مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، قداسا إلهيا في المطرانية في بيروت، في حضور عدد من المؤمنين.
وبعد القداس ألقى عوده عظة قال فيها: “نلمس في مثل الغني الذي كان يتنعم كل يوم تنعما فاخرا ولعازر الفقير المطروح عند بابه إحدى المشاكل الإجتماعية الكبرى التي تخلق صدامات واضطرابات في المجتمعات البشرية، بسبب عدم توزيع الغنى بالتساوي، وعدم شفقة الأغنياء على الفقراء. فالغنى صنم، والساجدون له كثيرون، ليس من الأغنياء فقط، إنما من الفقراء أيضا، لأن المشكلة الجوهرية ليست في امتلاك الغنى، بل في تحويله من وسيلة إلى هدف للحياة”.
أضاف: “إن التعلق المفرط بالأمور المادية يؤدي إلى ضلال الروح. الجشع يؤدي بالإنسان إلى الهاوية، لأنه ينسى إنسانيته ويدوس كل من وما يواجهه من أجل الوصول إلى بغيته. والجشع يكون للمال والسلطة والمركز وكل ما يبرز الأنا ويجعلها تنتفخ. حب الذات الذي يولده الجشع يمنع صاحبه من تطبيق وصية الرب ومشاركة الآخرين النعم التي منحه إياها، وقد يقوده إلى سلب المجتمع كل موارده. لذلك لعبادة الغنى دور أساسي في الثورات الإجتماعية، ولا نبالغ إذا قلنا إن المجتمع يحركه المال والإقتصاد. طبعا، لا ترتبط التحولات الإجتماعية العميقة بعظمة الإقتصاد، بل يولدها إيمان القديسين الحي، وهو يمنح كل من يقترب منه إحساسا آخر بالحياة. هذا الإيمان يقلب الأنظمة السارية، فيجعل الفقير متقدما، والغني متوسلا إلى الفقير. إن الصورة التي يعطينا إياها إنجيل اليوم عن حالة الغني وعن لعازر الفقير بعد الموت، تفهمها عيون القديسين النقية منذ الآن، في وسط المظالم الإجتماعية، لأنهم ينظرون إلى الباطن لا إلى الظاهر، إلى آخرة الظلم لا إلى قوة الطاغية. فآخرة الظلم صراخ الغني اليائس: يا أبت إبراهيم، إرحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بالماء ويبرد لساني (لو 16: 24). لكن المعذب لن يكون الغني عديم الشفقة وحده، إنما أيضا الفقير عديم الصبر، إبن الغضب، لأنه في عوزه يرى الغنى كأنه الخير الأسمى، فيصل إلى الحسد والبغض تجاه البشر”.
وتابع: “كان غني المثل عبدا لحب الذات ولأنانيته، مغلقا على نفسه يتنعم كل يوم مترفها كما يقول الإنجيل. محبته لنفسه أماتت عاطفته الإنسانية، فلم يهتم لحالة لعازر الفقير. إستسلم كليا لراحته وغناه، ما لم يمنعه من إتقاء الله، أي من الإيمان بوجوده وحفظ بعض أوامر الناموس. في المثل، لم يدن الغني بسبب عدم إيمانه، بل بسبب قلة محبته. هذا ما يؤكده القديس غريغوريوس بالاماس، معلقا على الطريقة التي تكلم بها الغني مع إبراهيم بقوله: لقد دعاه يا أبت إبراهيم، وهذا يدل على أنه يتقي الله، ولا نظن أنه يتعذب بالنار بسبب عدم إيمانه. لقد دخل إلى مكان العذاب كفاقد للرحمة وكمحب لنفسه، وليس كجاحد.
ربما ظن الغني نفسه مؤمنا بالإله الحقيقي، لكنه في الحقيقة كان عابد أوثان. عاش في عبودية الأهواء، وتواجد الإيمان وعبودية الأهواء حالة من انفصام الشخصية، منتشرة جدا بين البشر. يقول القديس أثناسيوس الكبير: عاشق الهوى ومحب اللذة ينكر المسيح ويسجد للصنم. لكي يكون الإيمان مستقيما، يجب أن يرتبط مباشرة بالعمل. لا يستطيع أحد أن يرضي أهواءه، وأن يرجو خلاصه بإيمانه في الوقت نفسه. الإيمان الذي يخلص ليس أفكارا عن الله لا علاقة لها بحياتنا اليومية. الإيمان يخلص عندما يروي كياننا كله ويوجه كل أعمالنا، وإلا نختبر انقساما رهيبا في شخصيتنا. هذا الإنقسام الناجم عن الكسل الروحي كثيرا ما يظهر لابسا ثوبا إيمانيا. فقد يهتم المؤمن بالشكليات الإيمانية الفريسية، ويغفل المحبة التي هي أساس الإيمان والأعمال والنمو الروحي. المسيح والأنبياء والرسل أرشدونا إلى الأسباب التي تغلق علينا في سجن الأنانية، وتقضي على المحبة. واليوم، يعلمنا المسيح أن الإيمان لا يخلص إن لم ترافقه المحبة والرحمة. يقول الرسول يعقوب: كما أن الجسد بدون روح ميت، هكذا الإيمان أيضا بدون أعمال ميت (يع 2: 2).
وأردف عوده “بعد موت الغني ولعازر إنقلبت الأدوار. وجد الغني نفسه في العذاب، بينما لعازر الفقير ذهب إلى أحضان إبراهيم، حيث سكنى الفرحين. لم يرتبط عذاب نفس الغني بأهوائه الكثيرة وعدم توبته وحسب، بل بانعدام حس التوبة لديه أيضا. لافت أنه لما وجه كلامه إلى إبراهيم، لم يقل له: إرحمني لأني بطريقة حياتي أشعلت هذه النار. لم يعترف بمسؤوليته عن الحال التي وصل إليها، بل اشتكى من آلامه، لذلك ذكره إبراهيم بأنه استوفى خيراته في حياته. إن النفس المقيدة بأهواء الجسد تدرك في ساعة موتها أنها مربوطة، مسجونة داخل الجسد، تتعذب وتعاني بما يفوق التصور. بينما الإنسان المنضبط، الذي ساد على رغباته ووحد إرادته بمشيئة الله، يكون ساعة موته هادئا وحرا، يعيش الحضرة الإلهية بالصلاة، وينتقل إلى الحالة الجديدة بسلام. إذا، لو استطعنا أن نستشف، من خلال الثورات الإجتماعية وسائر أعمال الظلم، الأسباب الحقيقية التي تحدثها، لرأيناها ناجمة عن صناعة الأوثان وعبادتها، وهاتان تنشآن بدورهما من الكسل الروحي والاستعباد لنزوات الأهواء الآثمة”.
وقال: “مثل اليوم، درس لجميع الساعين إلى المال والسلطة وإشباع الأنا على حساب راحة الآخر وكرامته. درس للمسؤولين الذين لا يشبعون من ملء جيوبهم من أموال الشعب المسكين، الذي وصل إلى أقصى درجات الفقر والذل والتشرد، ما دفع الكثيرين إلى البحث عن الخلاص خارج موطنهم وأرضهم. درس لكل مسؤول يضحك على الشعب بكلام معسول مدعيا الدفاع عن حقوقهم، فيظهر لهم تقواه الزائفة بغية الحصول على رضاهم، ثم أصواتهم في الإنتخابات، وبعد ذلك يضرب عرض الحائط جميع حقوقهم وكرامتهم، إلى حين يأتي الإستحقاق التالي، فيعود إلى إطلاق الشعارات والوعود التي تدغدغ آذان الشعب المريض بآفة عبادة الزعيم. هكذا نسقط في دائرة مفرغة، لأن الغني أفقر الشعب، ثم مننه بما له أصلا، كما أن الفقير وقع في الفخ وظن أن الزعيم هو إلهه الذي يطعمه وينجيه من الفقر والجوع. نسي الغني أو الزعيم الله فاستعبد الشعب الفقير، كما نسي الشعب الفقير الله وعبد الزعيم الذي اشتراه بثمن بخس. المسيح اشترانا بدمه الثمين على الصليب، فهل يستحق النسيان؟. القوي ومن في يده سلطة أو مال، يقع في تجربة استعباد الضعيف والفقير. لكن العبد الفرح بعبوديته يصبح سلعة تشرى وتباع، ويكون عن الحرية غريبا، والحرية منه محررة، وقد يدخل في مدرسة الخيانة، ولها معلمون كثر”.
ولفت الى أن “بلدنا مقبل على انتخابات، والشعب الذي ثار وفجر ونهب وجوع وشرد وأهين يملك مفاتيح التغيير، وسيرتكب خطيئة عظمى بحق أولاده وأرضه إن لم يحدث التغيير المنتظر، حتى يعود بلدنا إلى المراتب الريادية بفضل أناس يختارون حسب كفاءتهم وخبرتهم ونزاهتهم وبرنامج عملهم، لا وعودهم وانتماءاتهم وجيوبهم. إن الإقتراع حق، لكنه أيضا واجب على المواطن القيام به بوعي وجدية ومسؤولية، وإلا فليتحمل نتيجة تقاعسه ولامبالاته. الثورة الحقيقية هي ضد الخطيئة، والخطيئة الكبرى بحق بلدنا أن يبقى متربعا على عرشه كل من تسبب بأي أزمة صغيرة أو كبيرة. على الجميع أن يستيقظوا من سباتهم، قبل أن يدهمهم موعد النومة النهائية لهذا البلد الحبيب”.
وختم عوده: “لنتعلم من مصير الغني في إنجيل اليوم كيف نتوب قبل فوات الأوان، ومن لعازر كيف نحتمل بإيمان وصبر. الدرس الأهم هو أن العدالة الإلهية لا تشترى بالمال والجاه والسلطة، حتى ولو كان صاحبها مسيحيا على إخراج قيده. لذلك، التواضع والمحبة ضروريان في هذه الحياة قبل الانتقال والمثول أمام العرش الإلهي، حيث يكون الثواب أو العقاب عن الأفعال التي حصلت على هذه الأرض، آمين”.