقة جنسية مع قاصر عام ١٩٧٧، فيوضح باربيرا: «علينا أن نفرق بين الرجل والفنان وإلا ستصيبنا اللعنة. لست قاضياً وما أعرفه أن بولانسكي هو أحد صناع السينما العظماء المتبقين في السينما الأوروبية والعالم». وشدد على عدم رغبته في اضطهاد المخرجكما يفعل العامة وعدم الخلط بين فنه وحياته الشخصية: «عندما تكون أمام لوحة لكارافاجيو، لا تفكر في حقيقة أنك أمام عمل لقاتل. أجد من السخف عدم القدرة على التمييز بين ذنب الشخص وقيمته كفنان.

وإذا لم نفهم ذلك، لن نصل إلى أي مكان. ربما يعاني بولانسكي مشاكل مع العدالة أو مع ضميره، ما يهمني أنا هو أنه صنع فيلماً رائعاً». كما أن لباربيرا رأيه الخاص بخصوص أفلام نتفليكس. بينما قرر «مهرجان كان» عدم إشراك نتفليكس في المسابقة الرسمية لأنها ليست أفلاماً سينمائية ولا تتبع القوانين الفرنسية بشأن العرض في الصالات ــ وهو أمر أجده محقاً جداً ـ يرى باربيرا ــ بصفة شخصية ــ أن نتفليكس شركة إنتاج مثل أي شركة أخرى يختار منها ما يوافق المعايير الفنية. 

الجودة قبل أيّ شيء
عندما كشف النقاب عن الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية وغيرها من الأقسام؛ كان واضحاً خط التطور الذي يسير عليه المهرجان: احتضان أفلام شباك التذاكر والاستوديوهات الكبيرة من دون التخلّي عن سينما المؤلف. بالتالي ضمت القائمة أفلاماً لمخرجين كبار وبعض الأسماء الواعدة. ٣٦٢١ فيلماً تقدّمت للمهرجان وشُوهدت من ٥٣ بلداً. ١٨٣٣ فيلماً طويلاً (١٨٨ منها من إيطاليا). ١٦٢٧ فيلماً قصيراً (١٤٦ من إيطاليا)، و١٦١ فيلماً بواقع افتراضي (virtual reality). ٢١ فيلماً سوف تنافس على «الأسد الذهبي».

١٧ فيلماً خارج المسابقة. ٧٥ فيلماً تقريباً موزعة على المسابقات الأخرى (Orizzonti, Sconfini, Biennale college, short films…). بالإضافة إلى مسلسلين جديدين، أحدهما للإيطالي باولو سورنتينو «البابا الجديد» (الجزء الثاني من «البابا الشاب»)، و٣٦ مشروعاً عن الواقع الافتراضي من بينها ٢٦ داخل المسابقة، و٢٠ فيلماً كلاسيكياً رُممت خصيصاً للمهرجان، وتسعة وثائقيات عن السينما.

المشاركة العربية 
سبعة أفلام عربية تشارك في فئات «مهرجان البندقية» المختلفة، على رأسها فيلم السعودية هيفاء المنصور «المرشحة المثالية»، وهو الفيلم العربي الوحيد الذي يشارك في المسابقة الرسمية على جائزة الأسد الذهبي. الفيلم، الذي صوّر في الرياض، يتتبع مسار طبيبة تقرر خوض انتخابات بلدية في مجتمع رجالي ومحافظ. وكان «وجدة» أول فيلم سعودي يشارك في تظاهرة «آفاق» عام ٢٠١٢ وأول فيلم سعودي يمثل المملكة في منافسات جوائز الأوسكار. بدأت صناعة السينما رسمياً في السعودية قبل أقل من عامين، فمنصور صوّرت «وجدة» بينما كانت مختبئة داخل شاحنة وتواصلت مع طاقم التمثيل والممثلين والتقنيين من خلال اللاسلكي.

تغير الوضع كثيراً اليوم وهي الآن تنعم بحرية كاملة في ممارسة صناعة الأفلام، بخاصة أن مجلس الأفلام السعودي موّل جزءاً من مشروعها. فيلم سعودي آخر هو «سيدة البحر» لشهد أمين يشارك في «أسبوع النقاد». الفيلم أيضاً نسائي يحكي قصة ابنة صياد سمك تهرب من قريتها الفقيرة خوفاً من أن يمنحوها لحوريات البحر المتوحشة. فيلم عربي آخر يشارك في «آفاق» وهو «بيك نعيش-أبن» للمخرج التونسي مهدي برصاوي، بينما أدرج فيلم مواطنه النوري بوزيد «الفزاعات» في برنامج الأفلام التجريبية. وهناك فيلم ثالث من تونس في «أيام البندقية» هو «أريكة» لمنال العبيدي، إلى جانب أول مشاركة سودانية متمثلة في «ستموت في العشرين» لأمجد أبو العلاء. أضف إلى ذلك فيلماً عراقياً من إنتاج هوليوودي هو «موصل» لمحمد الدراجي يعرض خارج المسابقة.

من لبنان، يقدّم أحمد غصين باكورته الروائية الطويلة «جدار الصوت» (إنتاج أبوط بروداكشن) التي تدور أحداثها في لبنان (مقتبس عن قصة حقيقية) إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز ٢٠٠٦ . خلال وقف إطلاق النار لمدة ٢٤ ساعة، يخرج مروان من بيروت متجهاً إلى الجنوب بحثاً عن والده الذي رفض مغادرة قريته الجنوبية، ويترك زوجته رنا وحدها تستعد للسفر إلى كندا.

لم يجد مروان أي أثر لوالده، وسرعان ما يعود إطلاق النار ويضطر للجوء إلى منزل نجيب، صديق والده. يجد مروان نفسه محاصراً تحت وطأة القنابل مع نجيب ومجموعة من كبار السن وأصدقاء والده. يتصاعد التوتر داخل المنزل وخارجه، تدخل فجأة مجموعة من الجنود الإسرائيليين الطابق الأول من المبنى، يُحاصر مروان ومن معه… ويخرج الوضع عن السيطرة. وكان أحمد غصين (مواليد بيروت ــ ١٩٨١) نال جائزة أفضل مخرج في «مهرجان بيروت الدولي للسينما» عام ٢٠٠٤ عن فيلمه القصير Operation Nb.

وحاز أيضاً جائزة أفضل فيلم قصير في «مهرجان تريبيكا الدوحة السينمائي» عام ٢٠١١ عن فيلم «أبي لا يزال شيوعياً». أخرج العديد من الأفلام القصيرة والأفلام الوثائقية ومقاطع الفيديو، وعرضت أفلامه في العديد من المعارض والمهرجانات السينمائية العالمية مثل أوسلو وبرلين. «الحرب ليست فقط موت ودمار، إنها اختفاء للذكريات، لا أريد لذاكرتي أن تمحى» هذه العبارة قالتها والدة أحمد بينما تقف على ما خلّفته الحرب من دمار.

وقد صرّح غصين عن فيلمه «جدار الصوت»: «منازل التهمت، قرى بأكملها دمرت. رؤية كل هذا أشعرتني بالحاجة لاستعمال كاميرتي لإحياء هذه الذاكرة، في محاولة لدرء الدمار. مروان ذهب للبحث عن والده لحفظ ما تبقى من نزاهته وعلاقتهما. فيلمي يسأل: هل الخيار الباقي لجيلي وأولادنا في لبنان اليوم هو الهجرة، هل هذا خيارنا الوحيد؟».

الأخبار