مجلة وفاء wafaamagazine
كتب إستشاري طب الأطفال هاني رمزي عوض في “الشرق الأوسط”: أحدث الدراسات التي تناولت موضوع تلوث الهواء، ونشرت على الإنترنت في نهاية شهر نيسان من العام الحالي في مجلة «الرابطة الطبية الأميركية» (JAMA Network Open)، وجدت أن التلوث يؤثر أيضاً على الصحة العقلية للأطفال الذين يتعرضون لكميات كبيرة من الهواء الملوث لاحقاً، حينما يصبحون بالغين وليس فقط على الصحة العضوية.
إن كلمة الهواء الملوث تعني تغير طبيعة الهواء الموجود في الجو بدقائق من مواد صلبة (معادن وذرات متناهية الصغر)، أو أبخرة مختلفة (غازات) بنسب معينة أكبر من النسب المسموح بوجودها، وبالتالي تشكل خطراً في حالة دخولها للجسم عن طريق الاستنشاق. وتنبعث هذه الأبخرة من عوادم السيارات والمواد الكيميائية في المصانع بجانب ذرات التراب. ومن هنا تأتى أهمية وجود الأشجار والمناطق الخضراء في المجتمعات الصناعية، حيث تقوم بزيادة كميات الأكسجين الموجودة في الجو لتعادل تلك المواد. ولكن في المدن المزدحمة والصناعية لا تكون المساحات الخضراء كافية لتلافي تلك الأخطار.
وقد وجد الباحثون من جامعة ديوك بالولايات المتحدة (Duke University in Durham)، أن الشباب في المملكة المتحدة الذين تعرضوا لكميات متزايدة من تلوث الهواء في طفولتهم ومراهقتهم كانوا أكثر عرضة للإصابة بأعراض الاضطراب النفسي والعقلي، خصوصاً الذين عاشوا في المدن الكبرى التي تعاني من ازدحام المرور وعوادم السيارات مثل أكاسيد النتروجين (Nitrogen oxides). ولاحظ الباحثون أن متوسط العمر الذي كانت فيه ذروة الأعراض هو 18 عاماً، وشملت معظم أعراض الأمراض النفسية مثل القلق والمخاوف المختلفة ونوبات الهلع والاكتئاب والفصام. وأوضحوا أنه رغم أن الدراسة أجريت في المملكة المتحدة، إلا أن نتائجها مهمة للمجتمعات التي تتمتع بالتقدم التكنولوجي والدخل العالي، والمجتمعات الصناعية بشكل عام.
قام الباحثون بجمع البيانات الخاصة بـ2000 من المواليد في إنجلترا ومقاطعة ويلز بين عام 1994 و1995 الذين تمت متابعتهم حتى وصلوا إلى مرحلة الشباب. وتابعوا القياسات الخاصة بتلوث الهواء في تلك المدن من الغازات المختلفة، وأيضاً الجسيمات الناعمة الدقيقة (fine particulate)، التي يمكنها الترسب في خلايا الجسم المختلفة، حيث إن حجمها متناهي الصغر وتدخل إلى جسم الإنسان من خلال الجهاز التنفسي.
كانت النتيجة أن 22 في المائة من الذين شملتهم العينة استنشقوا هواءً ملوثاً محملاً بكميات من أوكسيد النتروجين أكبر بكثير من المسموح بها من قبل منظمة الصحة العالمية، و84 في المائة تنفسوا كميات أكبر من الجسيمات الدقيقة.
تقييم الصحة العقلية
قام الباحثون بتقييم الحالة النفسية للمشاركين في عمر الـ18 من خلال متابعة الفئة التي اعتمدت على المواد المخدرة المختلفة، سواء نبات القنب (الحشيش) أو الأدوية المنومة، وأيضاً شملت حالات إدمان الكحوليات والتدخين. وكذلك تمت مراجعة سجلات الذين عانوا من أمراض نفسية أو عصبية مثل فرط النشاط، ونقص الانتباه، ومحاولات الانتحار، والفشل في التواصل الاجتماعي، وكرب ما بعد الصدمة، والاكتئاب ثنائي القطب، والشخصية الحدية، وأيضاً من عانوا من اضطرابات الطعام المختلفة، سواء الشراهة المفرطة، أو عدم تناول الطعام مطلقاً، بجانب الضلالات، حتى المرض العقلي الكامل.
وقدم العلماء إحصائية أشبه بمعادلة حسابية، حيث يكون عامل الاعتلال النفسي (psychopathology factor) هو «عامل بي» أو «p – factor». وكلما زاد هذا العامل، الذي يعنى بالضرورة تدهور الصحة النفسية، كلما زادت فرص الإصابة بالمرض العقلي والنفسي لاحقاً. وقام العلماء بتثبيت بقية العوامل الأخرى التي ربما تلعب دوراً في تفاقم الحالة النفسية مثل الفقر أو انفصال الأبوين وسوء الأحوال الاقتصادية أو الإقامة في مناطق خطرة، والتعرض للمعاملة السيئة من الأقران أو أفراد الأسرة حتى يكون الحكم فقط على تلوث الهواء.
أشار العلماء إلى أهمية أن توضع نتائج هذه الدراسة في الحسبان للكشف المبكر على الاضطرابات النفسية للأطفال الذين يعيشون في مناطق بها نسبة عالية من التلوث البيئي. وتبعاً للدراسات السابقة على فئران التجارب، فهناك أدلة مؤكدة على الأثر السيئ الذي تتركه ملوثات الهواء على المخ، ويعتقد الباحثون أنه نتيجة لحدوث التهاب مناعي من ترسب الدقائق المختلفة في خلايا الجسم، التي تصل إلى المخ من خلال الدم ربما يكون هو التفسير الأقرب للطريقة التي يؤثر بها الالتهاب على المخ والجهاز العصبي بشكل عام.
وهناك تفسير آخر يعتقد أن الضرر الناتج للمخ ربما يكون مباشراً من الدقائق الملوثة التي تصل عن طريق الأنف، والتي بدورها تدمر خلايا المخ والوصلات العصبية المختلفة.
وحذر العلماء من خطورة التعرض لهذه الملوثات، ونصحوا بضرورة أن تكون الأنشطة التي تؤدي إلى انبعاث هذه الغازات مثل مولدات الطاقة أو محارق النفايات أو المصانع المختلفة خارج المدن في أماكن بعيدة عن التجمعات السكنية والمدارس والنوادي، إضافة إلى العمل على إيجاد مصادر بديلة للطاقة غير ملوثة للبيئة. وأيضاً نصحت الدراسة الآباء بمحاولات تجنب السكن على الطرق السريعة والشوارع الرئيسية المكتظة بالمركبات، كلما أمكن ذلك، حيث إن خطرها على الأطفال بالغ الخطورة، ونصحت الحكومات بضرورة الاهتمام بالبيئة والتشجير المستمر.