الأربعاء 15 آيار 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
ربما لا يعدّ الفلسطينيون سنوات نكبتهم في ظلّ عيشهم إياها واقعاً حاضراً لا مجرد ذكرى، لكنهم مضطرون إلى إحصاء ما انتهى إليه واقعهم بعد هذه العقود، ولا سيما أنهم يستشعرون الخطر الكبير على مستقبل قضيتهم جراء القرارات والإجراءات المستقوية بـ«صفقة القرن»، مع أن الأخيرة ليست عملياً إلا ترسيخاً للواقع الذي جهدت إسرائيل لترسيخه، فيما يحاول الأميركي شرعنته دولياً وتوفير تعويض اقتصادي للفلسطينيين عن خسائرهم الكبيرة في الأرض والإنسان والوطن. ولعلّ كبرى تجليّات النكبة، الانقسام الفعلي الذي تشهده ساحات العمل المقاوم: القدس، الضفة، غزة… فلكلّ منها الآن حكايته وتفاصيله، رغم ما يجمعها من إرادة فلسطينية للمقاومة، بغضّ النظر عن وسيلة التعبير والتوقيت
لا يُقلِّل الحديث عن العامل الدولي في نكبة فلسطين وتهجير شعبها وقيام إسرائيل، من أهمية عامل التخاذل العربي في كلّ ما جرى، ولا يزال، على شعب فلسطين. كذلك فإنه لا يعني تجاهلاً للمشروع الصهيوني القائم بذاته، بقدر ما هو محاولة لتسليط الضوء على جانب أساسي من هذه القضية، وتظهير حقيقة أن منشأ كلّ ما عانته وتعانيه فلسطين يعود إلى السياسات الاستعمارية التي احتضنت ودعمت الحركة الصهيونية وإسرائيل، وهو ما يؤكد أن فلسطين هي أيضاً ساحة الاشتباك الرئيسة بين الشعوب العربية وقوى الاستعمار الدولي، التي يشكل الكيان الإسرائيلي إحدى أهم أدواتها في مشروع هيمنتها على المنطقة.
وبنظرة خاطفة إلى أحداث القرن الماضي، يُلحظ أن أهم المحطات التي مرت بها قضية فلسطين ومجمل الصراع العربي ـــ الإسرائيلي كانت بفعل تطورات دولية تركت مفاعيلها على أرض فلسطين ومحيطها، بدءاً من الحرب العالمية الأولى التي أفرزت وعد بلفور، وصولاً إلى وعد دونالد ترامب الذي يهدف إلى انتزاع شرعنة الاحتلال من الشعب الفلسطيني. فمنذ اللحظات الأولى التي تبلورت فيها الحركة الصهيونية، أدرك مؤسسها تيودور هرتزل أن مشروعها لن يرى النور من دون احتضان دولي، وأن هذا الاحتضان لن يتبلور من دون دور وظيفي يؤديه لمصلحة السياسة الدولية ـــ الاستعمارية. على هذه الخلفية، وجّه هرتزل جهوده الأولى لانتزاع هذا الاحتضان، فأجرى اتصالات دولية شملت بريطانيا وألمانيا والدولة العثمانية… وفي نهاية المطاف، لم يأخذ المشروع الصهيوني طريقه إلى التحقق في الواقع إلا بعد تبنّيه رسمياً من قِبَل بريطانيا، ووعد آرثر بلفور، في سياق الحرب العالمية الأولى.
استند المشروع الصهيوني في فلسطين إلى ثلاث ركائز: السيطرة على الأرض، والهجرة، وبناء المؤسسات. ولم يكن لكل من العناصر الثلاثة أن يتحقق من دون الاحتضان الدولي ـــ البريطاني. فهو وفّر المظلة للهجرة اليهودية التي تدفقت للاستيطان في فلسطين، وأدى ذلك إلى بلورة واقع ديموغرافي شكّل البنية التحتية لتنفيذ المشروع الصهيوني. أما الاحتلال نفسه، فوفّر شرط السيطرة على الأرض التي شكلت الحيّز الذي أقيمت عليه المستوطنات. وفي ظلّه، بُنيَت المؤسسات في مرحلة «اليشوف» (الاستيطان ما قبل إقامة الدولة) التي شكلت النواة لقيام إسرائيل. وفي مرحلة لاحقة، أتى قرار التقسيم (181) عام 1947 ليوفر غطاءً دولياً كي يحوّل المستعمرة الصهيونية في فلسطين إلى كيان يهودي دولتي. ومنح القرار الدولي الصهاينة دولة على مساحة 55% من فلسطين، سرعان ما توسعت في سياق حرب 1948 بعد أشهر لتسيطر على 78% من البلد.
مع ذلك، التركيبة الديموغرافية لفلسطين في 1948 لم تكن تسمح بنجاح المشروع الصهيوني، انطلاقاً من أن نسبة اليهود كانت بعد موجات الهجرة المتتالية خلال العقود السابقة (650 ألفاً) تقارب ثلث سكان فلسطين. من هنا، لم تكن عمليات التهجير نتيجة عَرَضية للمواجهة التي حصلت، بل كانت هدفاً قائماً بذاته، ومن دونها لم يكن للكيان الإسرائيلي أن يقوم على أرض فلسطين. والآن، بعد مضي أكثر من 70 عاماً على عمليات التهجير، لا يزال المشروع الصهيوني يواجه تحدي وجود نصف الشعب الفلسطيني على أرض وطنه. في المقابل، يواصل العدو الضمّ الاستيطاني الزاحف، الذي يسبق ويمهّد للضم القانوني. وفي النتيجة الكلية، يظهر أن 82% من أرض فلسطين التاريخية يملكها الآن يهود، أو هي أراضٍ تسيطر عليها إسرائيل.
ما لم ينجح طوال عقود تسعى «صفقة القرن» إلى تحقيقه في هذه المرحلة
المخطط الدولي الجديد الذي يستهدف القضية الفلسطينية يحمل في هذه المرحلة عنوان «صفقة القرن»، وهو ما يطرح مجدداً إشكالية يروج لها البعض بأن الفلسطينيين لو وافقوا على قرار التقسيم في 1947، لما واجهوا ما يواجهونه الآن، في محاولة للقول إن عدم الواقعية قبل أكثر من 70 عاماً أوصلت إلى «أوسلو» ثم إلى «صفقة القرن»، وهو ما يضعهم مجدداً أمام التحدي نفسه. لكن الحقيقة التي يتجاهلها أو يغفل عنها البعض، أنّ الحركة الصهيونية اعتمدت سياسة المراحل في سبيل تنفيذ مشروعها. أمرٌ يؤكده المسار التاريخي للحركة الصهيونية منذ تأسيسها عام 1897، وأوضحه مؤسس إسرائيل وأول رئيس وزراء لها ديفيد بن غوريون، وعبّر عن ذلك في رسالة مشهورة له إلى ابنه عاموس قبل نحو عشر سنوات من قرار التقسيم (5/10/1937)، يقول فيها: «لا أشعر إطلاقاً بالإهانة بإقامة دولة يهودية حتى لو كانت صغيرة، أنا بالتأكيد لا أرغب في تقسيم الأرض… أنا متحمس جداً لإقامة الدولة ــــ حتى إن كانت تلزمنا الآن الموافقة على التقسيم ــــ لأنني أرى أن الدولة اليهودية المنقوصة ليست النهاية، وبل هي البداية».
ويوضح بن غوريون الخطة الصهيونية في تحويل الدولة اليهودية على جزء من أرض فلسطين إلى منطلق للسيطرة على كاملها، بالقول: «سنحشد في الدولة أكبر عدد ممكن من اليهود… لا أشك في أن جيشنا سيكون واحداً من أكثر الجيوش تميزاً في العالم، وعندئذ أنا متأكد أنه ما من شيء سيمنعنا من الاستيطان في كل الأجزاء الباقية من الأرض، إما من طريق الاتفاق والتفاهم المتبادل مع جيراننا العرب، وإما بطرق أخرى». هكذا، يتضح على نحو ملموس أن الموافقة الفلسطينية والعربية على قرار التقسيم لم تكن لتنقذ ما بقي من فلسطين، أو تحول دون النكبة التي لم يكن هناك بديل منها بسبب طبيعة المشروع الصهيوني وأهدافه، بل كانت ستعطي شرعية فلسطينية للكيان الإسرائيلي. كذلك أثبتت التجربة التاريخية أن مسألة «شرعية» الكيان الصهيوني أو عدمها مسألة في غاية الأهمية في الصراع.
من زاوية أخرى، الذين صاغوا قرار التقسيم كانوا يدركون أنه لن يحلّ المشكلة، بل لم يكن قابلاً للتنفيذ حتى لو قبله الفلسطينيون والعرب. والسبب بكل وضوح أنه لا يمكن إقامة الكيان الصهيوني على 55% من مساحة فلسطين وفق ما نصّ عليه القرار، فيما عدد سكان تلك المساحة من الفلسطينيين يكاد يعادل عدد سكانها من اليهود، وملكية الأرض التي بحوزة الفلسطينيين في ذلك الجزء قد تزيد على 90%… وإذا ما دققنا في الموقف الصهيوني، فهو لم يقبل قرار التقسيم، وإنما قبل ما تضمنه من إقامة الدولة اليهودية. وبشكل موازٍ، أعدّ الصهاينة خططهم العسكرية لتوسيع نطاق الدولة، وهو ما حدث لاحقاً وسريعاً.
من أهم ما حققه موقف الرفض الفلسطيني منذ ذلك الحين إبقاء القضية الفلسطينية حيّة طوال هذا الوقت، على رغم الأهوال والمؤامرات التي استهدفتها. ولو وافق الفلسطينيون على قرار التقسيم، لكانوا منحوا الشرعية لكيان استعماري استيطاني عنصري على أكثر من نصف وطنهم، إضافة إلى أن قبولهم كان سيسهّل تحقيق الأطماع الصهيونية في إقامة وطنٍ على كل فلسطين بسرعة أكبر وثمن أقل مما حدث فيما بعد. والبعض يخلط جاهلاً أو متعمداً بالقول إن الانكسارات التي توالت ليست بسبب موقف الرفض، بل لأسباب أخرى ترتبط بإدارة الصراع في المراحل التي تلت. وهو ما بات أكثر وضوحاً في أن فشل المقاومة في ساحة من الساحات، وفي مرحلة زمنية معينة ضد كيان العدو، لم يكن نتيجة خطأ خيار المقاومة، والدليل أنها حققت إنجازات تاريخية واستراتيجية في ساحات ومراحل أخرى.
وكما الحال في كل مراحل الصراع، كان ولا يزال الشعب الفلسطيني محور المخططات الدولية والتآمر «العربي»، لأنه كان وما زال السدّ أمام المنهزمين والخونة الذين يترصدون اللحظة التاريخية الملائمة للانتقال إلى مرحلة التحالف العلني مع الكيان الصهيوني. وما لم ينجح طوال العقود السابقة، في هذا السياق، تسعى «صفقة القرن» إلى تحقيقه في هذه المرحلة التاريخية، لكن ما لم يقبله الشعب الفلسطيني في نكبته، لن يُسلّم به في الوقت الذي تقف فيه إسرائيل مربكة ومقيّدة أمام أقلّ من 2% من مساحة فلسطين: قطاع غزة.
المصدر: الأخبار