مجلة وفاء wafaamagazine
كتبت صحيفة “النهار”:
مع أن باع إسرائيل الطويل و”إرثها” المتأصل والضارب عميقاً في تاريخ الاغتيالات والتصفيات، قديماً وحديثاً، في صفوف أعدائها عبر مراحل الصراع العربي- الإسرائيلي لا يستدعيان الانذهال أمام أي حدث أو تطوّر “اغتيالي” جديد، لكن ما جرى ما بين ليل الثلاثاء وفجر أمس الأربعاء لا تنطبق عليه إلا معايير إشعال إسرائيل حرب اغتيالات متتابعة بنمط متزامن خاطف وغير مسبوق تستهدف عبره رموز الصف القيادي الأول في “محور الممانعة” بأسره.
بفارق سبع ساعات فقط، ما بين الثامنة ليلاً بتوقيت بيروت والثانية فجراً بتوقيت طهران (يتقدم ساعة واحدة عن بيروت)، ارتسمت معالم أشرس حروب الاغتيالات “وعروض القوة” الدامية التي شنتها إسرائيل ضد قادة “حزب الله” و”حماس”، والأخطر من انطلاق هذه الحرب من حارة حريك تزامنها بالتمدّد إلى عقر دار الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أقسى التحديات اطلاقاً لعاصمة المحور الممانع ونقطة ارتكاز “وحدة الساحات وربطها” في هيبتها الأمنية ومظلة حمايتها لحلفائها الضيوف.
وسط المعالم غير المسبوقة في خطورتها التي اكتسبها اغتيالان متعاقبان، أولهما طاول القيادي العسكري الأكبر في “حزب الله” فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، والثاني، الرمز التاريخي والرجل الأول في “حماس” رئيس المكتب السياسي في الحركة إسماعيل هنية في مكان استضافته في طهران، بدأ الصمت الثقيل الذي التزمه “حزب الله” حتى بعد العثور على جثة القيادي العسكري الأول لديه أبلغ تعبير عما تشهده وما قد تشهده الساحة اللبنانية وربطاً الساحة الإقليمية في الأيام والساعات القليلة المقبلة من تطورات قد تفتح المنطقة على مشارف مرحلة غير مسبوقة بخطورتها.
وإذ ترصد كل الأوساط المحلية اللبنانية والخارجية ما قد يتبلور من خطة لمحور الممانعة كلاً للرد على إسرائيل، شكّكت أوساط مواكبة للاتصالات الديبلوماسية المحمومة التي تسابق تداعيات الاغتيالات في أن تتمكن هذه الاتصالات من احتواء الوضع المتدحرج في الخطورة. بل إنها ذهبت إلى الاعتقاد بأن الأنظار والحسابات والتقديرات يجب أن تتركز على ما يمكن أن يحصل بعد انقضاء مراسم تشييع كل من القيادي العسكري فؤاد شكر وإسماعيل هنية بما يعني أن التوقيت المرجح لأي ردّ، أياً تكن طبيعته، هو بعد التشييع.
وبإزاء ذلك ومع أن التصريحات الإسرائيلية انحسرت عقب اغتيال هنية فهي لم تتوقف حيال لبنان، إذ قال وزير خارجية إسرائيل يسرائيل كاتس: “أوصلنا من خلال استهداف فؤاد شكر في بيروت رسالة بأن من يؤذينا سنؤذيه بقوة”. وشدد على أن “إسرائيل ليست مهتمة بحرب شاملة لكن الطريقة الوحيدة لمنعها هي انسحاب “حزب الله” إلى شمال نهر الليطاني ونزع سلاحه وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 1701″.
وأعلنت الحكومة الإسرائيلية عن تأهبها للتعامل مع أي سيناريو في مواجهة إيران و”حزب الله”، كما أشار موقع أكسيوس إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي أخبر نظيره الاميركي أن إسرائيل لا تنوي التصعيد ولكنها مستعدة للرد على أي هجوم لـ”حزب الله”.
وقد دعت فرنسا أمس الى بذل كل الجهود لتجنّب تصعيد عسكري جديد بعد الضربة الاسرائيلية في الضاحية الجنوبية في بيروت. وقال مصدر ديبلوماسي فرنسي إن فرنسا تتابع عن كثب وبالغ التنبه الوضع وأنها ستستمر في التحرك إزاء جميع الاطراف من أجل تجنب التصعيد. كما قال المصدر إن فرنسا تذكّر رعاياها بشكل ملح بعدم التوجه إلى لبنان أو إسرائيل أو الاراضي الفلسطينية.
انتشال جثة شكر
وفي غضون ذلك، تمكنت الفرق العاملة على رفع الأنقاض عصر أمس من التعرف على أشلاء جثة القيادي العسكري في “حزب الله” فؤاد شكر تحت انقاض الطبقات السفلية من المبنى المستهدف بالغارة المدمرة، وذلك بعد عمليات مضنية ومعقدة طالت منذ لحظة الاعتداء الصاروخي الذي شنته إسرائيل على المبنى الذي كان يقيم فيه شكر. ولم يتم التعرف إلى جثة شكر إلا بعد فحص DNA. كما ارتفعت حصيلة ضحايا الغارة الإسرائيلية إلى 5 من بينهم ثلاث سيدات وطفلة وطفل و74 جريحاً.
وفي وقت استمرت عمليات رفع الانقاض، لم يصدر “حزب الله” أي بيان يؤكد فيه مقتل القيادي العسكري فؤاد شكر، إلا أنه أشار إلى أن شكر كان موجوداً في المبنى المستهدف. واللافت في الأمر أن وكالة تسنيم الإيرانية قالت إن فؤاد شكر لم يقتل بالهجوم الأولي على الضاحية بل بفعل الجروح التي أصيب بها.
ووسط التزامه الصمت منذ حصول الغارة الإسرائيلية، أصدر “حزب الله” قبل ظهر أمس بياناً أكد فيه للمرة الأولى أن شكر كان موجوداً في المبنى. ومساء أمس أصدر الحزب رسمياً بيان نعي شكر ومما جاء فيه: “نزفّه شهيداً كبيراً على طريق القدس، تُقَدِّمُهُ مقاومتنا عنواناً لالتزامها الحاسم وعزمها الراسخ بمواصلة الجهاد حتى تحرير الأرض والمقدسات والإنسان من ظلم ووحشية هذا الكيان الغاصب والمجرم والقاتل، ورمزاً من رموزها الكبار من صانعي انتصاراتها وقوتها واقتدارها ومن قادة ميادينها الذين ما تركوا الجهاد حتى النَّفْسِ الأخير. وكما كان حضوره المباشر في الحياة معنا قوةً مميزة للمقاومة ستكون شهادته العظيمة دفعاً قوياً لإخوانه المجاهدين من أجل المُضِي قُدماً بثباتِ وشجاعة لحفظ الإنجازات والانتصارات والمقدرات وتحقيق الأهداف والآمال التي كان يتطلع إليها هذا القائد الكبير”. وأشار البيان إلى أن “موقفنا السياسي من هذا الاعتداء الآثِم والجريمة الكُبرى سَيُعَبِّرُ عنه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله غداً (اليوم) في مسيرة تشييع الشهيد القائدِ”.
الحكومة والتحرك الديبلوماسي
واعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الإدانة الرسمية للاعتداء الإسرائيلي على الضاحية في جلسة استثنائية لمجلس الوزراء غاب عنها وزراء “التيار الوطني الحر”. وقال ميقاتي: “مسؤوليتنا الوطنية استدعت عقد اجتماع استثنائي للحكومة للتصدي للعدوان الإسرائيلي وادانة الاغتيال وقتل الأطفال ومواكبة التطورات الأمنية، وكنت اتمنى لو أن الوزراء المقاطعين شاركوا في الجلسة اليوم، لأن نهج المقاطعة غير مفيد في هذا الظرف الخطير”.
وأضاف: “ندين بقوة هذا الاعتداء على الضاحية الجنوبية لبيروت، ونرفع الصوت محذرين من تفلّت الأمور نحو الأسوأ، إن بقي العدو على رعونته وجنونه الاجرامي القاتل، متسائلين عن سبب هذا التطور ومتخوفين من تفاقم الوضع إن لم تسرع الدول المعنية وكل المجتمع الدولي للجم هذا التفلت الخطير”، ودعا “العالم الشاهد على جرائم إسرائيل، إلى اجبارها على وقف اطلاق النار والالتزام بالقرارات والقوانين الدولية وعلى تنفيذ القرار 1701، وكفى أن يكون العالم شاهداً على اجرامها وخروقاتها التي تجاوزات عشرات الالاف. إننا نطالب فورا بتنفيذ القرار 1701 كاملا وبحذافيره، وندعو المجتمع الدولي ووسطاء السلام إلى أن يكونوا شهوداً للحق ويدينوا الباطل ويعملوا في سبيل الأمن والاستقرار”.
وشهدت السرايا الحكومية سلسلة كثيفة من اللقاءات الديبلوماسية في اطار مواكبة التطورات الاخيرة لا سيما الغارة الإسرائيلية على منطقة الضاحية الجنوبية. وفي هذا الاطار، اجتمع ميقاتي مع وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام جان بيار لاكروا على رأس وفد ضم المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان جينين هينيس-بلاسخارت وقائد القوات الدولية العاملة في الجنوب “اليونيفيل” الجنرال أرولدو لازارو . كما التقى السفيرة الأميركية ليزا جونسون والسفير الفرنسي هيرفي ماغرو الذي عبّرعن قلقه من الأوضاع الحالية “التي تتجه نحو التصعيد، ويجب التعاطي مع تداعيات ما حصل، وانتظار ما سيحصل في الساعات المقبلة”.
وقال: “نحن للأسف في وضع حذرنا منه دائماً، ولقد دعونا باستمرار الأطراف المعنية لعدم التصعيد، لأننا كنا ندرك بأن كل شيء قد يحصل في حال وجود توتر، وللأسف نحن الآن في الوضع الذي توقعناه، ولهذا بذلنا الكثير من الجهد في الاشهر الأخيرة لمحاولة تلافي التصعيد”. وأعلن “أننا سنستمر في جهودنا، ولا أسباب لدينا لعدم الإستمرار في مساعينا للتهدئة”.
كما أن وزير الخارجية عبدالله بوحبيب الذي اجتمع مع لاكروا، وبلاسخارت ولازارو، ووفد رفيع المستوى من اليونيفيل، أشار إلى أن “الخيار العسكري الذي تتبعه الحكومة الإسرائيلية هدفه زج المنطقة في دوامة الحرب الشاملة التي لن تجلب سوى الدمار والخراب للجميع”. وشدّد على “أن الحل الدائم وضمان الأمن في جنوب لبنان لن يكون إلا من خلال السبل الديبلوماسية ووقف إطلاق النار والالتزام التام والناجز بجميع القرارات الأممية ذات الصلة، لا سيما مندرجات القرار 1701 الذي يبقى السبيل الوحيد لمنع المزيد من العنف والموت والخراب”.