مجلة وفاء wafaamagazine
تدفعنا رغبتنا في الشعور بالقبول إلى التفكير في آراء الآخرين، حتى وإن لم نكن مرحبين بهم في حياتنا الحقيقية، إلا أنهم ضيوف على عقولنا قبل اتخاذ أي قرار، أو كما كتب الفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس، قبل ألفي عام، “إننا نحب أنفسنا أكثر من الآخرين، لكننا نهتم بآرائهم أكثر من آرائنا”، سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء أم غرباء.
اعتمد استمرار الحضارة البشرية منذ قديم الأزل على الانتماء لعشائر أو قبائل متماسكة، فقبل الشكل الحديث للمجتمع حيث نعيش، كان رفض الفرد من قبيلته يعني الموت المؤكد من الجوع والبرد أو الحيوانات المفترسة، ما يفسر رغبتنا الغريزية في كسب استحسان الآخرين، والشعور بضيق عندما يمر بنا أحد ولا يلقي التحية.
رغم عدم احتياجنا اليوم للآخرين لتأمين حياتنا، فإن الإنسان لا يزال كائنا اجتماعيا بالفطرة، فوفق تحليل صحيفة “ذا أتلانتيك” (The Atlantic) عندما تقرر التحدث وسط مجموعة تنشط شبكة في دماغك معروفة بـ”نظام التثبيط السلوكي” (BIS) مما يسمح لك بتقييم الموقف، وتحديد كيفية التصرف، وتنبيهك بعواقب التصرف غير اللائق، وعندما يكتمل الوعي بالموقف يتوقف “نظام التثبيط السلوكي”، ويعمل “نظام التنشيط السلوكي” (BAS) الذي يركز على اتخاذ القرارات.
لكن الأبحاث منذ عام 2013 أظهرت أن القلق من آراء الآخرين يضعف قدرتنا على اتخاذ القرارات، ولا ينتقل العقل للمرحلة الثانية، ولهذا يظل البعض يفكر فيما كان يجب قوله في موقف ما لكنه لم يجرؤ، ويتحول القلق من قبول الآخرين إلى حالة نفسية تسمى “رهاب اللودوكسافوبيا”، وتتراجع معها قدرة الفرد على القيام بالمهام العادية، كاتخاذ القرارات، وشعور عميق بالاحتياج وانعدام الأمن، مما يؤدي بدوره إلى إبعاد الآخرين، وقد يؤدي في النهاية إلى فقدان احترام الذات والاغتراب الاجتماعي.
لماذا يقلق البعض أكثر؟
فسر ديفيد ساك، أستاذ الطب النفسي ومدير شبكة من مراكز العلاج النفسي والسلوكي بأميركا، في مقالته بموقع “سيكولوجي توداي” رغبتنا في أن يقبلنا الآخرون بذكريات الطفولة، حينما واجهنا شيئا أو شخصا جعل التواصل معنا وحبنا مشروطا بما نفعل، لذلك يزداد الأمر سوءا لدى البعض، ممن تعرضوا للمقارنة والإساءة العاطفية أو الجسدية أو اللفظية في المدرسة أو العائلة أو أية بيئة تنافسية، وربما تعرضوا للتخويف والتهديد والتحديات المستحيلة، حتى صارت المعاملة الحسنة شيئا عليهم الكفاح لكسبه، وافتقدوا الشعور بالأمان العاطفي والجدارة، ما قادهم إلى الاعتماد على آراء الآخرين للشعور بالأهمية والانتماء.
تُطوّر تلك الذكريات شعورا بالخزي، لشعورنا الدائم بالتقصير والنقص، وفي كتاب “هدايا النقص” كتبت برين براون عن شعور الخزي والعار، وما يصاحبه من أسئلة مع كل خطوة، فبدلا من أن تسأل نفسك “كيف يمكنني تحسين نفسي؟”، تسألها “كيف يمكنني تحسين نفسي في أعين الآخرين؟”، وهو أمر ليس سيئا في حد ذاته، لكن كثرة الاهتمام بما يريده الآخرون منا يبعدنا عما نرغب به ونحتاجه.
كيف تتوقف عن القلق؟
إذا أدركت أنك شخص يقلقه رأي الآخرين بما يفعل، فعليك اتباع بعض الخطوات، ليس لمعاداة المجتمع أو التجاهل التام لآراء الآخرين، لكن لبناء علاقة صحية مع نفسك ومع الآخرين:
ذكّر نفسك بأن لا أحد يهتم لتلك الدرجة بما قلت أو فعلت، وبنسبة كبيرة لن يتذكروا الأمر، لأن تفكير الآخرين بنا، سواء أكان إيجابيا أم سلبيا، أقل بكثير مما نتخيل. وأظهرت نتائج 4 دراسات منشورة بمجلة “الشخصية وعلم النفس الاجتماعي” أننا نبالغ في تقدير تأثير إخفاقاتنا وأوجه قصورنا على تفكير الآخرين، وأن معظم الأخطاء التي وقع فيها الممثلون وتوقعوا أن يقسو عليهم الجمهور بسببها كانت في الأصل نتيجة لتركيزهم بشكل مفرط على احتمالية فشلهم، وبالنهاية لم ينتج عنها رد فعل قاس كما صورت لهم توقعاتهم المتشائمة.
احكم بنفسك على سلوكك، فيميل الناس لتشويه الحقيقة داخل عقولهم، واتباع أنماط التفكير السلبي، وافتراض الأسوأ، وذلك ما يدفعنا لسوء المزاج والسلوك. وتتطلب الرؤية الواضحة للأمور الحديث مع النفس بصدق، والتفرقة بين ما إذا كنت حقا مرفوضا في موقف أم أنك متوهم ذلك لأن مشاعر الغضب كانت تتملكك.
لا تسع للكمال، فقد يكون من الصعب التخلص من فكرة “إذا كنت مثاليا سيحبونني”، لكن ذلك السعي هو وهم، وما يعتقده الناس عنك متأثر بهم أكثر مما يتأثر بك.
تعرف على نفسك، بسؤالها عما تحب حقا، وما تريد حقا، وهل تقطع خطوات في حياتك المهنية والاجتماعية لأنك تريدها أم لأنها ستثير إعجاب شخص آخر؟ للوصول إلى إجابة حاول تجربة أشياء جديدة، وتعلم مهارات مختلفة، وابحث عن مجموعات أصدقاء مختلفة يمكنهم منحك القبول غير المشروط.
تحكم فيما يشتت انتباهك، وبذلك يمكنك التخلص من مشاعر الخزي والعار، وتعتمد تلك التقنية على توجيه انتباهك إلى ما ترغب في التركيز عليه، وطرد الأفكار الأخرى، وهو ما يحدث خلال جلسات التأمل واليقظة الذهنية.
أغرق نفسك في العمل، إذا لم تجد وقتا لممارسة تمارين اليقظة، فيمكنك استبدال العمل والرياضة بها، وتركيز انتباهك على أهدافك وخطوات قدميك وعدد الكيلومترات التي قطعتها.
كن لطيفا، وذلك عن طريق رعاية الآخرين، ككتابة رسالة شكر لمن أحسن إليك، وتكرار عبارات الاستحسان، وهكذا سيحبك الآخرون بشكل تلقائي إذا كنت لطيفا معهم، وحتى إذا أسأت التصرف سيتأكدون من حسن نواياك.
اقبل نفسك، فلا يمكن دعوة شخص إلى عقلك وعملية اتخاذ قرارك إذا لم يكن مرحبا به في منزلك، ولا تضيع الوقت مع أشخاص يتوقعون منك السير على خطاهم، وبدلا من البحث عن أشخاص تنتمي لهم حاول تنمية ذاتك لتكن مختلفا ويسعى الآخرون ليبقوا حولك.