مجلة وفاء wafaamagazine
إلى حفل الإستخفاف بعقول اللبنانيين، تسابقت المكوّنات السياسية لحكومة الـ “تكنوقراط” باستثناء الرئيس نبيه بري، لتصوير أنّ شخصًا اسمه رياض سلامة يقف وراء مؤامرة جنون سعر صرف الدولا، فإذا رحل، أُقيل أو استقال، تعقّل الدولار واستقرّ وبتنا بألف خير، بفضل حكمة حكماء الحكومة.
فضلًا عن إيحاء شياطين السياسة أو ملائكة الحلول، أنّ هذا المخرج أو كبش الفداء، بات واجبًا وطنيًا وإلهيًّا ربما، تداعى أهل الحكم على عجل، ألغوا مواعيدهم، جلسوا يعصرون أفكارهم ويبتكرون الحلول لأجل حاضرنا ومستقبلنا، إلى أنّ وجدوها، ضخْ الحاكم المتآمر دولارات في السوق يخفض السعر إلى أكثر من 50%. حسنًا بالنهاية نريد أكل العنب، وسلامة مسؤول كما غيره عمّا وصلنا إليه من كوارث مالية، فإذا كان يقف عثرة أمام حلولكم السحرية، فليرحل اليوم قبل الغد، ولا أسف عليه. سنجاريكم بسعيكم المشكور، ولكن فقط اسمحوا لنا أيّها المنقذون الصالحون أن نسأل، هل حلّكم هذا سيعقلن الدولار؟ أم أنّنا أمام ترقيعة أو تنفيسة لن تدوم طويلًا قبل أن يتفلّت سعر الصرف من جديد؟
حلّ بألف مشكلة
البروفسور مارون خاطر أستاذ محاضر وباحث في الشؤون المالية والاقتصادية قرأ في مشهدية الخميس من تدهورٍ غير مبرر لسعر الصرف على أنّه نتيجة فشل نهج من يديرون اللعبة، مستشهدًا بمَثَلٍ فرنسي يقول إنّ من يزرع الريح يحصد العاصفة، فكيف إذا كانت بعض الرياح قد زُرعت، فيما بعضها الآخر يهبُّ عبر الحدود؟
خاطر وفي حديث لـ”لبنان 24″ رأى أنّ محاولات تخفيض سعر الصرف فشلت، كونها ارتكزت إلى أوهام وتخيّلات مصمميها، وأدَّت إلى تأجيج السوق السوداء. لاقتها المفاوضات المتعثرة مع صندوق النقد، والإنعكاسات السلبية جداً لاجتماع النصف ساعة في بعبدا، بزيادة الطلب إلى مستويات جنونية، في وقت لامس العرض حدود الصفر. مضيفًا: “ترافقت سوداوية المشهد الداخلي مع تقديم ساعة الصفر للبدء بتطبيق قانون “قيصر”، المترافق بحَملة إعلامية عالمية، الأمر الذي دفع السوريين الى التحوّط. إنفجر الشارع اللبناني غضباً، تمخَّضَت الحُفرة وولدت مسخاً جديداً، فتقرَّرَ لبنانيًا ضخ العملة الخضراء في السوق الملتهب. إنَّه حلٌّ بألف مشكلة، سطر جديد في سجلِّ الفشل، كَمَن يبصق على غابةٍ تحترق”.
وأوضح خاطر أنّ الحاجة الشهرية للسوق تُقَدَّر حاليًّا بحوالي 300 مليون دولار، “إن كان لبنان يملكها، كان الأحرى به دفع اليوروبوندز وتلافي التعثر وتداعياته، وبالتالي لن تستطيع حفنةٌ من الدولارات إطفاء حريق الغابة”.
تفاهم السراي ولد ميتًا
ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء إلى أكثر من ألفي ليرة خلال ساعات، حصل غداة الإتفاق بين المصرف المركزي والحكومة من جهة والصرَّافين من جهة ثانية، لتخفيض السعر. لماذا سقط الإتفاق، وهل سعر الصرف مرهون فقط بسوق الصرّافين؟
وفق مقاربة خاطر، “يعود التخفيض التدريجيّ لسعر الصرف إلى لقاء “النهاية السعيدة” للتوقيفات الذي عُقِد بين رئيس الحكومة حسَّان دياب والصرَّافين، الذين أعلنوا عن تطبيقٍ تجزيئي للتعميم الوسيط 553، وهنا تَكمُنُ المشكلة. فبالإضافة إلى كونِ التعاميم لا تطبّق بالتجزئة، فالتعميم المشار اليه ولد ميتاً، ودُفن إلى جانب أمثاله من التعاميم والقرارات غير القابلة للحياة. في الشكل، لا يتعدّى تفاهم السراي وتخفيضه المزعوم لسعر الصرف، كونه رقصاً ضوضائيًا على القبور. أمّا في المضمون، فمن الخطأ اعتبار الصرافين جهةً مسؤولة عن تحديد، تخفيض أو مراقبة سعر الصرف. فالسعر المتداول يجب أن يكون نتيجةً للعرض والطلب، وليس عمليةً حسابية يَبتَدِعُ ارقامَها ويراقبُها من وجب عليه الالتزام بها. وبالتالي اعتبر خاطر “أنّ تدخّل الصرافين على سوق القطع سيكون محدوداً، ومرتبطاً بنفاذ الإحتياطي الذي بحوزتهم، مما سيضطرهم لشراء الدولار من السوق الموازية بسعرٍ مرتفع، يجعل مهمتهم الوهميَّة مستحيلة. وفي الوقت الضائع، يَعمَد الصرّافون الى الحدِّ من الطلب على الدولار، عبر التقيد بنَصّ التعميم ٥٥٣، الذي يطلب ملفاً كاملاً لكل عملية. إلا أن ما يَغفَلون عنه، أنّ التخفيض الاجرائي والمصطنع للطلب سيقابله ارتفاع جنوني للسعر في السوق السوداء. فالأسباب المسؤولة عن شِحّ الدولار تساهم في زيادة الطلب عليه”.
انطلاقًا من هذه المقاربة خلص خاطر إلى اعتبار أنّ تفاهم السراي لم يسقط فحسب، بل ولد مسخاً ميتاً، وأدَّى إلى ازدياد الطلب على الدولار، وشكّل عاملًا عضويًّا ساهم في زيادة سعر الصرف، إلى جانب العوامل الاخرى ذات الأبعاد المختلفة.
عن الدور المرتجى من المنصَّة الإلكترونية، رأى خاطر أنّها قد تتمكَّن من لعب دورٍ تنظيمي في إطار دعم المصرف المركزي للمواد الأولية الصناعية والغذائية، إلا أنّها لن تضطلع بأيّ دور في لجم سعر الصرف، خصوصًا أنّ المصرف المركزي نفسه غير قادر على التدخل في سوق القطع، بسبب الإنخفاض الدراماتيكي في احتياطه. كما أنّ الأزمة النقدية الكارثية ليست مرتبطة فقط بأبعاد تنظيمية بحتة، بل هناك تداخل لجملة عوامل، جعلت من الدولار عملةً نادرة، واستمرار هذه النُدرة، ستدفع بسعر الصرف إلى الارتفاع المتواصل، حتى الوصول إلى التوازن بين العرض والطلب.
الأزمة مرتبطة بالداخل والخارج
جملة تعقيدات وممارسات أوصلتنا إلى ما نحن عليه، بنظر خاطر، “شكّلت البُنية التراكمية الصدئة للنظام السياسي القائم على المحاصصة والزبائنية والفساد المستشري سببًا أساسياً لتدهور الوضع، ثمّ تواطأت عدّة عوامل أدّت إلى شحٍّ كارثي في السيولة، من تمويل المصارف للدولة إلى هروب رؤوس الأموال وتحويل الاموال إلى الخارج، وتوقف تحويلات المغتربين وإغلاق المطار. وبدل أن نشهد معالجات، شكّلت الأزمة منطلقاً للأحقاد وتصفية الحسابات وشحن الغرائز، بحيث استخدمت الحكومة وسائل تعقبيَّة وعقابية غير متناسبة مع ماهية الأزمة النقدية، أثبتت عدم نضوجها وفشلها في إدارة الأزمات. خلافات الداخل هذه انسحبت على أجواء مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي، فدَخَل اللبنانيّون اليها منقسمين وسيخرجون خاسرين. خارجياً أيضاً، ألهَمَ تعثر المفاوضات بعض الافرقاء التوجه شرقاً، فأتاهم وأتانا قيصر، معجلاً عن قصد أو عن غير قصد، تاركاً للبنان السماء والبحر ورحمة الله”.
لا حلّ إلا بالإصلاح
خاطر ليس متفائلًا بإمكان لجم تفلت سعر الصرف، لافتًا إلى أنّ “تداعيات الأزمة قوبلت بازدياد الطلب على الدولار المفقود، والعابر للحدود وذات السعر المتحرر من القيود والمصمم على الصعود. فإذا استمرّ غياب الإصلاح الموعود، لا إمكانيَّة لنا على الصمود وسنغرقٌ في ظلام اليأس عقوداً وعقود.
لا أرى ما يحمي عملتنا واقتصادنا من تدهورٍ لا محدود. فإن لم يأت التغيير المنشود فنلبس جميعاً قمصانا بيض وننسى الليالي السود، فسنذهب مع أحلامنا إلى جنات الأرض أو إلى جنات الخلود…
لذلك فلتنزل الحشود!”.