السبت 12 تشرين الأول 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
ما بين طوابير المواطنين الطويلة، المتوسّلين لليتر من البنزين أمام محطات المحروقات التي رفعت خراطيمها، وبين مخزون القمح الذي يُشارف على النفاد، بما يُدخل البلد في أزمة رغيف يخشى ان تطلّ نُذُرها اعتباراً من الاسبوع المقبل، وبين الازمة الاخطر المُحدقة بالدواء وما قد ينتج عن فقدانه من مخاطر على حياة مئات آلاف المرضى من اللبنانيين، دولة تكاد تفقد مناعتها، ومواطن لبناني يتعرّض للابتزاز من كل الاتجاهات.
اذا كان الاجتماع الذي عقد مساء أمس، بين رئيس الحكومة سعد الحريري ووفد مستوردي المشتقات النفطية، قد حمل انفراجاً لأزمة المحروقات، الّا انه يبدو حتى الآن انفراجاً مؤقتاً في ظل التخبّط الذي تعانيه السلطة، والتي ثَبت بالملموس انها لا تتحرّك الّا تحت وقع الصدمة، وبعد ان تكون السلبيات قد تساقطت على رؤوس الناس وأحدثَت إرباكاً على مستوى البلد بشكل عام.
مشهد الذل
فبالأمس، وعلى عين السلطة، تَبدّى مشهد إذلال للمواطن، عبر كل المناطق والطوائف، أوحى بأنّ الامور قد بدأت تخرج فعلياً عن السيطرة في أكثر من قطاع حيوي. وعلى رغم التطمينات المتواصلة، والتعميم الخاص الذي أصدره مصرف لبنان لتنظيم استيراد المحروقات والقمح والادوية، إنفجرت أزمة المحروقات، وسَبقت بالتالي أزمة الرغيف المتوقعة بعد غد الاثنين من خلال الاضراب الذي لَوّحت به الافران والمخابز، فيما تبقى أزمة الأدوية عالقة ومرشّحة لمزيد من التعقيدات.
وقد فوجئ المواطنون امس بإعلان أصحاب محطات المحروقات الاضراب المفتوح، فرفعوا خراطيم المحطات، معلنين الاقفال القسري عن بيع المحروقات. على الأثر، اصطَفّت طوابير السيارات امام بعض محطات المحروقات، وبَدا المشهد مُستفَزَّاً للمواطن الذي استذكَر زمن الحرب، وشعر أنّ البلد ليس في خير، مهما علت أصوات التطمين او التحذير.
جاء قرار أصحاب المحروقات بالاضراب إثر اجتماع طارئ عقدته النقابة نتيجة اعلان تجمع الشركات المستوردة للنفط، امس، وقف تسليم المحروقات في السوق المحلي الّا بالدولار الاميركي. واتهمت شركات استيراد النفط المسؤولين بالإخلال بالاتفاق الذي تمّ مع الشركات لتأمين شراء الدولار بالسعر الرسمي من المصارف، لقاء قبولهم بتقاضي ثمن المحروقات بالليرة من المحطات.
في المقابل، بدأت الافران، واعتباراً من ليل امس، تشهد زحمة غير اعتيادية من قبل مواطنين تهافتوا لشراء كميات من الخبز الاضافي، تحسّباً لانقطاعه بدءاً من بعد غد الاثنين. وبذلك، اكتمل مشهد الذل الذي بات يعانيه المواطن بين المحطات والافران.
بعبدا فوجِئت
الى ذلك، كشفت مصادر وزارية مقرّبة من قصر بعبدا لـ»الجمهورية» انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون فوجىء بإعلان سلسلة الإضرابات التي بدأت من قبل المؤسسات المستوردة للمشتقات النفطية، وما لحقها من قرار لأصحاب المحطات بالتوقف عن بيعها للمواطنين.
وقالت المصادر انّ رئيس الجمهورية أجرى اكثر من اتصال مع المسؤولين عن الملفات المُثارة، ولاسيما حاكم مصرف لبنان، لتوضيح بعض النقاط المُلتبسة في التعميم الذي صدر قبل ايام عدة، واعتبر حلاً لمعظم المطالب التي أثارها المعنيون بهذا القطاع على كل المستويات.
وانتهت هذه الأوساط الى التأكيد انّ السعي قائم لمعالجة القضايا الطارئة، وما لم يُبدِ الجميع استعداداتهم لمواجهة ما يجري ستبقى كل الحلول منقوصة ويدفع المواطنون الثمن.
بري: علاج فوري
وعبّر رئيس المجلس النيابي نبيه بري عن امتعاضه ممّا آل اليه الوضع، وأبلغَ «الجمهورية» قوله: الوضع في منتهى الحساسية والدقة، وكل هذا الذي يجري يستدعي من الحكومة المبادرة الى خطوات عاجلة لمعالجة الوضع، واتخاذ الاجراءات اللازمة التي تحول دون تفاقم الازمة. فأزمة المحروقات خطيرة، والأخطر أزمة القمح التي يجب استباقها بما يمنع حصولها، وهذا مطلوب قبل يوم الاثنين المقبل. أمّا الاخطر من كل ذلك فهو الدواء، لذلك لا بد من عمل إنقاذي سريع.
الحريري: إجراءات صارمة
وعلمت «الجمهورية» انّ قرار أصحاب محطات المحروقات بالاضراب استَفزّ رئيس الحكومة سعد الحريري، وأجرى فور صدور هذا القرار سلسلة مشاورات وزارية، تمحورت حول وجوب المواجهة الفورية لهذا القرار وحَمل أصحاب المحطات على التراجع عن قرار الاضراب.
وبحسب المعلومات، فإنّ الاجتماع الذي عقده الحريري مع ممثلي شركات النفط في السراي الحكومي، وعلى هامش اجتماع لجنة الاصلاحات الوزارية، جاء بناء لطلبه. وتشير المعلومات الى انّ هذا الاجتماع، تحوّل الى اجتماع موسّع شارك فيه العديد من الوزراء اعضاء لجنة الاصلاحات، الى جانب الحريري.
وتفيد المعلومات انّ ممثلي شركات النفط قدّموا مبرراتهم للخطوة التي اتخذوها، وقد سمع ممثلو الشركات كلاماً حاداً من بعض الوزراء، بضرورة العودة عن الاضراب الذي من شأنه ان يَشلّ البلد ويُحدثَ حالاً من الفوضى.
وتقول المعلومات انّ الرئيس الحريري كان صارماً جداً وحازماً في حديثه مع ممثلي الشركات، وأبلغهم ما مفاده أنّ أيّ إجراء ستتخذونه بما يؤثّر على توزيع المحروقات في البلد، لن تسكت الحكومة حياله، بل ستبادر الى اتخاذ القرارات المناسبة، لا بل إجراءات صارمة بوجهه. ومن بين هذه الاجراءات، كما تفيد المعلومات، إمكانية أن تتولى الدولة استيراد المشتقات النفطية وفتح السوق.
وفي خلاصة الاجتماع، كشفت مصادر واسعة الإطلاع لـ«الجمهورية» انه تم التوصّل الى تفاهم بين الحريري وتجمّع شركات مستوردي المشتقات النفطية، بحيث زاد من مستحقات الشركات بالدولار التي سيوفّره مصرف لبنان عبر المصارف، ما يوازي 227 مليون دولار اميركي، يشكّل قيمة المخزونات لديها قبل صدور التعميم الصادر عن مصرف لبنان.
وتبعاً لذلك، اعلن نقيب اصحاب محطات المحروقات في لبنان السيد سامي البراكس، مساء أمس، تعليق التوقف القسري عن بيع المحروقات في أعقاب التفاهم الذي تمّ التوصّل اليه في الاجتماع الذي عقد بين رئيس الحكومة وممثلي تجمع شركات مستوردي النفط، والذي تعهد بموجبه رئيس التجمّع بتسليم المشتقات النفطية الى أصحاب المحطات بالليرة اللبنانية.
جابر
الى ذلك، قال النائب ياسين جابر لـ«الجمهوريّة» أنّ «الأزمة الحاصلة في شأن البضائع المستوردة تشير إلى سوء إدارة، في اعتبار أنّ القرار بتأمين العملة الصعبة للواردات الأساسيّة قد اتخذه مصرف لبنان سابقاً. وبما أنّ المصرف لديه الاحتياطات اللازمة للتغطية الماليّة وهو قادر على ذلك، فإنّ الموضوع أضحى تقنياً بَحت».
وأشار إلى أنّ الحلّ هو في إيجاد الآليات لتنظيم الأمور عبر اجتماعات بين القيّمين على المصارف ومستوردي البضائع، وبإشراف من مصرف لبنان. وتخوّف من استغلال البعض للأزمة ليستفيد من أرباح اختلاف سعر الدولار الاجتماعي عن سعر السوق، داعياً المسؤولين إلى اعتماد الحنكة والسرعة في اعتماد الآليات لضبط السوق.
أمّا عن دور الحكومة، فرأى جابر أنّ الحكومة لديها العلاج ولكنها لا تُسرع في اتخاذ القرار، خصوصاً أنّ الجميع بات يعلم أنّ المطلوب اليوم هو إحداث صدمات إيجابيّة لطمأنة الناس بأنّ هناك تحوّلاً حقيقياً في العقليّة وشفافيّة في التعاطي. ولكن منذ إعلان حال الطوارئ الاقتصاديّة منذ أشهر، والحكومة لا تقوم إلا باجتماعات ومشاورات من دون اتّخاذ أي قرار حقيقي».
عبدالله
ولا يُخفي نائب «اللقاء الديقراطي» بلال عبدالله خشيته من الوضع القائم، قائلاً: «نحن في المجهول، ويمكن أن تتفاقم الأمور اكثر»، ومع ذلك يُشدّد لـ«الجمهوريّة» على ضرورة «إعطاء الفرصة للحكومة ولو أنّ هناك قصور في المعالجة».
وقال: إنّ الحل يكمُن في إيجاد حلول مؤقتة لكي نخرج من هذه الأزمات الطارئة المُتعلِّقة بالرغيف والبنزين والأدوية… وكلّ البضائع المستوردة. من خلال حلّ يطرحه مصرف لبنان بالتّنسيق مع المصارف، وبتغطية سياسيّة لإخراج البلد من «عنق الزجاجة»، مشيراً إلى أنّ «الموضوع لا يحتمل أيّ تأجيل. وهذا ليس الوقت المناسب لرَمي المسؤوليّات على بعضنا البعض كما نفعل دائماً».
عقيص
وقال عضو كتلة «الجمهورية القوية» النائب جورج عقيص لـ«الجمهورية»: الأمور تتسارَع في حين أنّ المعالجات لا تزال بطيئة، فكلنا يعلم أنّ الأزمات المالية تتفاقم في ظلّ مناخ عدم الثقة».
وأشار الى أنّنا «منذ أشهر ونحن ننادي بالاصلاحات قبل أي شيء آخر، وطالبنا منذ إقرار موازنة 2019 بضرورة البدء بالاصلاحات لنستعيد ثقة الشعب اللبناني أوّلاً والمجتمع الدولي ثانياً، وكي لا تتفاقم الأزمة، و«يهَرّب» الدولار من لبنان، وحتى نتمكّن من الاستحصال على التمويل الخارجي وتعزيز مشاريع «سيدر».
وقال: «فقدان الثقة بالداخل، وبطء الإجراءات وتَسارع الأزمة الدولية، كلها تؤدي الى هذه المؤشرات السلبية جداً والمخيفة حقاً».
وعن سُبل العلاج، لفتَ الى ضرورة «الاسراع بإقرار الموازنة، والاصلاحات الجذرية، وتحديداً في قطاع الكهرباء والجمارك والاتصالات، واستكمال منظومة تشريعات الاصلاح ومكافحة الفساد، وذلك بفترات قياسية، ما سيكون من شأنه أن يُظهر للمجتمع الدولي أنّ لبنان فعلاً بدأ يَتحسّس فداحة الأزمة، ومدى الحاجة الى إدخال إصلاحات جذرية بإدارته للمال العام».
وزنة
وفي توصيف ما آل اليه الوضع، قال الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزنة لـ»الجمهوريّة»: لبنان يمرّ في أزمة سيولة. ولذلك، وضع مصرف لبنان إجراءات لتأمين الدولار لاستيراد سلع القطاعات الحيويّة الثلاثة (القمح والدواء والبنزين)، لكنّ القيّمين على قطاع النّفط لا يريدون التنازل عن جزء من أرباحهم، علماً أنّ إجراءات المصرف المركزي تقلّل منها وتزيد أيضاً الرقابة المشدّدة على عمليّة الاستيراد من خلال فتح الاعتمادات كلّ على حدة.
وشدّد على أنّ المعالجة تمّت، وبالتالي لا داعي لاعتراض القيّمين على قطاع البنزين أو حتّى إضرابهم والتهديد به، داعياً إلى تحرير عمليّات استيراد المحروقات.
وأكّد وزنة أنّ العلاجات التي تقوم بها الدّولة حالياً هي علاجات موضعيّة تعطيها الوقت لإيجاد حلّ جذري، لافتاً إلى أنّه مع اقتراب موعد الاستحقاقات الكبرى: إقرار موازنة 2020، وانعقاد «لجنة سيدر» في تشرين الثاني المقبل، وبدء استكشاف عمليّة التنقيب عن النفط في كانون الأوّل المقبل، تزداد الضغوط بشكل كبير على الدولة اللبنانيّة من دون أن يكون لها مبرّر». وتساءل: «هل انّ هناك من لا يريد أن يصل لبنان إلى مرحلة التنقيب عن النفط في كانون الاول المقبل؟
«الكتائب»
وأشارت مصادر كتائبية لـ«الجمهورية» أننا «في صلب أزمة خطيرة ومصيرية، والحل يبدأ بتحَمّل المسؤولين عن الأزمة مسؤولياتهم من خلال محاسبة انفسهم على فشلهم قبل ان يحاسبهم الناس». وأكّدت أنّ «المحاسبة تتطلب أوّلاً، جرأة أدبية تبدأ بالاعتراف بالفشل نتيجة للعجز او نتيجة لعدم الرغبة بذلك او نتيجة للقبول بالأمر الواقع والاستسلام له في مقابل بعض المنافع السلطوية، وثانياً، جرأة في القرار بحيث يستقيل كل الطقم الحاكم، فترحل السلطة وما تمثله من معادلات وتسويات وصفقات بالتكافل والتضامن بين شركائها».
لجنة الاصلاحات
في هذا الوقت، تابعت لجنة الاصلاحات اجتماعاتها في السراي الحكومي برئاسة رئيس الحكومة، وخَلصت الى الاعلان عن الاتفاق على مجموعة قرارات سيتخذها مجلس الوزراء، وسلّة من الإجراءات التي ستُحال إلى المجلس النيابي بموجب مشاريع قوانين أو مراسيم» الى جانب الموازنة. وعلمت الجمهورية انّ مجلس الوزراء سيصوّت في جلسته الاثنين المقبل ما اذا كان سيتضمّن إدراج الاجراءات الضريبية في الموازنة أم ستاتي بمشاريع قوانين على حدة.
المصدر: الجمهورية