مجلة وفاء wafaamagazine
في ظلّ التحوّلات المستمرّة في سياسات تركيا الخارجية، يحثّ رجب طيب إردوغان الخُطى في اتّجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل، التي تَبعث من ناحيتها بإشارات ودّ تجاه أنقرة، وإن دون المستوى الذي تُظهره الأخيرة. وفي ظلّ زيارة متوقّعة لإسحاق هرتزوغ إلى تركيا، واستعداد الطرفَين لإعادة تفعيل مشروع مدّ الغاز إلى أوروبا في ظلّ تنويم خطّ «إيست ميد»، تتعالى أصوات المعارضة التركية تنديداً بتحوّلات إردوغان، لا لرفْضها مبدأ التطبيع مع تل أبيب، وإنّما بسبب ما تَصفه بـ«التذبذب» في العلاقات الخارجية
تَمضي تركيا قُدُماً في سياسة التقارُب مع إسرائيل، وسط مؤشّرات كثيرة إلى إيلاء أنقرة اهتماماً خاصاً لعلاقاتها بتل أبيب، والتي يبدو أنها تتّجه نحو فتْح «صفحة جديدة»، بحسب ما تقرأ صحيفة «قرار» في خطوات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على هذا الصعيد. وتُشير الصحيفة إلى أنّ الرسائل عبر البحر المتوسّط كسرت الجليد بين الطرفَين، على قاعدة: «إذا كان النفط وسيلة للسلام، فسنستخدمه»؛ وهو ما أكّده صهر إردوغان، برات ألبيرق، الذي يُعيد اليوم هندسة تلك العلاقات، بقوله «إنّنا سنفعل ما يجب من أجل السلام، بما في ذلك استخدام النفط»، بل إنّ الرئيس التركي أعلن أن نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، يمكن أن يزور تركيا. وكانت علامات عودة الدفء بدأت تظهر في تشرين الثاني الماضي، مع إطلاق سراح زوجَين إسرائيليَّين اعتُقلا لفترة وجيزة في تركيا، بتهمة تصوير مكان إقامة إردوغان، من برج تشامليجه في إسطنبول. وكان من نتيجة ذلك، اتّصال الرئيس الإسرائيلي بنظيره التركي، وشكره إيّاه على إطلاق سراح الزوجَين. وفي الأسبوع الماضي، اتّصل إردوغان بهرتزوغ، معزّياً إياه بوفاة أمه، فيما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن طبيباً إسرائيلياً يقدّم «الاستشارة» لإردوغان الذي يعاني مشاكل في القلب.
في هذا الوقت، كانت واشنطن تبلغ اليونان بأنها تسْحب دعمها لمشروع خطّ «إيست ميد» لنقل غاز شرق المتوسّط من إسرائيل إلى قبرص، فاليونان وإيطاليا، ثمّ أوروبا. وهو الموقف الذي شكّل، على ما يبدو، حدّاً فاصلاً بين مرحلتَين.
إذ رأى إردوغان، بعد انتهاء زيارته الأخيرة لألبانيا، أن الأميركيين «وجدوا أنه من دون تركيا، لا يمكن لهذه المشاريع أن تمرّ»، مضيفاً أنهم اكتشفوا أن «لا ناحية إيجابية في المشروع، وكلفته عالية جدّاً»، معتبراً أن «كلّ خطوات واشنطن تُقاس بالمال». وأبدى إردوغان استعداد بلاده للقيام بما في وسعها لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، مُذكّراً بأن «هذا الاقتراح كان قدّمه إلى الإسرائيليين برات بك (ألبيرق)، عندما كان وزيراً للطاقة والموارد الطبيعية»، لافتاً إلى «(أننا) وصلنا إلى نقطة معيّنة، ولنا لقاءات مع الرئيس الإسرائيلي هرتزوغ، كما أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، على علم بالموضوع. وأخيراً، التقيْت بأعضاء تحالف حاخامات الدول الإسلامية وتحدّثنا بالموضوع». وختم بالقول: «نحن مجبَرون على أن نمارس السياسة ضمن مسار السلام».
أبدى إردوغان استعداد بلاده للقيام بما في وسعها لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا
وخلال مؤتمره الصحافي مع رئيس جمهورية صربيا في أنقرة، كرّر إردوغان الكلام نفسه. إلّا أن صحيفة «هآرتس» نقلت عن مسؤول إسرائيلي قوله إن «إسرائيل تريد علاقات قوية ودائمة مع تركيا، لكنّ هذا لا يعني تخريب العلاقات مع اليونان وقبرص اللتين تتمتّعان بعلاقات متوتّرة مع أنقرة»، وإن «أيّ خطوات تجاه إردوغان، ستكون بالتنسيق مع هذَين البلدَين». وأشارت الصحيفة إلى أن الرئيس التركي كان يريد، خلال العامَين الماضيَين، تقوية العلاقات مع إسرائيل، لكن الأخيرة لم تكن تنظر بحماس إلى ذلك. كما نقلت «هآرتس» عن خبير إسرائيلي بالعلاقات التركية – الإسرائيلية أن «اليونان وقبرص الجنوبية قلقتان من التقارب التركي – الإسرائيلي. ولهذا الغرض، سارع وزير الدفاع اليوناني، نيكولوس باناغيوتوبولس، إلى زيارة إسرائيل للبحث في التطوّرات المستجدّة». مع ذلك، جاء الاتّصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بنظيره الإسرائيلي، يائير لابيد، مطمئنّاً إلى صحّة الأخير بعد إصابته بفيروس «كورونا»، ليغذّي مؤشّرات التقارب بين الجانبيَن. إذ لفتت صحيفة «حرييات» إلى أن «هذا الاتّصال هو الأوّل منذ عام 2008». ومع أنه لم يُكشف عن تفاصيله، إلّا أن الصحيفة قدّرت أنه تناول الإعداد لزيارة هرتزوغ إلى تركيا، إضافة إلى تخلّي واشنطن عن مشروع خطّ «إيست ميد».
في هذه الأثناء، بدأت تَظهر الآثار المحتمَلة للتقارب التركي – الإسرائيلي على العلاقات بين أنقرة وطهران. إذ على الرغم من رسائل الغزل المتبادلة بين الرئيسَين الإيراني والتركي، ولا سيّما بعد عودة إبراهيم رئيسي من موسكو، إلّا أن الكاتبة زينب غورجانلي، ألمحت، في صحيفة «دنيا» الاقتصادية، إلى الانزعاج الإيراني من التقارُب بين أنقرة وتل أبيب. واعتبرت أن انقطاع تدفُّق الغاز الطبيعي من إيران إلى تركيا لمدّة عشرة أيام «لأسباب فنّية»، لا يمكن عزله من هذا التقارُب.
ومع أن المعارَضة التركية لا ترفض تحسين العلاقات مع إسرائيل، إلّا أنها تستنكر التذبذُب والتناقض في سياسة إردوغان الخارجية. وفي هذا الإطار، أشار أحمد داود أوغلو، رئيس «حزب المستقبل»، إلى أن «إردوغان يقول إن رئيس إسرائيل سيزور تركيا، فيما المسؤولون الإسرائيليون يقلّلون من أهمية هذا التصريح، ويقولون إنه ليس هناك قرار نهائي متّخذ بعد». وأضاف: «أقول لإخوتي في حزب العدالة والتنمية، اُنظروا إلى هذا المشهد الذي يقلّل من احترامنا وارفعوا صوتكم». كذلك، لاقت السياسات الجديدة لـ«حزب العدالة والتنمية»، انتقادات لاذعة من وزير الخارجية السابق ورئيس «حزب الديموقراطية والتقدّم»، علي باباجان، الذي رأى أن «الديبلوماسية دخلت مرحلة الفرفرة الاستراتيجية، من دون الاستناد إلى أيّ علم أو حسابات». وقال: «ندفع مالاً ولا نستلم طائرات، ونخرج من مشروع أف 35 رغم أننا دفعنا مليار و400 مليون دولار». ولفت باباجان إلى أن «البنك المركزي أهدر 130 مليار دولار، لا يعرف أين ذهبت». وأضاف: «من ثمّ نتسوّل المال من الدول التي اتّهمناها بدعم الإرهاب. ليس هكذا تُبنى السياسة الخارجية. تركيا ليست بلداً للبيع. شرف البلاد ليس للبيع».
وفي صحيفة «قرار»، اعتبر الكاتب المتخصّص في العلاقات الدولية، طه آقيول، أن «إردوغان يحاول إصلاح العلاقات التي قطعها في السياسة الخارجية»، مُذكّراً بأن «الحكومات التركية كانت تدعم العرب دائماً في القضية الفلسطينية، لكنّها حرصت أيضاً على عدم الصدام مع إسرائيل». ورأى آقيول أن «تركيا كانت أمام إردوغانَين: واحد حافظ على الديبلوماسية التقليدية، خلال الفترة الأولى من حكمه، ولم يتدخّل في الشؤون الداخلية للعرب، كما حصل على أوسمة تقدير من اللوبيات اليهودية، بل عمل كوسيط بين سوريا وإسرائيل، لأن الطرفَين يثقان به»؛ أمّا «إردوغان الثاني، فظهَر بعد عام 2011، حين انقلب علينا كلّ العرب الذين اعتبروا الإخوان المسلمين تهديداً. كما دخلت تركيا في صدام مع إسرائيل، بعد حادثة سفينة مرمرة عام 2010. وفقدت تركيا نفوذها السابق، ودخلت في عزلة في شرق المتوسط».