الرئيسية / آخر الأخبار / الطوائفية والمواطنة في لبنان بين الحاضر والمرتجى .!

الطوائفية والمواطنة في لبنان بين الحاضر والمرتجى .!

مجلة وفاء wafaamagazine


كتب البروفسور بسام الهاشم في ” الأخبار “

”بصورة مؤقتة، وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب، والتماساً للعدل والوفاق، تمثَّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة“: بهذه الكلمات القليلة التي تضمنتها المادة 95 من دستورنا الصادر في ظل الانتداب الفرنسي، سنة 1926، إنما كان التأسيس الدستوري الأول، في عهد جمهورية لبنان الكبير، للصيغة الناظمة مذ ذاك لتكوين أجهزة الحكم فيها مع جميع أذرعها الرسمية. عنيت الصيغة المتعارف عموماً على تسميتها ”الطائفية السياسية“، فيما، من جهتي شخصياً، أؤثر تسميتها بالأحرى ”الطوائفية السياسية“؛ وذلك من باب الحرص على مطابقة الإسم مع المسمى، إذ المسمى هو في الحقيقة طوائف عدة، وليس طائفة واحدة. فما الذي نقرأه تحديداً في خلفية الكلمات هذه؟

نقرأ، وللبداهة، أولاً، تسليماً ضمنياً بأن الشعب اللبناني مكوّن في بنيته الأساسية لا من مواطنين ومواطنات بالمعنى المُعجمي للكلمة، أي من رجال ونساء متساوين في الحقوق والواجبات بعيداً عن أي تمييز ما بينهم، وتتحدد هويتهم الرسمية برابط اجتماعي يربطهم مباشرة بالوطن والدولة، بمعزل عن أي انتماء فئوي لهم إلى طائفة، أو طبقة، أو عائلة، أو منطقة، إلخ، بل من طوائف عليها أصلاً يتوزع الأفراد هؤلاء. وقد قضت، استناداً إليه، بان يكون الحكم عندنا، في أساسه، شراكة متكافئة ما بين هذه الطوائف، على أن يكون التجسيد لمشاركتها المتكافئة هذه بتمثيلها تمثيلاً ”عادلاً“ في النيابة والوزارة والإدارة، وسائر المؤسسات والأجهزة العامة، من قضاء وقوى مسلحة، وما إليها.

وهذا ما، للمناسبة، كان مصيره، بعد ذاك، أن ينسحب أيضاً على التسوية الميثاقية التي قضت بتوزيع رئاسات الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، ونيابتي الرئاستين الثانية والثالثة، كما أن يشهد، بدايةً، في ظل الاستقلال وميثاق 1943، ولاحقاً، على امتداد اتفاق الطائف (1989)، تعديلات غير قليلة في تطبيقاته وآليات اشتغاله، ولكننا لا نرى ضرورة للتوقف عندها في هذه العجالة.

كما نقرأ، ثانياً، على امتداد ما تقدم، أن الغاية الضمنية من اعتماد هذه الصيغة كانت ضمان الوفاق، وبالتالي الاستقرار والسلم الأهلي في البلد؛ الأمر الذي، بالنظر إلى المقدمات الآنفة، كان السبيل الحكمي إليه ضمان عدم إقصاء أي من هذه الطوائف عن المشاركة بواسطة ممثلين لها في الحكم ومختلف الإدارات والأجهزة، بل وضمان أن تكون المشاركة هذه ”عادلة“ للجميع.

ولكننا، في المقابل، نستشف من خلال الكلمات الدستورية هذه اعتقاداً ضمنياً لدى واضعيها ـ أو ربما مجرد تفكير بالتمني (wishful thinking)، كما يقال بالإنكليزية، من قبلهم، لا ندري! ـ بأن الأسباب الموجبة لاعتماد هذه الصيغة شرطاً لضمان الوفاق العام والاستقرار في البلد، سوف لن تدوم طويلاً في ظل الجمهورية الناشئة، مع ما فتحته بمجرد نشوئها، أمام الجميع، من مجالات غير مسبوقة للاختلاط، والتقارب، والتفاعل، والتعاون، والتبادل، والتشارك، وحتى الاندماج ما بينهم، في شتى مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية.

ومثل هذه القناعة هو، للمناسبة، ما عبّر عنه بكلمات لا لبس فيها الرئيس رياض الصلح، في البيان الوزاري لحكومته الاستقلالية الأولى التي شكلها سنة 1943. فكأني بأصحابها يفترضون هكذا أن من شأن ترسُّخ المستجدات المرتقبة هذه في المدى الوطني المستحدث والمفتوح بصورة غير مسبوقة أمام الجميع، أن تحوِّل اللبنانيين وتخرجهم تدريجاً من واقع التشرنق في طوائفهم الأمهات، إلى رحاب المواطنة الدامجة بالمعنى الآنف تحديده. ولهذا، في المحصلة النهائية، كان أن أُقر اعتماد ”الطوائفية السياسية“ بصفة صيغة مؤقتة فحسب، يصار إلى إلغائها ما أن يتحقق هذا التحول المأمول فيه.

فهل هذا التوقع التأسيسي كان، بالتالي، توقعاً في محله؟ في ما يتعلق بنا شخصياً، نشك في ذلك. بل بالأحرى، ليس هذا ما نرى على الأرض اليوم، ولو بعد زهاء قرن من تاريخ إطلاقه، شيئاً من ترجماته المأمول فيها. ولا هو، في اعتقادنا، أصلاً كان ليتوَّج بمثل هذه النتيجة في ظل المبادئ الناظمة لشؤون ما يمكن ـ لمجانسته مع رديفه المذكور آنفاً في المستوى السياسي ـ تسميته ”الطوائفية الاجتماعية الثقافية“، ونجده، هو أيضاً، مكرسا في الدستور بموازاة المادة 95 منه وأحكامها. عنيت تحديداً المبادئ التي تم إرساؤها ـ ولكن، من جهتها، بصفةٍ نهائية وغير مرشحة للتعديل مستقبلاً ـ في المادة 9 من الدستور، وهي المتعلقة بنظام الأحوال الشخصية ومعها ما سُمِّي ”المصالح الدينية“ للطوائف. وقد نصت هذه المادة على أن ”الدولة… تضمن للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية“.

إن هذا، على أي حال، ما تحت عنوان ”الطوائفية والمواطنة في لبنان بين الحاضر والمرتجى“، سنسعى في هذه المحاولة إلى التحقق منه، وتحرّي أسبابه وخلفياته القريبة والبعيدة، مستعينين من أجل ذلك بمناهج علم الاجتماع والأنطروبولوجيا، اللذين، للمناسبة، في إطارهما يندرج البحث. ولكن هذا لن يكون كل شيء. إذ، بناءً على ما يكون قد تم، من هنا، التحقق منه، سننهي البحث الحاضر بطرح فرضية مؤسِّسة لأبحاث لاحقة، نضمِّنها معالم الإصلاحات الواجب إدخالها على نظامنا الاجتماعي السياسي لانتشال البلد من الواقع المأزوم المسيطر عليه حالياً، وفتح الطريق أمام إعادة بناء الدولة على قاعدة منشودة من كثيرين، يكون لمفهومي المواطن والمواطنة فيها ما يترتب لهما من مراعاة.

ومع ذلك، فقبل الدخول في صلب المشروع هذا، ولحاجات التفسير الذي سيستوجبه، يبدو من غير النافل التمهيد له بنبذة تضع النقاط على الحروف في ما يتعلق بماهية الطوائف المعنية وظروف تشكُّلها وصيروراتها، وما إلى ذلك من اعتبارات أفضت بدولة لبنان الكبير عند نشأتها إلى التعامل معها على النحو الآنف الذكر. ومن هنا بالتالي نبدأ.