مجلة وفاء wafaamagazine
«الموضة» الاقتصادية الجديدة في لبنان هي «مجلس النقد». نظامٌ كان مُعتَمَداً بشكل أساسي في المُستعمرات البريطانية والفرنسية، «خصائصه» هي نفسها مُسبّبات الأزمة اللبنانية: تثبيت سعر صرف العملة، الاعتماد على استقطاب ودائع خارجية، دولرة الاقتصاد بشكل كلّي. إنشاؤه يعني نزع السلطة النقدية من المصرف المركزي إلى «مجلس» سيُحدّد سعر الصرف. خطورته الكُبرى أنّه يتم بمعزل عن أي رؤية للاقتصاد الكلّي
في حزيران الماضي، تجدّد الحديث في لبنان عن «نظام صندوق تثبيت القطع» (ويُعرف أيضاً بـ«مجلس النقد»)، بعدما عقدت النائبة (قبل استقالتها من المجلس النيابي) بولا يعقوبيان مؤتمراً صحافياً تُعلن فيه، نيابةً عن تحالف «وطني» و«مجموعة لبنان ينتفض»، تقديم اقتراح قانون لنظام الصرف. وتولّت الخبيرة المالية والاقتصادية ليال منصور الشرح بأنّه «النظام الأكثر أماناً واستقراراً بنسبة أربع إلى خمس مرات من أي نظام آخر، ويُختصر بكلمة واحدة هي بناء الثقة»، مُضيفةً إنّه «يُلغي الصلاحيات الاستنسابية للمصرف المركزي، المُتمثّلة بطبع وإصدار النقد ومنح القروض إلى الدولة والقطاع المصرفي واللجوء إلى الهندسات المالية على أنواعها». نقاش مُتخصّص بسيط حصل حول الموضوع (راجع «الأخبار»، مُلحق رأس المال عدد 3 آب 2020) لتُطوى المسألة أمام عدم تبنّيها على مستوى رسمي، إلى أن أعاد «رجل أبيض» يتكلّم اللغة الإنكليزية تقديم إنشاء «مجلس النقد» كحلّ سحري، لـ«تتأهّب» فئات لبنانية عدّة ويحتّل «الاكتشاف» الجديد (القديم) صدارة المشهد الاقتصادي في البلد. الرجل الأبيض هو أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة «جون هوبكنز» الأميركية، ستيف هانكي. قبل يومين، أطلّ عبر قناة «ال بي سي آي» ليصف السياسي اللبناني الذي قد ينجح في تأسيس مجلس نقد بأنّه «بطل قومي». الاعتقاد السائد لدى اقتصاديين ومسؤولين، بأنّ ستيف هانكي يُسوّق نفسه كـ«استشاري» للدولة، مُحاولاً تحويل لبنان إلى مُختبر لنظريات اقتصادية لا تتوافق مع الواقِعين المالي والنقدي، لا بل إنّها تُعيد استنساخ أسباب الأزمة التي أدّت إلى انهيار 2019 – 2020: تثبيت سعر صرف العُملة واعتماد الاقتصاد على استقطاب العملة الأجنبية من الخارج حصراً. ليس لبنان جزيرة مُستقلة عن باقي الكرة الأرضية، والأزمة التي يواجهها ليست فريدة من نوعها (ولو اختلفت تفاصيل ومعطيات)، لذلك الحلّ ليس بحاجة إلى «اختراع»، بل مُجرّد اتخاذ قرار ببناء نموذج اقتصادي ينبذ كلّ الألاعيب النقدية السابقة. في دراسة لصندوق النقد الدولي صادرة قبل سنوات، وردت «نصيحة» إلى البلدان المدعوّة لإنشاء مجلس نقد «والبعض منها يمرّ في أزمات»، من التنبّه إلى أنّ تحقيق نتائج اقتصادية جيدة في بلدان اعتمدت هذا النظام، «لم يُثبت إمكانية تطبيقها في كلّ البلدان، ثانياً الأمر بحاجة إلى تخطيط دقيق وتغييرات قانونية ومؤسساتية مُهمة في البلد قبل إقرار مجلس النقد». أما النقطة الثالثة، فهي أنّه إذا كان مصرف أو أكثر في بلد ما يُعاني من مشاكل، «فيجب إعادة هيكلته قبل تغيير النظام النقدي».
«مجلس النقد نظام جامد لا ليونة فيه، اعتبر اعتماده انتحاراً»، يقول وزير المالية السابق جورج قرم، متسائلاً أنّه «لو حصلت كارثة طبيعية، وتطلّب الأمر صرف مبالغ كبيرة لمساعدة الضحايا، ماذا نفعل إذا كان واحد من شروط مجلس النقد هو التوقّف عن طبع العملة بما يفوق قيمة الاحتياط المُكوّن؟».
استُخدم «نظام صندوق تثبيت القطع» بشكل أساسي في المستعمرات البريطانية والفرنسية السابقة، فسُجّلت التجربة الأولى في مستعمرة «موريشيوس» البريطانية سنة 1849. كان يُسمح لتلك الدول المُحتلّة بطبع عملة خاصة بها، شرط أن ترتبط قيمتها بعملة البلد المُستعمِر (الفرنك مثلاً)، والاحتفاظ باحتياطي بالعملة الأجنبية مُساوي 100% لكمية النقد بالتداول من العملة المحلية. فإذا طُبع على سبيل المثال 100 مليون من العملة المحلية، يتم الاحتفاظ باحتياطي بقيمة 100 مليون فرنك، بحجّة ضمانة سلامة العُملة. يشرح قرم لـ«الأخبار» أنّ لبنان بلد لا يُنتِج ويُعاني من مديونية مُرتفعة نسبة إلى الناتج المحلّي، «بعدما بنى (رئيس الوزراء الراحل رفيق) الحريري نظام الشحادة الدولية، وسمحنا بوجود عملتين داخل نظامنا، واحدة قوية هي الدولار الأميركي، والثانية عملة ضعيفة هي الليرة اللبنانية، وقرّرنا تثبيت سعر الصرف بطريقة عشوائية بعدما كنّا سبّاقين باعتماد سعر صرف عائم. هذا اسمه الانتحار الاقتصادي». أمام هذا الواقع، «قد يتحوّل مجلس النقد، لو اعتُمد، إلى نظام يُكرّس المُشكلة». بالإضافة إلى ذلك، سيؤدّي مجلس النقد إلى «إكمال دولرة الاقتصاد المحلّي بشكل مُطلق، عِوض أن يكون البحث في كيفية فكّ الارتباط بالدولار، لأنّها من أسباب الأزمة».
يُعَرَّف مجلس النقد بأنّه «شكلٌ مُتطرف» من أشكال سعر الصرف الثابت، إنشاؤه يتمّ بهدف الاحتفاظ باحتياطات بالعملة الأجنبية، ولكنّه يعني انتزاع سلطة المصارف المركزية عن السياسة النقدية، ما قد يؤدّي إلى نتائج عكسية في حال كان البلد يمرّ بأزمة. يُخبر الوزير السابق عادل أفيوني أنّ مجلس النقد نظام يعتمد تثبيت سعر الصرف بناءً على «مُعادلة» بأن تكون الكتلة النقدية بالليرة مضمونة بقيمة موازية من الدولارات لدى المصرف المركزي. في ظلّ الواقع الحالي، انخفاض الاحتياطي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان وعدم امتلاك أرقام دقيقة حول حجم الذهب وقيمته، «يقود إلى تخفيض سعر الليرة بقوّة، ما يعني مُفاقمة التضخّم وإفقار الشعب». ولأنّ التثبيت يتمّ على أساس هذه المُعادلة، «فأي انخفاض بقيمة الدولارات الموجودة يعني هبوطاً أكبر بسعر الليرة. وسنكون بحاجة إمّا إلى استقطاب سيولة من الخارج أو تخفيف حجم الكتلة النقدية بالليرة أكثر، يعني ضرب الحركة الاقتصادية والقدرات الاستهلاكية». يقول أفيوني إنّ من إيجابيات مجلس النقد إعطاء الثقة بالليرة، ولكن تطبيقه لا يكون إلا بعد إجراء «إصلاحات هيكلية: استقطاب السيولة الخارجية، إعادة بناء النموذج الاقتصادي وتقديم الحوافز للقطاعات المُصدّرة والمُنتجة، وإعادة هيكلة مالية الدولة وضبط العجز والشفافية في النفقات والإيرادات، فنكون عندها مُستعدين للتأقلم مع المعادلة الجديدة».
رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، غسّان ديبة من المُتخصصين الذين يعتبرون أيضاً أنّ لبنان ليس بحاجة إلى مجلس نقد في ظلّ الأزمة الحادّة التي يمرّ بها: «لا نُريد نظام تثبيت للعملة أكثر صرامة من الذي كان معمولاً به، إذا انفجر فستكون آثار انفجاره أكثر حدّة». المُشكلة هي أنّه في «ظلّ الشحّ بالعملة الأجنبية والتجربة السابقة، لا يُمكن العودة إلى إنشاء نظام نقدي يعتمد أيضاً على الدولار». يقول ديبة لـ«الأخبار» إنّ مجلس النقد يقود «إلى حالة انكماشية في الاقتصاد. هو نظام صارم، سيرفع من قيمة الديون، وبالتالي الأعباء المُلقاة على الدولة والمؤسسات المُنتجة، وأي عملية تصحيح مُستقبلية للاقتصاد بوجود مجلس نقد ستتم عبر تخفيض الأجور عِوض تحريك سعر صرف العملة». يُضاف إلى ذلك الأزمة المصرفية وانقطاع التسليفات، «ما يمنع زيادة القيود على النقد، لأنّه سيُطيل فترة الركود». ويعتقد ديبة بوجود تعارض بين إنشاء مجلس نقد وحلّ الأزمة المصرفية، «فإذا كنّا نُريد إعادة هيكلة القطاع المصرفي، يجب عدم نزع صلاحية المصرف المركزي بضخّ العملة إذا دعت الحاجة». بالنسبة إلى عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني، «يجب أن يكون هناك سعر صرف عائم مُدار، لأنّه الحلّ الأمثل حالياً للتنافسية الخارجية، والتحكّم بتدفق النقد داخل لبنان، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وضخّ السيولة فيه، كما أنّها تؤمّن لنا نوعاً من الليونة داخل الاقتصاد».
التجربة الأرجنتينية: الكساد العظيم
في كتابه «عودة اقتصاديات الكساد وأزمة الـ 2008»، يشرح الاقتصادي الأميركي بول كروغمان عن التجربة الأرجنتينية مع مجلس النقد. ليس كروغمان من المُتحمسين لوجود مجلس نقد ينزع صلاحيات المصارف المركزية ويُعطّل دورها كالمُقرض الأخير للبنوك والمُنقذ للنظام المالي، لكنّه يذكر كيف اعتمدت الأرجنتين سنة 1991 مجلس نقد «لوضع حدّ لطبع العملة المتزايد والعشوائي». القرار كان خلال عهد الرئيس السابق كارلوس منعم (أُدين سنة 2015 بتهمة الاختلاس وسابقاً بتهريب أسلحة)، وقد اتخذه وزير المالية السابق دومينغو كافالو (أُدين أيضاً بتهمة الاختلاس)، «فأعاد العمل بنظام كان منسياً في العالم الحديث، بعد اندثاره في سنوات ما بعد الحرب واستقلال المُستعمرات. صحيح أنّ هونغ كونغ تملك مجلس نقد، لكن يُمكن اعتبارها مُستعمرة أيضاً»، يقول كروغمان. خلقت الأرجنتين عُملة «بيزو» جديدة مُعتمدة سعر صرف ثابتاً، «وكان يُقابل كلّ بيزو في التداول دولار في الاحتياطي. وتوقّفت الأرجنتين عن طباعة النقود إلا لعمليات تبديل البيزو بالدولار». كانت النتيجة «انخفاض التضخم إلى ما يُقارب الصفر، عاد ضخّ الأموال إلى داخل الاقتصاد ولكن بوتيرة أبطأ من السابق، وبدأ الناتج المحلي الإجمالي بالارتفاع». سنة 2001، انهار مجلس النقد «إذ لم يعد الاقتصاد الأرجنتيني يتحمّل أن تبقى السياسة النقدية مُرتبطة بتدفق الدولارات»، بحسب رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية ــــ الأميركية، غسّان ديبة. وقد اعتُبر تثبيت سعر الصرف واحداً من الأسباب الرئيسية للكساد العظيم بين 1998 – 2002.