مجلة وفاء wafaamagazine
باعتراف القيّمين عليها، تدفع بلدية بيروت اليوم ثمن نهج سوء إدارتها «الأزلي» الذي يفتك بها. أغنى بلديات لبنان لا تمتلك جرافة ولا فرق صيانة ولا حتى القدرة على تنظيم طابور أمام محطة محروقات!
منذ اشتداد الأزمة دخل المجلس البلدي لمدينة بيروت في غيبوبة، قبل أن «يستفيق» أعضاؤه الشهر الماضي على رسالة وصلت إليهم عبر مجموعتهم الخاصة على «واتساب» تدعوهم إلى… المشاركة في وفد بلدي لتقديم التعازي بوفاة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان!
يجزم غالبية الأعضاء أن هذه الرسالة هي «الأولى» للمجلس التي تدعوهم فيها إلى «التحرّك» منذ «زمن»، في ظل غياب تام للبلدية التي كان احتياط حساباتها المتراكمة لدى مصرف لبنان يتجاوز 700 مليون دولار، عن القيام بأي نشاط.
المعنيون في البلدية يعزون سبب «تكتيف» يديها في ظلّ الانهيار إلى «خذلان» المتعهدين، أولئك الذين استفادوا على مر سنوات طويلة من صفقات تلزيم كثير من المشاريع بالتواطؤ مع «رؤوس» البلدية ومن خلفهم التيار السياسي الذي ينتمون إليه (تيار المُستقبل بالدرجة الأولى).
يوضح أحد أعضاء المجلس البلدي أن المتعهدين يمتنعون حالياً عن التقدّم للمناقصات بسبب الإجراءات القانونية التي لا تسمح بالدفع للمتعهد إلّا بعد تنفيذ الأعمال، «إذ يتطلّب الحصول على موافقة مسبقة من وزارة الداخلية وديوان المحاسبة ثم توقيع محافظ المدينة أربعة أشهر على الأقل، وهي مدة كفيلة بتغير قيمة الدولار بشكل كبير وبالتالي تغير الكلفة والربح». لذلك، «قبل أن يستقرّ سعر الصرف، لن يدقّ أيّ متعهد باب البلدية».
الأمر نفسه يؤكده محافظ المدينة (رئيس السلطة التنفيذية للبلدية) مروان عبود، مشيراً إلى أن امتناع الإدارات السابقة عن تنمية القدرات الذاتية للبلدية أدى إلى العجز عن قيامها بكثير من المهام المطلوبة خلال الأزمة. فبلدية بحجم بلدية بيروت لا تمتلك، مثلاً، جرافة أو آليات أخرى وغيرها من التجهيزات المطلوبة للقيام بأدنى أعمال الصيانة، «فضلاً عن عدم وجود فرق تابعة للبلدية لإجراء الصيانات اللازمة». لذلك، عجزت البلدية عن إرسال ولو جرافة واحدة لرفع الردم في المناطق المتضررة من انفجار المرفأ، فيما حضرت آليات بلديات «مجاورة» كبلدية الغبيري لتقديم العون. وللمقارنة، هنا، فإن بلدية الغبيري التي لم تكن موازنتها قبل الانهيار تتجاوز سبعة ملايين دولار، تمتلك فرق صيانة تضمّ نحو مئة موظف وعامل فضلاً عن آليات وتجهيزات بقيمة مليون دولار.
ويلفت عبود إلى أن لدى البلدية 70 نقطة تحتوي على مولدات خاصة للبلدية، «ونحن عاجزون اليوم عن حمايتها من السرقات لعدم توفر العدد الكافي من الحراس. إذ نحتاج تقريباً إلى 600 حارس لتأمين المناوبات، فكيف بنا نؤمن هذا العدد في ظلّ امتناع كثير من الموظفين العاديين عن تأدية أعمالهم بسبب عجزهم عن الحضور وتدني الرواتب؟».
إدارة البلدية حالياً أشبه بمن يقود سيارة «على ماي»، يقول عبود مُشيراً إلى أن مهامه الحالية تتركز على السعي لإبقاء البلدية «على قدميها» عبر تأمين رواتب من هنا، ومصاريف محروقات من هناك. وهو يرى أن «إنجاز» البلدية الأبرز اليوم هو «قدرتها على إزالة النفايات من الشوارع»، في إشارة إلى المشاكل التي طرأت بسبب الأزمة على أكلاف نقل النفايات وجمعها مع المتعهّد وغيرها.
لا تمتلك البلدية جرافة واحدة ولا فرقاً للصيانة بعدما سلّمت رقبتها للمتعهدين
خلال الأزمة، عمدت بلديات صغيرة إلى تأمين تمويل لتركيب طاقة شمسية للبلدة وعملت أخرى على خلق منصات لتوزيع البنزين وتنظيم الطوابير فضلاً عن لجوء كثير من البلديات إلى التعاون مع مستوصفات ومراكز صحية لتخفيف عبء الاستشفاء عن المُقيمين ضمن نطاقها. وعليه، ليس تفصيلاً عابراً أن تغيب بلدية بيروت التي تُعدّ «الأغنى» عن كل هذه الملفات الحيوية لأهالي العاصمة.
يقول بعض أعضاء المجلس البلدي إن المُقارنة مع البلديات الصغيرة لا تصح لأنّ هامش التحرك في البلدات والمدن الصغيرة مريح أكثر لسببين: الأول وهو «سهولة إحداث فرق عبر تأمين كلفة بسيطة، مثلاً كلفة تركيب الطاقة الشمسية في أي بلدة توازي كلفة إنارة مبنيين في العاصمة»، والثاني هو امتلاك بقية البلديات آليات وفرق خاصة فيها وهو أمر «لا تمتلكه بلدية بيروت». كما أن ثمة شقاً تقنياً مرتبطاً بالرقابة اللاحقة على الصرف في بقية البلديات في حين أن بلدية بيروت تحتاج إلى رقابة مسبقة، وهو أمر يعرقل مسألة صرف الأموال والقيمة المتّفق عليها بسبب التغير الدائم الذي يشهده سعر صرف السوق.
ولكن، إن كانت هذه الحجة تُبرّر عدم جواز المقارنة مع بقية البلديات، فأي حجة قادرة على تبرير عدم امتلاك البلدية لجرافة واحدة في العاصمة سوى أنها تدفع ضريبة تسليم رقبتها للمتعهدين؟ أحد أعضاء المجلس البلدي يقول إن حجة عدم امتلاك آليات خاصة كانت وقتذاك تجنّب الكلفة الناجمة عن التوظيف الذي يتطلبه تشغيلها، فيما يُشير المدافعون عن البلدية إلى أن اللجوء إلى القطاع الخاص كان هدفه «تجنّب التوظيف السياسي وعدم الثقة بالقدرة على ضبط الفساد وتحقيق الشفافية». وهو كلام يبدو مُستغرباً لدى غالبية المُطّلعين على «دهاليز» البلدية التي كان بعض أعضاء مجلسها «يُجبرون» على توقيع موازنتها من دون الاطلاع عليها (باعتراف أحد الأعضاء السابقين). لا بل إنّ الحديث عن الشفافية وتجنب الفساد والرغبة بضبط الهدر كأسباب دفعت الإدارات السابقة إلى الارتماء في حضن المتعهدين يُصبح مُضحكاً عندما نتذكر بـ«عطاءات» المجلس البلدي السخية. وتكفي الإشارة إلى قرار المجلس البلدي المتّخذ في 21/4/2017 بإعطاء مساهمة مالية بقيمة 900 ألف دولار لجمعية «بيست» دعماً للمهرجان الذي أقامته الجمعية على الواجهة البحرية لوسط بيروت. بعدها بعام، قررت البلدية دفع مليون دولار للجمعية نفسها لقاء تزيينها شوارع المدينة خلال المناسبات لثلاث سنوات مُقبلة ، علماً أن المجلس نفسه كان قد تبرّع بمساهمة مالية بقيمة مليون دولار لجمعية «مهرجانات بيروت الثقافية»، التي شارك في تأسيسها رئيس المجلس جمال عيتاني.
وإلى هذه المساهمات «السخية»، ثمة عشرات الصفقات والملفات المشبوهة التي تفضح سوء إدارة البلدية، أبرزها صفقة التشجير الوهمي الذي قامت به البلدية لقاء خمسة ملايين دولار. وهذه الصفقات وغيرها كانت تتم برعاية «كبار» المسؤولين من تيار المُستقبل كفؤاد السنيورة وآل حريري، مثل الصفقة التي نفذها المجلس البلدي عام 2015 في عهد بلال حمد والتي قضت بدفع مبلغ 40 مليون دولار ثمناً لعقار لا تملك البلدية خريطة له ولا تعرف من يشغله!
أمام هذه الوقائع، يغدو عجز البلدية حالياً «مفهوماً»، فمن أهدر ملايينه في أيام الرخاء على المهرجانات، يعجز اليوم عن تنظيم طابور في العاصمة.
الاخبار