الرئيسية / آخر الأخبار / تحدّيات اقتصادية تعترض العسكرة: بريطانيا نحو تعزيز الإنفاق الدفاعي

تحدّيات اقتصادية تعترض العسكرة: بريطانيا نحو تعزيز الإنفاق الدفاعي

مجلة وفاء wafaamagazine

تعتزم المملكة المتحدة دعم توجيهات الولايات المتحدة للدول الأعضاء في «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) بإنفاق ما لا يقل عن 3.5 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2035. ويأتي هذا القرار رغم تردد رئيس الوزراء، كير ستارمر، بشأن تحديد موعد زمني لرفع إنفاق البلاد إلى 3 في المئة، وهو يضع الحكومة أمام تحدٍ معقد يتمثل بالموازنة بين الالتزامات الدولية الملحة والضغوط المتزايدة على الميزانيات العامة. وليست المطالبات بزيادة الإنفاق الدفاعي جديدة، ولا سيّما مع ترهّل القدرات العسكرية للبلاد، لكنها اكتسبت زخماً كبيراً بعد ضغوط من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وفي ظل سعي الأمين العام لـ«الناتو»، مارك روته، إلى دفع الدول الأعضاء إلى الموافقة على هدف أعلى بكثير يبلغ 3.5 في المئة، مقارنة بالهدف الحالي البالغ 2 في المئة.

وإضافة إلى ذلك، سيتم تخصيص 1.5 في المئة إضافية لمجالات مثل الأمن والبنية التحتية المتعلقة بالدفاع، ليصل إجمالي الإنفاق المستهدف إلى 5 في المئة، فيما من المتوقع أن يوافق وزراء دفاع «الناتو»، بمن فيهم وزير الدفاع البريطاني، جون هيلي، على هذا الهدف الجديد خلال اجتماعهم في بروكسيل. ويمثل التوافق المشار إليه شرطاً مسبقاً لحضور ترامب قمة قادة «الناتو» في لاهاي في وقت لاحق من الشهر الجاري، إذ يأمل زعماء القارة في أن يؤدي ذلك التعهد إلى ثني الرئيس الأميركي عن تكرار تهديداته بتقليص مظلّة الحماية التي توفرها بلاده لأوروبا.

ومع ذلك، فإن التزاماً مثل هذا يأتي في توقيت حساس جداً بالنسبة إلى حكومة «حزب العمل»؛ إذ بينما تسعى الأخيرة جاهدة إلى تعزيز الإنفاق الدفاعي، تواجه البلاد ضغوطاً مالية خانقة، وتخفيضات في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، ما يؤثر سلباً في شعبية الحكومة في استطلاعات الرأي. وكان رئيس الوزراء أطلق، الإثنين الماضي، مراجعة الدفاع الإستراتيجية للمملكة المتحدة، والتي وُصفت بأنها واحدة من أكبر الإصلاحات الشاملة للقوات المسلحة البريطانية منذ قرن، من دون أن يلتزم بتاريخ محدد لرفع الإنفاق الدفاعي إلى 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، رغم تأكيده إمكانية تحقيق الهدف المذكور.

وفي حال التزام المملكة بهدف «الناتو»، والمتمثل بالوصول إلى 5 في المئة بحلول عام 2035، فإن الأمر يثير تساؤلات ملحة حول مصادر التمويل الإضافي؛ بالنظر إلى أن بلوغ مستوى 3 في المئة سيرفع الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 85 مليار جنيه إسترليني سنوياً، مقارنة بـ64 ملياراً في عام 2024، بينما سيرفع هدف الـ3.5 في المئة في عام 2035 الإنفاق إلى ما يزيد على 100 مليار جنيه إسترليني.

وبحسب خبراء اطلعوا على مراجعة الدفاع الإستراتيجية الجديدة، فإنها تعكس تحولاً جذرياً في نهج المملكة المتحدة تجاه أمنها. ووُصفت المراجعة، التي قادها الأمين العام السابق لـ«الناتو» اللورد جورج روبرتسون، بأنها «أكبر تغيير عميق للقوات المسلحة البريطانية في 150 عاماً»، إذ شددت على ضرورة الانتقال إلى وضع «الاستعداد للحرب» في مواجهة التهديدات المتزايدة من خصوم مثل روسيا والصين.

ويأتي على رأس قائمة التحديثات التي تقترحها: القوات البحرية الملكية التي ستشهد توسيع أسطولها من الغواصات الهجومية العاملة بالطاقة النووية من سبع إلى 12، إضافة إلى 12 غواصة هجومية جديدة تُصنع بالشراكة مع حلفاء مجموعة «أوكوس» (AUKUS) – الولايات المتحدة وأستراليا – بحلول أواخر ثلاثينيات القرن الحالي؛ وهذا الاستثمار وحده يمثل ما يقرب من نصف الإنفاق المتوقع على أنظمة الأسلحة المحددة في المراجعة. كما إن التركيز على «حصن الأطلسي» – وهو خطة للدفاع عن شمال الأطلسي من التعديات الروسية – يؤكد تحوّل التركيز الجغرافي من القوة الاستكشافية التي كانت تمتلك حاملتَي طائرات مصمّمتَين لخوض حروب بعيدة، إلى قوة أكثر تركيزاً على الدفاع عن الوطن.

التحدي يكمن في إيجاد المصادر لسد الفجوة بين الخطاب الطموح والواقع الاقتصادي الصعب

وإلى جانب الغواصات، تعتزم المملكة المتحدة الاستثمار في الصواريخ الطويلة المدى، مع خطة للحصول على ما يصل إلى 7000 سلاح بريطاني الصنع. كما سيتم تعزيز الدفاع السيبراني عبر توحيد العمليات السيبرانية والإلكترونية تحت قيادة واحدة، واستثمار مليار جنيه إسترليني في «شبكة الاستهداف الرقمي» المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والمصمّمة لجمع بيانات ساحة المعركة وتمكين الوحدات من اتخاذ قرارات أفضل.

ولضمان الإمدادات، تعهدت الحكومة باستثمار 1.5 مليار جنيه إسترليني في ستة مصانع ذخيرة جديدة على الأقل. لكن المراجعة لم تحدد زيادة في حجم الجيش النظامي، إذ يظل العدد المستهدف 73000 جندي، وهو الأصغر منذ الحروب النابليونية. ورغم أن المراجعة توصي بزيادة طفيفة في أعداد الجنود النظاميين «إذا سمح التمويل»، فإنها تركز على استخدام التكنولوجيا والطائرات من دون طيار والبرمجيات «لزيادة القدرة على القتل عشرة أضعاف».

لكن طموحات الحكومة الدفاعية تثير تساؤلات جدية حول قدرتها على الوفاء بها، خاصة في ما يتعلق بالتمويل وسرعة التنفيذ. ويشير معهد مالي متخصص، في دراسة له، إلى أن الالتزام الحالي برفع الإنفاق الدفاعي إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، سيجبر الحكومة على إبقاء الاستثمار العام في المجالات الأخرى ثابتاً حتى عامَي 2029 و2030. وإذا أرادت زيادة الإنفاق العسكري إلى 3 في المئة بحلول نهاية العقد، فستحتاج إلى إيجاد 17 مليار جنيه إسترليني إضافية في عام 2030، وهو ما يعادل أكثر من عشرة أضعاف ما توفره حالياً عبر تقليص مدفوعات وقود الشتاء للمتقاعدين، والتي أثارت غضباً واسعاً انعكس في أداء الحزب الحاكم الباهت في الانتخابات البلدية الأخيرة.

وبالطبع، فإن مضمون المراجعة الدفاعية الإستراتيجية يشير إلى أن الصناعات الدفاعية البريطانية ستنتعش من وراء الإنفاق الإضافي من الميزانيات العامة. وستكون على رأس قائمة المستفيدين «بي إيه إي سيستمز» التي تبني الغواصات وتصنّع 80 في المئة من ذخائر القوات المسلحة البريطانية، و«رولز رويس» التي تبني المفاعلات النووية التي تشغل الغواصات، وكذلك «بابكوك إنترناشيونال» – خدمات صيانة جميع الغواصات البريطانية وتشغيلها -، و«كينيتك» – تطوّر أسلحة ليزر لوزارة الدفاع -، و«إم بي دي إيه» – تصنّع صواريخ طويلة المدى -، فيما قد تستفيد أيضاً شركات تكنولوجيا الدفاع مثل «هيلسينج» الأوروبية و«أندوريل» الأميركية من الاستثمارات في الأسلحة الذكية، والطائرات من دون طيار – الدرونات -. وبالفعل، أدى مجرد الإعلان عن مضمون المراجعة إلى قفزة ملحوظة في أسعار أسهم المقاولين المشاركين في بناء أسطول الغواصات البريطاني وصيانته.

وفي ما يتصل بالفاعلية الإستراتيجية، يشير مصير مراجعات الدفاع الإستراتيجية السابقة إلى أن صلاحيتها الزمنية قد تكون محدودة؛ ففي عام 2021، أوصي بـ«بناء محور إستراتيجي نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة نفوذ الصين وتعميق العلاقات مع حلفاء مثل أستراليا والهند واليابان»، في حين أن المراجعة الحالية، والتي تمت بعد حرب أوكرانيا، قلّلت من التركيز على الانتشار العالمي. وبينما وصفت الصين بأنها «تحدٍ مستمر»، صبّت اهتمامها الرئيسي على روسيا، التي اعتُبرت «تهديداً ملحاً وفورياً»، وعلى منطقة «شمال الأطلسي» بدلاً من المحيط الهادئ.

إذاً، ستكون بريطانيا على مفترق طرق حاسم، فيما التحدي أمام ستارمر وحكومته يكمن الآن في إيجاد المصادر لسد الفجوة بين هذا الخطاب الطموح والواقع الاقتصادي الصعب، وإيجاد التوازن الصحيح الذي يمكّن البلاد من الوفاء بالتزاماتها تجاه حلف «الناتو» مع الحفاظ على الاستقرار المالي والاجتماعي. وذلك يبدو – أقله وفقاً للظروف الموضوعية الحالية – أمراً أقرب إلى الاستحالة، ما يعني أن تنفيذه سيرحَّل على الغالب إلى البرلمان القادم تجنباً لمزيد من الغضب الشعبي.