مجلة وفاء wafaamagazine
إثر كلّ خلافٍ بين أركان المؤسسات السياسية على مادة دستوريّة معيّنة، يُثار النقاش حول هوية الجهة الّتي بمقدورها تفسير الدستور، على خلفية إنتفاء النصّ الحاسم والواضح بشأن المرجعية المختصّة في التفسير، سيما أن وثيقة الوفاق الوطني، تحت عنوان «الإصلاحات الأخرى» – البند الثاني، نصّت على صلاحية المجلس الدستوري في تفسير الدستور، قبل أن يُسقط المجلس النيابي، كسلطة تأسيسية، هذه الصلاحية بموجب المادة 19 من الدستور، ويضع، بالتالي، برنامج المجلس الدستوري الواجب إتباعه عند التقدّم بمراجعة أمامه، ما أدّى إلى انضمام الفقهاء في القانون الدستوري الى قافلة الانقسام بين مؤيد ورافض، من دون أن يحجب تعدّد الاتجاهات، برأينا، المنطق الدستوري الّذي يؤكد صلاحية مجلس النواب لا المجلس الدستوري في تفسير الدستور، تبعًا للمسوّغات التالية:
– بالعودة الى نصّ المادة 19 من الدستور، نجد أنّ المشرّع الدستوري حصر صلاحية المجلس الدستوري في مراقبة دستورية القوانين والبتّ في الطعون الانتخابية، وإلا لو أراد المشرّع منح المجلس الدستوري صلاحية تفسير الدستور، كما ورد في وثيقة الوفاق الوطني، كان قد أعرب عن ذلك صراحةً، على قياس سائر النصوص الدستوريّة الّتي تعدّد صلاحيات المؤسسات الدستوريّة (رئيس الجمهورية، مجلس الوزراء…)، على اعتبار أن ما يُعتدّ به هو النصّ الدستوري حصرًا. ولا يمكن، والحال هذه، الارتكاز الى نصوص لا تتمتّع بقوة دستورية ملزمة. وبالتالي، ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني، في رأينا، مجرد قواعد إرشادية لا تقريرية، حيث تتطلب تدخلاً من المشرّع بموجب نصوص لها قوة الزامية.
وهذا ما أكدّه المجلس الدستوري في العديد من قراراته، أهمّها: القرار رقم 1/2002 تاريخ 31/1/2002، والقرار رقم 2/2002 تاريخ 3/7/2002، والقرار رقم 1/2005، والقرار رقم 7/2014 وغيرها من القرارات، وخَلُص إلى التأكيد أنّه: «لا يُعتبر ما وَرَدَ في وثيقة الوفاق الوطني بمثابة أحكام دستورية ومُلزمة، إلّا بقدر ما ورد منها في مقدّمة الدستور أو في مَتنه».
– إنّ الدستور الفرنسي، وهو أحد المراجع الاساسية للتشريع اللبناني، خصّص بابًا خاصًا للمجلس الدستوري يتناول في أحد موضوعاته صلاحيات المجلس، وتحديدًا في المواد: 58، 59، 60، مشفوعًا باجتهادات صادرة عن المجلس الدستوري نفسه، لا يُستشف منها أيّ استنتاج أو حكم يدّل على صلاحية المجلس الدستوري الفرنسي في تفسير الدستور، وإن كان للمجلس الفرنسي، كما اللبناني، الحق في تفسير الدستور في معرض مراجعة مقدّمة امامه، على خلاف النموذج الألماني الّذي يتيح للمحكمة الدستورية صلاحية تفسير الدستور وذلك في نصٍّ صريح وواضح.
-يميّز الفقيه النمساوي هانس كلسن، وهو أحد أهم المؤسسين لنظرية العدالة الدستورية في أوروبا، بين التفسير العلمي والتفسير الأصلي، فالتفسير العلمي أو الفقهي هو التفسير الذي يصدر عن فرد أو جهة معيّنة، لكنه بغضّ النظر عن قيمته العلمية غير ملزم. أما التفسير الأصلي فهو التفسير الذي يصدر عن جهة خوّلها القانون، صراحةً، تفسير النص، وبما أن الدستور اللبناني، الذي كان قد حدّد صلاحية المجلس الدستوري، لم يُعط هذا المجلس صلاحية التفسير، يبقى بأن كلّ تفسير يُدلي به المجلس الدستوري هو تفسير علمي لا أصلي.
– يطرح الفقيه كلسن نظريته المشهورة عن «المشرّع السلبي» بالمقارنة مع «المشرّع الايجابي»، أي البرلمان. اذ أن مهمة الأول تمنح البرلمان صلاحية الامتناع عن اقرار القانون الّذي يتعارض مع الدستور، أما في الثاني، فالبرلمان صاحب الصلاحية في وضع القواعد القانونية التي تتناغم مع الدستور، ما يعني أن البرلمان، وفق هذه النظريّة، هو حارسٌ للدستور، لذا، كيف بمقدور من يُحيي أو يحجب المسار التشريعي انطلاقًا من الدستور أن لا يتولّى تفسير الدستور؟
وقد يُرّد على هذا التحليل بالقول إن المجلس الدستوري هو أيضًا يحرس الدستور، حيث يجب، في نهاية المطاف، منحه صلاحية التفسير أسوةً بالبرلمان، لكن، في رأينا، هذه الفرضية غير سليمة، لأن صلاحية المجلس الدستوري، دستوريًا، لا تنهض الا في حالة التقدّم بمراجعة أمامه، وهو، بالتالي، لا يحرس الدستور، عفوًا، الا إذا قررت الجهات – المحدد لها حصرًا بحق المراجعة – تنبيهه الى النقاط التي تخالف النص الدستوري، فمهمة حماية الدستور ليست انتقائية أو جزئية أو موسمية.
– إنّ وظيفة النظريّة العامة للعدالة الدستوريّة – الرقابة على دستورية القوانين من قِبل محكمة دستورية خاصة – تتجلّى في تأمين السمو المادي للدستور، أيّ حماية ما يحتويه الدستور من حقوق وحرّيات عامة، عبر إبطال أيّ قانون يخالف الدستور، وليس في إعلان ما يحتويه الدستور، ما يُظهر المجلس الدستوري في موقع سياسي لا قضائي لم يُرده آباء الرقابة على دستورية القوانين على الاطلاق، علاوةً على أن مجلس النواب – ولو كسلطة تأسيسية – في مقدوره، عملا بالدستور اللبناني، أن يعدّل الدستور، أيّ في تغيير المحتوى للنصوص الدستورية، لذلك تنبثق عن هذه الصلاحية تساؤلات مشروعة: كيف يمكن أن يمتلك مجلس النواب صلاحية تغيير أو تعديل محتوى النصوص، ولا يحقّ له تفسير هذا المحتوى! فهذا منافٍ للمنطق على إطلاقه وخصوصه.
– للدلالة على الطابع السياسي- التشريعي لمهمة «تفسير الدستور»، أناط الدستور الفرنسي، في عهد الامبراطورية الثانية، عام 1852، هذه الصلاحيّة الى مجلس الشيوخ من أجل أن يتولّى حماية وحراسة الدستور، ولو الى جانب صلاحية مراقبة دستورية القوانين، في حين أن التفسير – في ماهيته – هو عمل يضع حيز التنفيذ المفاعيل الحقوقية الّتي أرادها المشرّع( نيّة المشرّع) على ضوء روح النظام القانوني أو على ضوء تطور المجتمع وبنيته، وهذا ما لا يدخل في صلب مهام القاضي على اطلاقه، وهو ما يتم التعبير عنه بالتالي: «إن السلطة التي تصدر النصّ هي المخوّلة بتفسيره».
– بالعودة الى طريقة تعيين أعضاء المجلس الدستوري، عملا بقانون إنشائه، نجد بأن مجلس النواب اللبناني يعيّن نصف أعضاء المجلس، والنصف الآخر تعيّنه الحكومة المنبثقة – نظريًا وعمليًا – عن مجلس النواب، وبالتالي إن وظائف المجلس الدستوري، المحددة، أصلًا، في الدستور، تتعرّض للتقويض، نتيجة طغيان الاعتبارات الطائفية – السياسية على القانونية، فكيف الحال في وظيفة لم يُدرجها الدستور صراحةً، ما لا يضمن الحيادية أو الاستقلالية الّتي كانت عاملا هامًا في نشوء المجالس الدستورية، سواء في تأمين التوازن بين السلطات، أو في ابطال القوانين المتعارضة مع الدستور، بالاضافة إلى أن التوّسع في تفسير صلاحيات المجلس الدستوري، ومنحه، استطرادًا، صلاحيات اضافية، يورّث للمجلس، اكثر فأكثر، المشاكل السياسية والطائفية السائدة في السلطات الدستورية اللبنانية، والشواهد حاضرة وكثيرة!
وعليه، إنّ استحداث صلاحيات اضافية للمجلس الدستوري، وحجبها عن البرلمان، وهو، عمليًا، مصدر «الدستوري»، ليس مطلبًا ملّحًا يستجيب لإرادة ونيّة المشرّع الدستوري، بقدر ما هو استجابة للمصالح السياسية، بدلًا من التفرّغ للصلاحيات المناطة له، انسجامًا مع نظرية «العدالة الدستورية» الّتي تهدف – اساسًا – الى حماية الحقوق والحريات العامة، لا في حماية تفسير القوى السياسية المُرسفة في صنوف الانقسامات السياسية!
الاخبار