مجلة وفاء wafaamagazine
مع انتهاء فترة الاقفال العام (اذا لم تُمدَّد) في أواخر كانون الثاني الجاري، نكون قد دخلنا في الشهر الحاسم (شباط) المُحدّد من قبل مصرف لبنان لإنجاز ما يشبه إعادة هيكلة أولية للقطاع المصرفي. ماذا ينبغي أن ننتظر على هذا الصعيد، وكيف سيكون المشهد المصرفي في الشهر المقبل؟
كتب أنطوان فرح في الجمهورية
مَن تابع عن كثب ما كان يجري في المصارف في الاشهر القليلة الماضية، يدرك حجم الورشة الداخلية القائمة في القطاع استعداداً لاستحقاق شباط، موعد فتح الدفتر للاطلاع على لائحة المصارف التي نجحت في تطبيق الشروط التي وضعها مصرف لبنان للاستمرار. وعلى رغم انّ تمديد المهل، بما فيها المهل القانونية والضرائبية وسواها على كل المستويات قائم في البلد بسبب تداعيات كورونا، إلّا أنّ الاشارات التي أرسَلها البنك المركزي الى المصارف توحي بأن لا تمديد للمهل في قرار إعادة هيكلة المصارف، وانّ هناك إصراراً على الابقاء على الموعد المُحدّد (نهاية شباط 2021).
ماذا أنجزت المصارف حتى الآن؟ وهل ستكون لائحة المصارف المتعثّرة التي سيضطر مصرف لبنان الى وضع اليد عليها طويلة؟
في خلال الاشهر الخمسة الماضية عمدت غالبية المصارف الى تنفيذ الخطوات التالية:
اولاً – تشجيع المقترضين على تسديد قروضهم من خلال عمليات بيع عقارية أقرب الى عمليات الـswap، أدّت في النتيجة الى خفض محفظة القروض الخاصة لدى المصارف بقيمة تُقارِب الـ14 مليار دولار في سنة (من 50 ملياراً الى 36 ملياراً).
ثانياً – خفض حجم الودائع الدولارية من خلال استمرار عمليات السحب الاعتيادية بالليرة على سعر المنصة (3900)، ومواصلة خروج اموال، سواء شرعياً عبر الدولار الطالبي أو سواه من الالتزامات الخارجية، او عبر عمليات تَحايل تؤدي الى خروج مزيد من الاموال. بالاضافة الى إطفاء الديون بحيث تراجع حجم الودائع إلى نحو 146 مليار دولار خلال تشرين الأول 2020، في مقابل 173 مليار دولار في تشرين الاول 2019.
ثالثاً – بدء عملية تقليص حجم القطاع من خلال خطة لإغلاق فروع والاستغناء عن قسم من الموظفين. ويَهدف هذا الاجراء بطبيعة الحال الى خفض الكلفة التشغيلية للمصارف، والى زيادة الموجودات من خلال تحرير عقارات اضافية (مباني الفروع المَملوكة من المصرف) يمكن اعادة تقويمها ضمن الموجودات لتحسين وتحصين دفتر الموجودات والمطلوبات.
رابعاً – بيع الوحدات الخارجية لتأمين مبالغ بالدولار الطازج. ويتبيّن من مسار التفاوض انّ قسماً من الصفقات أُنجزت عملياً، بما يعني انّ المصارف الكبيرة المُصنّفة في خانة too big to fail أصبحت في مأمن عن التخلّف عن الالتزام بمندرجات إعادة الهيكلة الاولية.
خامساً – باشَرت المصارف عملية اعادة تخمين لموجوداتها العقارية بحيث ستساهم هذه العملية في زيادة قيمة الموجودات وتحسين الميزانيات.
سادساً – بالاضافة الى حثّ المساهمين الحاليين في الموافقة على زيادة مساهماتهم في عملية تكبير الرأسمال، عمدت المصارف الى التفاوض مع كبار المودعين لديها لحثّهم على الاكتتاب في الرأسمال، خصوصاً انّ اسعار الاسهم تراجعت بنسَب كبيرة، وبات في مقدور المودع امتلاك نسبة جيدة من الاسهم بسعرٍ عادل، على اعتبار انّ التراجع الكبير قد حصل. وبالتالي، أصبحت احتمالات الخسارة في المرحلة المقبلة أقل بكثير مما كانت عليه قبل عام من اليوم.
وتختلف التسهيلات التي يتم تقديمها للمودع بين مصرف وآخر وفق الحاجة والوضع، إذ تعرض بعض المصارف على المودعين الكبار الراغبين في الاكتتاب بالرأسمال أرباحاً سنوية ثابتة (تحت خانة فوائد) على المبلغ المُكتتب به، وبالدولار الطازج.
سابعاً – التزمت المصارف العمل على تطبيق مندرجات التعميم 154، وقامت بما طلبه منها مصرف لبنان لجهة حَثّ العملاء العاديين على إعادة 15 % من الاموال التي جرى تحويلها الى الخارج منذ 1/7/2017، وحَث رؤساء وأعضاء مجالس ادارة المصارف والمكشوفين سياسياً (PEPs) لإعادة 30 % من هذه الاموال. وعلى رغم عدم توفّر معلومات دقيقة عن الارقام والنتائج، إلّا أنّ المحاولة أدّت عملياً الى استعادة كمية من الدولارات التي أودعت في حسابات خاصة مُجمّدة لمدة 5 سنوات.
ثامناً – عملت المصارف على تكوين ودائع دولارية مُحرَّرة من أي التزامات في المصارف المراسلة بهدف الوصول الى نسبة 3 % من حجم الودائع. واستخدمت في العملية الاموال المُستعادة، والتي يُقال انّ قسماً كبيراً منها مُستمد من اموال أعادَها المصرفيون أنفسهم (30 % من الاموال المحوّلة). ومع ذلك، لم ينجح قسمٌ لا بأس به من المصارف في تكوين هذه النسبة في الخارج. وبالتالي، يُرجّح أن يُصِرّ مصرف لبنان على عدم تمديد مهلة تكبير الرساميل، مقابل منح مهلة اضافية لاستكمال تكوين الـ3 % في الخارج.
اذا اعتبرنا انّ معظم المصارف ستنجح في الالتزام بمندرجات إعادة الهيكلة الاولية في شباط، إلا أنّ بعض المصارف، والتي لم يُعرف بالتحديد عددها بعد ولكنه قد لا يتجاوز الأربعة، ستواجه احتمال وضع مصرف لبنان يده عليها. لكنها ستستمر بتأدية أعمالها، ولن يتعرّض المودعون فيها لأيّ مخاطر مرتبطة بانتقال الملكية الى البنك المركزي.
لكنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في سقوط مصارف صغيرة بين يدي مصرف لبنان، ولا في عجز مصارف أخرى عن تكوين سيولة بنسبة 3 % من ودائعها في مصارف خارجية، بل في مصير الاموال الجديدة والرساميل النامية بنسبة 20 % منذ اندلاع الأزمة حتى الآن، في حال استمرار الوضع السياسي على ما هو عليه اليوم. في هذه الحال، سيتم استهلاك الاموال الاضافية الحقيقية، وستذوب قيمة الموجودات الدفترية الناتجة عن اعادة التخمين أو سواها من العمليات، وسنعود في غضون أشهر قليلة الى النقطة التي انطلقت منها عملية اعادة الهيكلة. وستكون محاولة اعادة الهيكلة الثانية أصعب وأشد تعقيداً وكلفةً، ليس على المصارف فحسب، بل على المودعين وعلى المؤسسات والحركة الاقتصادية بشكل عام، بما يعني المزيد من الانكماش والفقر والغرق نحو قَعر غير مُحدّد. هذه هي الجريمة الموصوفة التي ترتكبها المنظومة السياسية بدم بارد، وعقلٍ، إمّا مؤامراتي شيطاني، وإمّا غير موجود في الأساس.