مجلة وفاء wafaamagazine
كتب علي نور في المدن
في بلدان العالم المتقدّم اقتصاديّاً، تتنوّع نماذج المؤسسات التي تقدّم الخدمات الماليّة، وتحديداً خدمات الإدخار والتسليف ووسائل الدفع وغيرها. فإلى جانب المصارف التجاريّة، تنشأ في العادة أنواع لا تحصى من التعاونيات الماليّة، التي تقوم أساساً على فكرة الملكيّة الجماعيّة لأسهم هذه المؤسسات من قبل المودعين أنفسهم. وبذلك، يصبح المودع شريكاً وعضواً في هذه المؤسسات الماليّة، لا زبوناً. كما يقوم النموذج بأسره على مبادىء الاقتصاد التضامني، التي تفرض أولاً الشفافيّة المطلقة في التعامل مع هؤلاء المودعين أو الشركاء. كما تفرض العودة إليهم لإختيار إدارة المؤسسة العليا وسياساتها الاستثماريّة أو التسليفيّة.
بذلك، يعمل النموذج بأسره لخدمة مصالح أصحاب الأموال أنفسهم، أي المودعين الذين يمثّلون أصحاب أو أعضاء المؤسسة، على خلاف نموذج المصارف التجاريّة الذي يشجّع تلقائيّاً حلقة ضيّقة من أصحاب المصارف على رفع المخاطر لزيادة أرباحهم، فيما يتحمّل مخاطر النموذج أصحاب الودائع أنفسهم. ولهذا السبب، كانت التعاونيات الأكثر حصانة عند حصول الأزمة الماليّة العالميّة سنة 2008، كما أصبحت تملك حصّة وازنة من أسواق المال اليوم.
في لبنان، تجاهلت السلطة النقديّة هذا النموذج كليّاً، فيما تركت الساحة خالية تماماً للمصارف التجاريّة للاستئثار بالخدمات الماليّة، مع هامش ضيّق جداً جرى منحه للمصارف الاستثماريّة والإسلاميّة للعمل كفروع مملوكة من المصارف التجاريّة نفسها. لا بل تعمّدت السلطة التنفيذيّة أن تتكامل مع هذه السياسة عبر الامتناع عن منح التراخيص الجديدة للتعاونيات الماليّة، رغم أن قانون الجمعيات التعاونيّة يسمح بإنشاء هذا النوع من التعاونيات.
لكنّ يبدو أن الأزمة التي ضربت القطاع المصرفي إثر الانهيار المالي الأخير فتحت الباب أمام خروج مبادرات جديدة من هذا النوع، لتأذن بنشأة نظام مالي خارج النظام المصرفي الذي نعرفه، وبنموذج جديد. خصوصاً أن نموذج التعاونيات الماليّة كان بإمكانه –لو وجد سابقاً- أن يجنّب أصحاب الودائع الكثير من الأزمات التي تعرضوا لها في نموذج المصارف التجاريّة اللبنانيّة.
“شريك”: مساهمون لا زبائن
أولى النماذج اللبنانيّة التي أبصرت النور مؤخراً، وفتحت باب العمل التعاوني المالي كبديل عن المصارف التجاريّة، كانت مؤسسة “شريك”. وهي لم تتمكّن من نيل الترخيص من المديريّة العامّة للتعاونيات بحكم امتناع المديريّة المستمر حتّى اليوم عن منح هذا النوع من التراخيص الجديدة. لكنّها وجدت المخرج من خلال نيل رخصة شركة مدنيّة تعمل وفقاً لمبادىء العمل التعاوني.
يملك “شريك” أصحاب المشاركات الماليّة أنفسهم، أي أصحاب المدخرات، الذين يتساوون في حقوق التصويت والمشاركة بمعزل عن مقدار مساهمتهم أو عدد الحصص. وبذلك تتشابه “شريك” من هذه الناحية مع نموذج التعاونيات الماليّة التي تمثّل بديلاً عن المصارف في دول العالم الأخرى.
شريك، البديل عن المصرف، تقدّم حاليّاً كل ما يحتاجه المواطن من مؤسسة ماليّة من خدمات: الإدخار من خلال المساهمة في الشركة والتحوّل إلى شريك فعلي يساهم في إدارة المؤسسة. الاستفادة من برامج دعم ماليّة واستشاريّة داخليّة للمشاريع المنتجة، وفق آجال وشروط مناسبة. وسائل الدفع من خلال قسائم تعاضديّة خاصّة تسمح للأعضاء بالحصول على السلع والمنتجات من خلالها. بالإضافة إلى أنظمة بطاقات الدفع المعروفة. عمليّاً، يمكن لشريك، كشركة مدنيّة تعمل وفقاً لمبادىء العمل التعاوني، أن تحل مكان المصرف في كل الخدمات التي يقدمها، مع اختلاف جوهري: أنت في شريك مساهم وعضو، لا زبون، وأنت هناك صاحب حصّة تسمح لك بالتصويت وانتخاب مجلس الإدارة ومحاسبته، كما تصوّت على كافة المسائل الحساسة، وتقيّم مخاطرها وتطلع على كافة العمليات من دون استثناء.
الاقتصادي جاد شعبان، أحد مؤسسي المشروع، يشرح أهميّة هذا النموذج. فالمبادرة القائمة على مبدأ التعامل مع المدخرين كمساهمين أو أعضاء، لا زبائن، تدفع الإدارة تلقائيّاً إلى التوجّه نحو الاستثمارات الآمنة ذات العوائد الواضحة والشفّافة، التي تحمي مصالح أعضائها. ما يعني تقليص حجم المخاطر التي تنبع عادة من المجازفات الكبيرة، خصوصاً مع إعطاء الأعضاء حق الرقابة والمحاسبة وانتخاب أعضاء اللجان ومجلس الإدارة. وعملياً، وكون المساهمين هم أصحاب المدخرات أنفسهم، لا تسعى شريك إلى مراكمة الأرباح الكبيرة على حساب المدخرين، كما تفعل المصارف مع عملائها بفرض العمولات المرتفعة، بل تسعى إلى الحفاظ على هامش ربح بسيط يسمح لها بالاستمرار، فيما تبقى مصلحة الأعضاء –المدخرين- هي الأهم.
حل لأزمة اللبنانيين
تجربة “شريك” تمهّد لإطلاق تجارب تعاونيّة ماليّة مماثلة. وهي بذلك تفتح باب حل لأزمة اللبنانيين، الذين يراكمون المدخرات في المنازل بشكل غير آمن، ويعرّضونها للسرقة أو مخاطر الحرائق، خصوصاً كون تطوّرات الأزمة الماليّة اللبنانيّة لا تنبىء بحلول قريبة لمشكلة تعثّر القطاع المصرفي. ولذلك، يمكن للبنانيين التفاؤل اليوم بإمكانيّة ولادة نظام مالي بديل عن المصارف، يسمح لهم بالإدخار مجدداً، من دون أن يعرّضوا مدخراتهم لمخاطر النظام المصرفي المتعثّر. أما أهم ما في هذا النظام المالي البديل، فهو شفافيّته في التعامل مع أصحاب المدخرات، وابتعاده عن كل أنماط المجازفات غير الآمنة التي يمكن أن تودي بمدخراتهم. مع العلم أن بعض التقديرات تذهب للقول بوجود أكثر من 10 مليارات دولار في المنازل. وهو ما يعطي هذا النموذج الجديد فرصة كبيرة في حال تمكنه من نيل ثقة اللبنانيين.
في الواقع، يمكن القول أن أهميّة هذا النموذج البديل لا تكمن فقط في قدرته على تشكيل بديل حالي بعد تعثّر المصارف، بل في قدرته على تجنّب أبرز الأسباب التي قادت مصارف لبنان نحو التعثّر. فالمصارف اللبنانيّة دخلت طوال السنوات الماضية بمجازفات كبيرة، من خلال الهندسات الماليّة التي قام بها مصرف لبنان، بالإضافة إلى تعرّضها إلى نسبة انكشاف عالية على مخاطر الدين العام. وبينما كانت هذه الاستثمارات الخطرة ترفع بشكل خيالي أرباح حلقة المساهمين الضيّقة، كانت المصارف ترفع عبر هذه الاستثمارات المخاطر التي يتعرّض لها أصحاب الأموال التي كانت تجازف بها، أي أصحاب الودائع. وعمليّاً، وبعد أن جنى أصحاب المصارف ما يمكن جنيه من هذه المجازفات طوال السنوات الماضية، دفع أصحاب الودائع الثمن اليوم. أما العنوان الأساسي لكل ما جرى، فهو غياب الشفافيّة في التعامل مع أصحاب الودائع، الذين مازالوا يجهلون حتّى اليوم الكثير من تفاصيل المغامرات والعمليات والشبهات التي تورّطت بها المصارف خلال السنوات الماضية.
في مقابل كل هذه الارتكابات التي أدّت إلى تعثّر المصارف، تطرح التعاونيات الماليّة أسلوباً لا يسمح بتكرار هذا النوع من الأحداث. ففي التعاونيات الماليّة، لا توجد هذه الحلقة الضيقة من المساهمين التي تريد دفع المؤسسة للمغامرة بأموال المودعين لزيادة أرباحها، ولو من خلال هندسات ماليّة غريبة عن منطق الإدارة الرشيدة. بل إن أصحاب الرأي والقرار في التعاونيات الماليّة هم الأعضاء أنفسهم، أي أصحاب المدخرات. وفي نموذج التعاونيات الماليّة، لا يوجد عمليات غامضة تقوم بها الإدارة لمصلحة أصحاب المصرف على حساب المدخرين، بل يوجد شفافيّة مطلقة مع الأعضاء الذين يطلعون على كل تفاصيل الحسابات والعمليات. وفي التعاونيات الماليّة، لا يمكن للمؤسسة أن تهرّب أموال النافذين للخارج على حساب باقي المودعين، لأن المودع أو المساهم، يطلع حكماً على كافة تفاصيل عمليات المؤسسة. ببساطة، كان بإمكان التعاونيات الماليّة أن تحمي المدخرين لو وجدت قبل حصول أزمة القطاع المالي اللبناني، خصوصاً أن التجارب العالميّة تدل على امتلاكها هذه الحصانة في وجه الأزمات المشابهة.
التجارب العالميّة تؤكّد
حصانة التعاونيات الماليّة في وجه التجاوزات والمغامرات التي تتورّط بها المصارف التجاريّة عادة، تؤكدها التجارب العالميّة. فيوم حصلت الأزمة الماليّة العالميّة سنة 2008، كان معدّل انكشاف التعاونيات الماليّة أٌقل بخمس مرات من انكشاف المصارف التجاريّة على القروض المرتفعة المخاطر، التي تسببت بالأزمة. ولهذا السبب تحديداً، لم تحتج التعاونيات الماليّة لأكثر من 69.9 مليون دولار من رزم الدعم الحكوميّة، في حين أن المصارف التجاريّة احتاجت لأكثر من 200 مليار دولار. وفي عام 2011، قام نشطاء محليون بحملة واسعة النطاق لنقل الحسابات الماليّة من المصارف إلى التعاونيات الماليّة. وهو ما نجح في نقل أكثر من 40 ألف حساب مصرفي لمصلحة التعاونيات.
عمليّاً، كانت الأزمة الماليّة اللبنانيّة مصدر العديد من المصائب الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تلم بالبلاد، لكنّها في الوقت نفسه مازالت تحمل بعض الفرص القليلة، لعلّ أبرزها فرصة الانتقال إلى نظام مالي مختلف شكلاً ومضمونا. نموذج لا تعامل فيه المؤسسات أصحاب المدخرات كمصدر أرباح للمساهمين، بل أعضاء يملكون الوصاية على المؤسسة نفسها. وتعمل إدارة المؤسسة لخدمتهم ولمصلحتهم. ونموذج لا يقوم على التفريط بمال المودع لتمويل مغامرات مصرف لبنان ومراكمة الدين العام، لتحقيق الربح للمساهم، بل يقوم على الحرص على أموال المدخرين الذين يملكون المؤسسة نفسها.
بإختصار، هو عالم مختلف من المؤسسات الماليّة، ينبغي أن نتعرّف عليه، ويبدو أن الأزمة التي تضرب المصارف اليوم تمثّل فرصة لذلك.