
مجلة وفاء wafaamagazine
كتبت دوللي بشعلاني في” الديار”:
في الوقت الذي توحي فيه إدارة واشنطن أنّها مع “السلام في منطقة الشرق الأوسط”، لا تضغط على “إسرائيل” لوقف حربها على قطاع غزّة، ولا على حربها في سوريا، لا سيما في السويداء ودمشق، ولا على وقف اعتداءاتها على الجنوب والبقاع في لبنان، أو وقف اغتيالاتها المستمرّة لكادرات في حزب الله في سائر المناطق اللبنانية.. ويدلّ هذا الأمر على أنّ الأهداف من استمرار هذه الحرب على لبنان ودول المنطقة، هو إرساء مشروع تهجير الأقليات، لا سيما الدروز والمسيحيين والسيطرة على الجنوب السوري، ويستدلّ على ذلك من خلال تصريح لوزير الدفاع “الإسرائيلي” يسرائيل كاتس، قال فيه بأنّ بلاده “لن تقبل بأن يتحوّل الجنوب السوري إلى جنوب لبنان”. فضلاً عن إعادة تقسيم المنطقة بما يتجاوز اتفاقية “سايكس- بيكو” التي وصّفها توم بارّاك بأنها فاشلة وقد انتهت.
مصادر سياسية مطلعة تقول بأنّ هذه الاستراتيجية المعتمدة من قبل العدو “الإسرائيلي” تتجاوز مجرد ضربات عسكرية موضعية تطال الجنوب والبقاع أو دمشق، وقد تعكس مشروعاً أعمق يرتبط بإعادة رسم خرائط النفوذ والجغرافيا السكانية في المشرق العربي. ولا تبدو واشنطن، بعيدة عن هذا الأمر، سيما وأنّ المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، والمكلّف حالياً بالملف اللبناني توم بارّاك، سوف يناقش موضوع ترسيم الحدود الجنوبية والشمالية مع المسؤولين اللبنانيين، خلال زيارته المرتقبة إلى لبنان هذا الشهر. وهي من ضمن النقاط التي تدخل في بند “العلاقات اللبنانية- السورية”. في حين أنّ الهدف الأساسي من ترسيم الحدود هو تأمين المصالح الاقتصادية “لإسرائيل”، من خلال حصولها على خزّان المياه في المنطقة، فضلاً عمّا يمكن أن تحصل عليه من قطاع النفط والغاز في حال وجود حقول نفطية مشتركة.
وقد أفادت المعلومات في هذا الإطار، بأنّ ما تقوم به الشركات النفطية في بحر فلسطين المحتلّ، قد أظهر أنّ هناك حقولاً مشتركة بالقرب من البلوك 8 اللبناني، ولهذا على الحكومة المطالبة بحقوقها فيها.
فهل تسعى “إسرائيل” فعلاً إلى تهجير الأقليات من لبنان وسوريا، انطلاقاً من البُعد الطائفي؟ تجيب المصادر بأنّ تصعيد الضربات أو إثارة الفوضى في السويداء، يهدف إلى إجبار الدروز على الهجرة، سواء نحو الجولان المحتل أو إلى الخارج، مما يؤدي إلى تفريغ المنطقة من مكوّنها الطائفي الأساسي. فضلاً عن خلق “منطقة عازلة” بشرية وجغرافية، تمتدّ من الجولان إلى العمق السوري خالية من قوى مقاومة، شبيهة بتجربة جنوب لبنان خلال الاحتلال “الإسرائيلي”.
أمّا الضربات على دمشق التي تضمّ عددا كبيرا من المسيحيين، لا سيما في أحياء مثل باب توما والقصاع، فضلاً عن قرى مسيحية قرب القلمون، فيمكن أن تُفسر أيضا في إطار استراتيجية تهجير الأقليات التاريخية في سوريا، وضرب نموذج التعايش فيها. كما أنّ الضربات “الإسرائيلية المستمرة على جنوب لبنان والبقاع، والتي تُبرّر غالباً باستهداف حزب الله ، فتؤثر فعليا على نسيج سكاني غني بالطوائف، لا سيما الشيعة والمسيحيين. والتوتر الدائم في هذه المناطق دفع العديد منهم إلى النزوح أو الهجرة إلى خارج البلاد، فضلاً عن ضربه الاقتصاد المحلي وقطاع الزراعة، وقد تؤدي الإعتداءات المتواصلة حالياً إلى ضرب الموسم السياحي في لبنان الذي استعاد أخيراً بعضاً من عافيته.
من هنا، فإنّ مشروع إعادة تقسيم المنطقة، ما بعد اتفاقية “سايكس- بيكو”، بعد كلام بارّاك عنها بأنها فشلت وانتهت، تقرأه المصادر ضمن اتجاه أميركي – “إسرائيلي” لإعادة هندسة المشرق العربي، وليست محرّد توصيف تاريخي. ويتمّ هذا المشروع عبر تفكيك دول المنطقة أي ضرب لبنان وسوريا والعراق التي هي نماذج لدول متعدّدة الطوائف، ما يؤدّي إلى انهيار المفهوم التقليدي للدولة الوطنية. فضلاً عن تعزيز الانقسام الطائفي والمناطقي، الذي بهدف إلى تقويض أي وحدة سياسية أو عسكرية يمكن أن تُهدّد “إسرائيل”، من وجهة النظر الأميركية. فضلاً عن تشكيل كيانات بديلة، الأمر الذي جعل بارّاك يتحدّث عن إعادة رسم المنطقة وفق اتفاقيات جديدة مختلفة عن تلك القديمة أو التاريخية.
ولأنّ “إسرائيل” لا تسعى فقط إلى الأمن، بل إلى جوار إقليمي مفكّك، تحيط به “دويلات طائفية” ضعيفة، على ما تلفت المصادر، لا بدّ من تعزيز الإتصالات الداخلية بين جميع الطوائف بهدف حماية الوحدة الوطنية، على غرار اللقاء الذي جمع رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط. وهذا ما سيحصل أيضاً بين قوى عديدة، بحسب المعلومات، لا سيما مع إعادة مجلس النوّاب إعطاء الثقة للحكومة، رغم عدم إنجازها ما وعدت به خلال الأشهر الأولى من عمرها، على أمل أن تنجز الإصلاحات الموعودة قبل نهاية ولايتها في أيار من العام المقبل تزامناً مع موعد الإنتخابات النيابية.
وعن ترسيم الحدود اللبنانية الجنوبية والشمالية، مع كلّ من سوريا و”إسرائيل”، ضمن تصورات فيديرالية مستقبلية للبنان، على ما تقترح واشنطن، تؤكّد المصادر ، أنّ الحدود اللبنانية نهائية، ولا بدّ للحكومة من توضيح بعض الالتباسات، وإعادة إرسال كلّ ما تملك من وثائق ومستندات وخرائط هي اليوم بحوزة الجيش اللبناني إلى الأمم المتحدة، لاستعادة الأراضي المحتلّة والتي تدخل ضمن مساحة لبنان الجغرافية اي الـ 10.452 كلم٢.
غير أنّ إعادة رسم المنطقة، لا يمكن حصولها، على ما تؤكّد المصادر، بإرادة “إسرائيلية” أو أميركية فقط. ما يطرح، التساؤل حول إذا ما كان هناك تنسيق غير مباشر مع القوى الدولية قبل طرح بارّاك فكرته. فقد يكون هناك تواطؤ أو تجاهل دولي للأمر من قبل بعض القوى الغربية، التي ترى أن تفكيك المنطقة قد يحمي مصالحها أو يحدّ من التمدّد الإيراني فيها، أو ربما أيضاً تقاطع مصالح إقليمية، إذ أنّ بعض هذه القوى قد تُفضّل تفكيك الدول المجاورة على السماح بسيطرة خصومها التقليديين (مثل إيران أو تركيا).
وما يبدو واضحاً على الأرض، على ما عقّبت المصادر، أنّ “إسرائيل” تتحرّك عسكريا وسياسيا وفق تصوّر يُعيد النظر باتفاقية سايكس- بيكو التي أنهكتها التحوّلات، وتسعى لفرض وقائع جديدة في المنطقة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستُترك المنطقة لهذا المصير من خلال استمرار “إسرائيل” في الضغط على لبنان وسوريا للإنضمام إلى اتفاقات أبراهام، أم أن القوى الإقليمية ستعيد تموضعها لوقف التفكيك الزاحف تحت غطاء الأمن ومحاربة “الإرهاب”؟