مجلة وفاء wafaamagazine
أفضى الاجتماع الاستثنائي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، أمس، إلى قررات تتماهى مع الموقف الرسمي الفرنسي، إذ اكتفى قادة «إكواس» بإدانة الانقلاب الأخير في مالي، وتجميد عضويتها ومطالبة الانقلابيين بإنهاء الإقامة الجبرية المفروضة على الرئيس ورئيس الحكومة المعزولين.
لم يصعّد الاجتماع ضد الانقلابيين برغم طبيعة القمة الاستثنائي؛ فلم يفرض عقوبات عليهم، ولا حدّد ترتيباً لآلية تسليمهم السلطة إلى المدنيين. واستتر قادة «إكواس» خلف تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي قال فيها إن فرنسا «لن تبقى في جانب بلدٍ لم تعد فيه شرعية ديموقراطية ولا انتقال سلمي للسلطة»، وتهديده بسحب قواته من مالي في حال سارت «باتّجاه التطرف الإسلامي».
لم يكن تهديد ماكرون الأخير، ردة فعل على إطاحة الجيش بالرئيس ورئيس الحكومة في مالي، فشعار «انتقال الشرعية بالديمقراطية» ليس أولوية ماكرون على المستوى الشخصي، ولا فرنسا على المستوى السياسي، فمنذ أسابيع فقط، كان ماكرون ينعى رَجُله القوي في تشاد، إدريسي ديبي، ويبارك في الوقت نفسه لابنه الذي استولى على السلطة بمجلس عسكري.
في ظل التهديدات الداخلية لنظام ماكرون وحزبه «الجمهورية إلى الأمام»، من قبل اليسار واليمين على حد سواء. يحاول الرئيس تحقيق مكاسب سياسية عبر التنصل من الاتهامات الموجهة إليه بدعم الديكتاتوريين في أفريقيا؛ وكان هذا ما دفعة لإحراج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة، وسؤاله عن حقوق الإنسان والحرية في بلاده.
غير أن حديث ماكرون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في أفريقيا، لا تعكسه صفقات الأسلحة والتدخل العسكري المباشر لصالح حلفائه. أما عن تهديده بسحب القوات العسكرية الفرنسية، المتواجدة منذ 8 سنوات تحت اسم عملية «برخان» لمكافحة الحركات المتمردة في الساحل الأفريقي. فهي غير جديدة، ويستبعد أن تكون قابلة للتطبيق في ظل الظروف الراهنة، لأسباب عديدة.
مستعمرات (غير) سابقة
في العام 1962، كلف الرئيس الفرنسي شارل ديغول مستشاره جاك فوكارت ببناء شبكة اتصالات شخصية بين القيادة الفرنسية ونخب المستعمرات الفرنسية السابقة. حافظت فرنسا على وجودها داخل مستعمراتها الأفريقية السابقة، وخاصة في غرب أفريقيا (السنغال ومالي وبوركينا فاسو وبنين وغينيا وساحل العاج والنيجر)؛ وأسست لوجودها الدائم بعدة طرق.
أولها، السيطرة النقدية من خلال عملة مشتركة «الفرنك الأفريقي» ويأتي مع مجموعة من اللوائح أو ما يسمى بالاتفاقيات النقدية، إحداها هو الاحتفاظ بجزء من احتياطيات النقد الأجنبي لـ 14 دولة أفريقية في الخزانة الفرنسية في باريس، وحتى الآن حيث تبلغ هذه النسبة 50% من مجمل احتياطيات كل بلد.
وثانيها، الوجود العسكري؛ إذ وقعت ست دول ناطقة بالفرنسية اتفاقيات دفاع مشترك أو اتفاقيات تعاون عسكري تقني مع فرنسا، مباشرة بعد الاستقلال. وتضمنت الاتفاقات، ضمان تدخل فرنسا في حالة العدوان. وبين عامي 1981 و1995، كان هناك ما يصل إلى 60 ألف جندي فرنسي في دول إفريقيا الناطقة بالفرنسية، فيما تقلص عددهم اليوم إلى 12000 جندي.
يضاف إلى ذلك، ووفق قول مستشار أفريقيا السابق للرئيس نيكولا ساركوزي، رومان سيرمان: إن «بعض الاتفاقيات تضمنت فقرات سرية، تمنح فرنسا حق احتكار استغلال الموارد الطبيعية في البلدان المعنية». كما في الجزائر، الدولة الوحيدة التي لديها اتفاقية طويلة الأمد مع فرنسا بشأن تجارة الغاز.
الاتفاقات التي أسّس لها فوكارت لا تزال سارية المفعول حتى اليوم؛ وهي تشمل الحماية ضد محاولات الانقلاب ودفع رشاوى كبيرة لضمان احتكار الموارد الاستراتيجية مثل الماس واليورانيوم والغاز والنفط.
والنتيجة، وجود قوي للمصالح الفرنسية في القارة، بما في ذلك آلاف الشركات الناشطة.
في العام 2009 أصدر المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية كتيباً بعنوان «إفريقيا تظل سوق تصدير مُهِم»، جاء فيه أن إجمالي صادرات المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا إلى فرنسا في العام 2009، يساوي 5.3% من إجمالي الواردات الفرنسية، بقيمة تصل إلى 1.6 مليار يورو، بينما يبلغ إجمالي الصادرات من فرنسا إلى المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا، في العام نفسه، 13.9% من إجمالي الصادرات الفرنسية، بقيمة 4. 4 مليار يورو.
لذلك كان لفرنسا تاريخ حافل بالتدخل العسكري المباشر، منها في الكونغو الديموقراطية (1978) لمساعدة الرئيس موبوتو سيسي سيكو ضد تمرّد محلّي، وفي إفريقيا الوسطى (1979) ضد الإمبراطور جان بيدل بوكاس، وفي تشاد (1983 و1986) لدعم الرئيس حسين حبري في وجه تمرّد شمالي وتوغّل ليبي.
كذلك أرسلت فرنسا قوات إلى ساحل العاج (2002) لحماية الحكومة هناك؛ وتدخّلت بعملية واسعة في مالي (2013) لمنع سقوط باماكو في يد الجماعات المسلّحة، لتتطور في العام التالي إلى عملية إقليمية واسعة في منطقة الساحل، تضع نصب عينها هدف محاربة «الإرهاب».
الخيط الأخير جنوب المتوسط
واقع الشراكة الفرنسية مع النخبة الحاكمة في المستعمرات الأفريقية السابقة، يقتضي حماية الأنظمة من الفصائل المتمردة والحركات الثورية، في مقابل إطلاق يد الشركات الفرنسية داخل تلك الدول.
منذ 2014 صرح قائد القوات الفرنسية في أفريقيا الوسطى، الجنرال فرانسيسكو سوريانو، «أنَّ فرنسا سوف تبدأ بسحب قواتها تدريجياً من جمهورية إفريقيا الوسطى» ورغم أن الانسحاب تم (نظرياً) في 2016 إلا أن جزءاً كبيراً من القوات بقي متواجداً بحجّة «حماية المكتسبات».
السياسة الفرنسية المتخبطة في شأن الانسحاب من أفريقيا، يقودها سعي ماكرون لاسترجاع شعبيته المسروقة بعدة طرق، كان آخرها الحرب الإعلامية التي شنّها على الإسلام، وتماهيه مع الحملة المكثّفة لربط معاداة الصهيونية بمعاداة السامية.
كما حاول ماكرون استماله اليسار عن طريق مغازلة المبادرات الديمقراطية، أخرها كان مؤتمر دعم أفريقيا وفلسطين، والتلويح بسحب القوات الفرنسية من أجل ترك حرية الاختيار للشعوب الأفريقية في بلدانها.
وقد يكون رئيس أركان الجيش الفرنسي الجنرال فرانسوا لوكوانتر، عبّر بشكل أوضح في كانون الأول 2020 عن مقاربة الإيليزيه لموضوع الانسحاب، إذ قال إن «من المرجح أن تقوم فرنسا بسحب جزئي لقواتها في الأيام أو الأسابيع المقبلة، من الساحل الأفريقي (…) ولكن لا مجال للسماح للروس والصينيين بملء الفراغ الذي سيتركه الجيش الفرنسي».
وتخشى فرنسا إزاحتها بشكل كليّ من مستعمراتها القديمة على يد الصين وروسيا، بعد تقلّص نفوذها في مناطق أخرى مثل شرق المتوسط. فتحاول فرنسا التشبث ببعض المكتسبات؛ وتكتفي من حين لآخر بالتلويح بسحب جنودها، وهو الأمر الذي لو حدث سيكون هدية للصين وروسيا، الجاهزتين للعب هذا الدور.
تدرك فرنسا ذلك جيداً، لذا ظهر خلاف حاد بينها وبين واشنطن حين قرر دونالد ترامب سحب قوته من أفريقيا، فقوتها الموجودة الآن هي آخر ما تبقى لها من أطلال الإمبراطورية الفرنسية في أفريقيا.
الاخبار