مجلة وفاء wafaamagazine
حسين عاصي
على مدى أكثر من أسبوع، انشغل اللبنانيون بكواليس ودهاليز “اللقاء الوطني” في بعبدا، الذي تفوّق في قاموس “أولويّات” بعض المسؤولين على المعاناة المتفاقمة على مختلف الصُّعُد، وعلى استمرار سعر الدولار بـ”التحليق” عالياً، لينصبّ كلّ الاهتمام على من سيحضر ومن سيقاطع الحوار الذي بدا للبعض وكأنّه “تاريخيّ” وغير مسبوق.
وعلى رغم أنّ اللقاء عُقِد في نهاية المطاف “بمن حضر”، ليبدو أشبه بجلسة وزاريّة ولكن بحضور “الأقطاب” لا “الوكلاء”، مع ضيف أو ضيفي شرف، فإنّ “الانقسام” حوله لم ينتهِ، إذ وجدها المعارضون فرصة لـ”الشماتة” من هزالة الحضور والمضمون، فيما كان الموالون يبالغون بالحديث عن مسؤوليات “تاريخيّة” سيتحمّلونها لتغيّبهم عن اللقاء.
لكن، وأبعد من كلّ هذه الاتهامات التي باتت تقليديّة، ولو أنّها لا ترتقي لمستوى الأزمات الحاليّة، هل كان حوار بعبدا يستحقّ فعلاً كلّ هذه “الضجّة” التي سبقته ورافقته ولم تسدل ستارتها بانتهائه؟ وهل من نتائج أفضى إليها أصلاً بعيداً عن الشعارات العامة التي ملّ اللبنانيون سماعها أصلاً؟!
السجال مستمرّ…
بحضورٍ هزيلٍ إذاً، عُقِد “اللقاء الوطني” في بعبدا، بحضورٍ اقتصر على أقطاب فريقي “العهد” والثامن من آذار، ومقاطعة كلّ أطياف المعارضة، باستثناء “الحزب التقدمي الاشتراكي” الذي تمثّل بالنائب تيمور جنبلاط بدلاً من رئيسه وليد جنبلاط، والرئيس السابق ميشال سليمان الذي أراد استعادة “أمجاد” إعلان بعبدا الشهير.
وبمضمونٍ هزيلٍ إلى حدّ كبير أيضاً، انفضّ الاجتماع، الذي لم يخرقه سوى سجال أثير إعلامياً بين سليمان وبعض المشاركين، أبعد ما يكون عن اهتمامات اللبنانيين في هذه المرحلة، ولم يُفضِ إلى أكثر من بيان “استفاض” في العموميّات، من الحملات التحريضية والسلم الأهلي والحريات الفردية والخاصة، وصولاً إلى حقّ التظاهر والمعارضة، لتأتي الأزمات المعيشية في بندٍ متأخّر، ومن خلال بعض الرؤى والأفكار، لا أكثر ولا أقلّ.
وكأنّ كلّ ذلك لا يكفي “اللقاء الوطني”، الذي حُمّل أصلاً أكثر ممّا يحتمل، خصوصاً أنّ لا أطر تنفيذية له على الإطلاق، فإنّ السجال حوله استمرّ بعد انتهائه، وهو ما تجلى بتعليقات “الشماتة” التي أطلقها المعارضون، وصولاً إلى بيان تيار “المستقبل” الذي حكم سريعاً على المضمون بـ “غير الموفّق”، علماً أنّ الكثير من هؤلاء اعتبروا أنّهم حقّقوا “هدفاً” في سجلّ “العهد”، الذي تحوّل الحوار بالنسبة إليه، من صورةٍ جامعة أراد التقاطها لتعويم نفسه بشكلٍ أو بآخر، إلى “عبءٍ” عليه أراد إلغاءه لولا “الإحراج”.
وفي المقابل، ثمّة وجهة نظر أخرى تقول إنّ “العهد” ليس المسؤول عن الصورة “الهزيلة” التي خرج بها اللقاء، بل إنّ كلّ المسؤولية تقع على عاتق المتغيّبين عنه، ممّن تذرّعوا بأنّه “مضيعة للوقت”، مع أنّ الجميع يدرك أنّهم كانوا سيقدّمون كلّ وقتهم لأيّ حوارٍ مماثل، لو حصل في عين التينة أو أيّ مكانٍ آخر، وأنّ جلّ همّهم كان ضرب “العهد”، وهو ما يُستشَفّ أصلاً من تصريحاتهم، التي تحمّلهم مسؤولية تاريخيّة في التقاعس والإهمال، وتغليب المصالح السياسية الآنية على تلك الوطنية البعيدة المدى.
ولّى زمن الحوارات؟!
برأي كثيرين، لم يكن حوار بعبدا يستحقّ كلّ “الضجّة” التي رافقته، ليس فقط لـ “هزالة” النتيجة، علماً أنّ بيانه الختاميّ زاد الطين بلّة، باعتبار أنّه بدا “شِعرياً” في أفضل الأحوال، بعيداً عن تقديم أيّ حلول تفوق طاقة المجتمعين أصلاً.
لم يكن الحوار يستحقّ هذه “الضجّة”، تماماً كما أنّه لم يكن يستحقّ التحوّل إلى عنصر “تأزيم” جديد في المشهد اللبنانيّ الحافل بالأزمات المفصليّة، والمفتوح على غيرها من الأزمات والحروب والمؤامرات التي تبدو كونيّة لكثيرين.
ولعلّ “تقاذف” كرة المسؤوليّة عن النتيجة التي أفضى إليها الحوار خير دليلٍ على ذلك، خصوصاً أنّ “السهام” وصلت إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يُقال إنّه “عرّاب” اللقاء وصاحب فكرته، وأنّه من أقنع رئيس الجمهورية بالدعوة إليه، بعدما “ضمن” له أنّه قادرٌ على تأمين حضور معظم الأقطاب، ولا سيما من “أصدقائه”، وهو ما لم ينجح في تحقيقه.
وإذا كان حضور الرئيس سليمان شكّل “خرقاً” للمقاطعة التي اصطدم بها “اللقاء”، فإنّه تحوّل أيضاً إلى “عبء” بالنسبة إلى “العهد”، الذي لم يكن مرتاحاً لـ “استغلال” الرئيس السابق لمنبر بعبدا للتباهي بـ “إنجازه التاريخيّ” المتمثّل في إعلان بعبدا، علماً أنّ كثيرين تعمّدوا المقارنة بين الحوارات التي كان يدعو سليمان إليها وحوار الأمس، من باب تصوير وكأنّ تجربة الرئيس “الرماديّ” أهمّ من الرئيس “القويّ”.
المهمّ، وأبعد من كلّ هذه السجالات التي لا تنتهي، أنّ “العِبرة” التي يجب أن تُتَّخَذ برأي الكثيرين، بعد “اللقاء الوطني”، أنّ “زمن الحوارات قد ولّى”، بشكلها الحاليّ، على رغم أهمية الحوار في زمن الأزمات الوجوديّة، كالذي يمرّ به لبنان اليوم، علماً أنّ هذه “العِبرة” كان قد توصّل إليها الرئيس عون عند وصوله إلى قصر بعبدا، حين رفض “استنساخ” حوار سليمان، فإذا بالظروف “تجرّه” إليه بشكلٍ أو بآخر. ولا تعود هذه “العِبرة” فقط إلى تحوّل الحوار بحدّ ذاته إلى “أزمة” تُضاف إلى الأزمات، كما حصل مع “اللقاء الوطني”، ولكن لأنّ ما يطلبه اللبنانيون اليوم لا يتأمّن بحوارٍ لا يحمل أكثر من “الاستعراض”، بعيداً عن تقديم الحلول العمليّة، التي لن “تستقيم” الحياة السياسية من دونها، في استعارةٍ لبعض مفردات البيان الختاميّ.
ماذا لو حضر الجميع؟!
ليس خافياً على أحد أنّ مقاطعة حوار بعبدا كانت “سياسية بامتياز”، تماماً كتلك الردود “الافتراضية” على المتغيّبين، التي حفلت بها وسائل التواصل الاجتماعيّ، كـ “شكر” بعض الناشطين “العونيّين” مثلاً لعددٍ من المدعوّين، لأنهم غابوا، ولم “يلوّثوا” اللقاء بحضورهم، متجاوزين فكرة أنّ الرئيس عون هو من دعاهم أصلاً.
ولكن، ماذا لو حضر هؤلاء، وهم حضروا الكثير من الحوارات في السابق؟ ما الذي كان سيغيّره حضورهم في الصورة العامة؟ هل كان اللقاء سيصبح عندها تاريخياً، وما بعده لا يشبه ما قبله؟
الأكيد أنّ الإجابة ستكون نافية، وإن قال البعض إنّ مجرّد الاجتماع من شأنه “تنفيس الاحتقان”، وأنّ لقاء المسؤولين ضمانة لـ “السلم الأهلي”، وفي ذلك إنكارٌ للأزمة الحقيقيّة، التي لن يحلّها أيّ حوار، مهما توسّع عدد المشاركين فيه…
النشرة