مجلة وفاء wafaamagazine
وجه نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب رسالة الجمعة، استهلها بالقول: “في البداية نتوجه بالتهنئة والتبريك للمؤمنين بمناسبة حلول شهر رمضان، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن عرف عظمته وبركته فأعد نفسه ليكون اهلا لدعوة الله تعالى لضيافته على مائدته في هذا الشهر الكريم، وتهيأ للإفادة من خيراته والاستجابة لما ورد من حث وترغيب للاهتمام به، فالصائم في عبادة دائمة، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، والدعاء فيه مستجاب، والحاجات فيه مقضية، وأبواب النيران فيه مغلقة، والشياطين فيه مغلولة الايدي عن الحركة والاغواء، والجنان مفتحة قد لاحت اشجارها وثمارها وانهارها وقصورها وحورها ومقاعد الصدق فيها عند المليك المقتدر، قد أعدت موائدها تنادي الصائمين وتنتظر قدومهم، ملبين دعوة الله تعالى لنيل جوائز الفوز بالرضوان الذي وعد الله به الصائمين الذين لم يلههم العاجل من مغريات الحياة التي لا تدوم عن الآجل من النعيم الدائم الذي لا يزول، بل يرتفع الصوم بالمؤمن الى حال من الارتقاء الروحي والمعنوي تغير من طريقة فهمه للحياة ومن كيفية سلوكه وتعامله مع مشاكلها، وتفتح له أبوابا من الامل والرجاء بديلا عن اليأس والاحباط، بعد أن بدا له انسداد الافق وانعدام الحل. وهذه النتائج ليست مقصورة على عبادة الصوم، فالعبادات على اختلاف اشكالها تؤدي وظيفة واحدة وهي وظيفة من أشرف الوظائف وأعلاها شأنا، وهي ان يتذكر دائما ضعفه وفقره حتى وهو في أشد حالاته قوة وغنى، وان ما به من قوة وغنى ليس حائلا دون فقره وضعفه، ولذلك فهو يحتاج دائما الى الشعور بالنقص والارتباط بمن يستمد منه القوة والعزيمة، فلا يقع في الغرور عند الغنى والقوة فيخرجه عن التوازن والاعتدال ويودي به الى التهلكة، وثانيا ان معرفة الانسان نفسه ونقصه لا يكفي وحده لاعتدال سلوكه فهو يحتاج معها الى التهذيب والتدريب، فإن هذه النفس جموح تأخذ بصاحبها الى المهاوي ان لم يحسن قيادها ويقوى على الامساك والتحكم بها، وكل عبادة من العبادات تؤدي مهمة من المهمات الضرورية في ايصال الانسان الى هذه الحال من التوازن والانقياد لله تعالى، فالصلاة لتذكيره بالله سبحانه وبالحاجة الى الاستعانة به في كل أموره وطلب الهداية الى طريق الاستقامة وعدم الضلالة والوقوع في العصيان والغضب الإلهي”.
أضاف: “والصوم ممارسة عمليه لتهذيب النفس وغرائزها واخضاعها حتى يسلس قيادها فتكون مقودة لإرادة الانسان لا قائدة لها، يقول أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب وانما هي نفسي أروضها بالتقوى، ويقول الله تعالى في ذلك قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها. إن الصوم بما هو عبادة خالصة لله سبحانه وتعالى، يحرر الانسان من القيم الأرضية والنفس من ارتباطاتها الترابية، ويسمو بها نحو الله سبحانه وتعالى ويحررها من القيود الشهوانية الغرائزية والأنانية والاثرة والتكبر وسائر ما يسف بها ويخرجها عن الاتزان، ويوقعها في التطرف في الاعتقاد والسلوك الذي يحول الانسان عن وظيفة الاعمار للأرض، الى عامل مدمر للاجتماع الانساني وللطبيعة وخيراتها التي اوجدها الله تعالى ليتمتع الانسان بمنافعها ويستخدمها في خدمة البشرية وتوفير سبل الهداية لعبادة الله الاحد، بدل ان يستهلكها لارضاء غرائزه وشهواته التي لا حدود لها ولا سبيل لإشباعها وستنتهي به الى سوء المصير، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس”.
ودعا إلى استقبال “شهر رمضان بهذه الروحية، روحية التقوى لتزكية نفوسنا وتربيتها بتقوية الارادة على التحكم بالشهوات والغرائز والتحرر من سطوتها التي ان افلتنا زمامها جمحت بنا الى الهاوية والخسران، ولنرتقي بدلا عن ذلك وبإرادتنا وبوعي تام منا ودون جبر او اكراه وبكل حرية الى مصاف أولياء الله (الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)”.
ورأى أن “معركة الحياة في الفهم الاسلامي تختلف عنها في الفهم المادي، فبينما تدور رحاها حول السيطرة على الاخر والاخضاع له والاستحواذ على اكبر قدر ممكن من الامتيازات والثروات وتأخذ طابع الصراع في الفهم المادي، فهي على العكس من ذلك في المفهوم الديني الاسلامي تأخذ معنى التكامل والارتقاء النفسي والسيطرة على شهوات النفس وغرائزها والدعوة الى التعارف والتعاون بين الامم والشعوب على البر والتقوى، والذي يرتكز اساسا على تربية قيم الفرد المعنوية والأخلاقية وتنمية معارفه الإنسانية، وفي النهاية خلق بيئة اجتماعية تقيم علاقاتها وارتباطاتها على اساس من هذه القيم في مجتمعاتها الخاصة وفي ما بينها، وتسعى لتوسعة هذه الدائرة لتشمل خيراتها سائر الناس والمجتمعات الأخرى، فهي ليست انانية تختص نفسها بما تراه خيرا وانما هي مدعوة لتشارك البشرية هذا الخير، وان تواجه الشر أينما وجد، ليس لانه يشكل عائقا امام مصالحها فقط، بل لأنه شر بذاته وقيمة مضادة لقيم الخير والكمال”.
وقال: “إننا وانطلاقا من هذا الفهم لوظيفة الصوم في حياتنا الروحية والعملية، فإن التقوى والاستقامة شرط اساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء الحياة الآمنة والمستقرة، وقد اثبتت التجارب التي مرت بها الامم عبر التاريخ ومررنا بها نحن اللبنانيين ان العلاقات القائمة على أساس الغلبة والاستئثار والقهر والظلم، وليس على اساس التقوى والعدالة، لن تحقق الاستقرار والامن والسيطرة لاحد، وسنبقى ندور في حلقة مفرغة من النزاعات والازمات التي يدفع ثمنها اللبنانيون من امنهم وكراماتهم وحياة ابنائهم واستقرارهم ولقمة عيشهم التي تذلهم وتدفعهم الى مد ايديهم الى من ينقذهم من جميع الطوائف”.
وتابع: “لذا ومن روحية شهر رمضان المبارك شهر التقوى والمغفرة والرحمة، ندعو القوى الفاعلة والمؤثرة الى التعلم من تجارب الماضي الاليم ومن الواقع المرير الذي يعاني فيه المواطنون اللبنانيون من الدمار الذي حل بمؤسساتهم وبيوتهم، وليس ابتداء من كارثة انفجار المرفأ وما نتج عنها من ضحايا ومن دمار للبيوت والمؤسسات الى الكارثة الاقتصادية والنقدية التي تسببت بها السياسات الإجرامية الاقتصادية والنقدية، وما جره ذلك من كوارث على المودعين وعلى المواطنين، وما حل بالبلد جراء الجائحة الصحية، اننا ندعو الى اخذ العبر من ذلك والمبادرة الى العمل على تأليف حكومة في أسرع وقت لوقف هذا التمادي بالاستمرار في ارتكاب الجريمة التي تستنزف ما تبقى من مقدرات البلد وتزيد من آلام المواطنين، الذين يئنون تحت وطأة الازمات المعيشية والصحية ويستغيثون للحصول على لقمة العيش وحبة الدواء التي إن وجدت لا يستطيعون الحصول عليها. ونحن على ثقة بان دولة الرئيس نبيه بري لن يتوانى في الاستمرار بمساعيه وجهوده ومبادرته للوصول الى تشكيل حكومة انقاذية في القريب العاجل”.
وناشد “القوى السياسية التي تقف حجر عثرة امام الحل وتمنع من انجاز تأليف الحكومة، ان يتقوا الله في هذا الشهر الشريف وان يتخلوا عن تعنتهم وعنادهم ويبادروا الى التوافق للبدء بعملية الاصلاح واعطاء اللبنانيين جرعة الامل، بان الخروج من النفق بات قريبا، فإن بقاء الامور على هذا النحو بات يهدد المصالح الوطنية الاستراتيجية، ونحن نشدد على ضرورة القيام بما يحفظ سيادتنا على حقوقنا في ثرواتنا البحرية وعدم الخضوع للضغوط في التخلي عنها بالغا ما بلغت وعدم جعلها مادة للتجاذب السياسي، فان العدو لن يفوت الفرصة اذا ما سنحت له في الاستحواذ على ما يشاء من حقوقنا وثرواتنا، فإن لبنان قادر على انتزاعها واجبار العدو على التخلي عنها، مثلما استطاع بقوة مقاومته وجيشه وشعبه ان يجبره على الانسحاب من معظم ارضه التي احتلها دون قيد او شرط، فقد بات اليوم في اضعف حالاته وقد اصيب اليوم بخيبة اخرى بعد ان اعتقد انه حقق انجازا هاما فى اعتدائه النووي على الجمهورية الاسلامية الايرانية، حيث انقلب السحر على الساحر واضر بنفسه وبداعميه بعد ان كان رد الجمهورية الاسلامية صاعقا بقرارها رفع نسبة التخصيب النووي الى ستين بالمئة”.
وختم: “نجدد التبريك للمؤمنين بحلول شهر رمضان المبارك ونسأل الله تعالى ان يوفقنا لصيامه وقيامه وان يغفر ذنوبنا ويرحم امواتنا ويوفقنا فيه للطاعات وبالأخص صلة الارحام ورعاية المحتاجين والتصدق على الفقراء والمحتاجين واتقوا الله ولو بشق تمره”.