مجلة وفاء wafaamagazine
لن يُقبل تسديد القروض الممنوحة بالعملات الأجنبية لغير المقيمين إلا من أموال جديدة
ليا قزي
ليست حسابات مصرف لبنان وطريقة توزيعه خسائره وحدهما أمراً عجيباً لا مثيل له في المصارف المركزية العالمية، بل حتّى إجراءاته التي يُريد تسويقها على أنّها لـ«المنفعة العامة». العنوان العريض لتعميم أصدره رياض سلامة أمس، أنّه يطلب «إعادة الأموال من الخارج». لكن يبيّن التدقيق فيه أنه يرمي حبل النجاة لأصحاب المصارف وأعضاء مجالس إدارتها وكبار المُساهمين و«الأشخاص المُعرّضين سياسياً» ليمنع محاسبتهم عن تهريب أموالهم، كما يمنع التدقيق في حساباتهم، ويمنحهم فوائد عالية على جزء من ثرواتهم، بعد أن يضمن لهم استعادتها بعد خمس سنوات. تعميم يعترف فيه سلامة بأن «مهرّبي» الأموال إلى الخارج فاسدون متهربون من الضرائب ويبيّضون الأموال. لكنه يمنحهم صك براءة من تطبيق المواد القانونية الخاصة بتلك الجرائم، في حال وافقوا على تجميد ما يعادل 15 في المئة من الأموال التي هرّبوها!
نشاط لافت لحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، سُجّل يوم أمس. أربعة تعاميم أصدرها دفعةً واحدة، ظاهرها يوحي بـ«خطوات إيجابية» للحاكم حتى يُعيد بسط السيطرة على الساحة المصرفية والمالية. ولكنّ التعميم الأساسي 154، والتعاميم الوسيطة (التعميم الوسيط هو عادةً تعديل لتعميم أساسي صادر سابقاً) 567 و568 و569، هي أشبه بحبّة فواكه شهية، يتبيّن عند النظر داخلها وجود دود صغير يُفسِدها. حاكم مصرف «الزومبي» يستخدم آلة الإنعاش القديمة ذاتها، ولكنّ الكارثة هذه المرّة أنّها لم تعد صالحة للخدمة ويُراد تركيبها لمريض يلفظ آخر أنفاسه.
– تهريب الأموال بدأ في الـ2017 –
البداية مع التعميم الأساسي الرقم 154، الموجّه للمصارف ولمفوضي المراقبة لدى المصارف، وهو عبارةٌ عن «إجراءات استثنائية لإعادة تفعيل عمل المصارف العاملة في لبنان». المادة الأولى من القرار تُفيد بأنّ «على كلّ مصرف أن يقوم بعملية تقييم عادل لموجوداته ومطلوباته تُساعده على وضع الخطة المُشار إليها في المادة 11 من القرار الأساسي الرقم 6939 (يتعلق بالإطار التنظيمي لكفاية رساميل المصارف العاملة في لبنان)». ترتبط هذه المادة بالمادة الرابعة بأنّ على كل مصرف «استناداً إلى الخطة التي يكون قد وضعها، وبنتيجة تقييم أوضاعه إفرادياً، أن يتقدّم من المجلس المركزي لمصرف لبنان للاستحصال على موافقته على إعادة تكوين رأسماله و/أو زيادته وفقاً للحاجة، وذلك خلال الفصل الأول من الـ2021».
ماذا يعني ذلك؟ هاتان المادتان تُخالفان القرار السابق للحاكم بإنشاء لجنة لإعادة هيكلة المصارف تتولّى هذه العملية، مفوّضاً إليها مهمة تقييم نفسها بنفسها بما تراه مُناسباً، من دون وجود أي إطار ناظم. وبالرضاء، يُمكن للمصارف «تحويل ودائع مودعيها إلى أسهم في رأسمالها و/أو سندات دين قابلة للتداول والاسترداد». ذُكر في المادة أنّه تُدرج كامل أسهم المصرف والتداول بها حصراً في البورصة في لبنان، «ويُمكن تحويل ثمن بيعها وثمن بيع سندات الدين الدائمة القابلة للتداول والاسترداد إلى الخارج إذا تمت عملية البيع بأموال جديدة»، تُعطى نسبة فوائد عليها أعلى من المعمول بها، وتُعطي حاملها أفضلية الاكتتاب بزيادة رأسماله.
في التعميم الذي وضعه سلامة لاستعادة الأموال المُحوّلة إلى الخارج، يسمح بتحويل الأسهم المتداولة بالبورصة إلى الخارج! دار دار وعاد إلى النقطة نفسها، سامحاً أيضاً بتحويل الودائع إلى أسهم أو سندات تُدفع عليها فوائد مرتفعة، وتسمح لحاملها بتحقيق أرباح كبيرة. حامل السندات لن يكون خارج دائرة «كبار المودعين»، أي إنها إعادة توزيع للثروة داخل نادي الثروات.
وفي المادة الثانية من التعميم، «يحثّ» الحاكم المصارف على «حثّ» عملائها الذين حوّلوا ما يفوق مجموعة 500 ألف دولار أميركي، أو ما يوازيه بالعملات الأجنبية الأخرى إلى الخارج، «خلال الفترة من 1/7/2017 حتى تاريخ صدور القرار، على أن يودعوا في حساب خاص مُجمّد لمدة 5 سنوات مبلغاً يوازي 15% من القيمة المُحوّلة». وكـ«مكافأة» للمصارف التي تنجح في عملية الحثّ، «يُعفى المصرف المعني من إجراء توظيف إلزامي لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية مقابل أي حساب خاص».
وللمستوردين أيضاً حصّة في التعميم، «على المصارف حثّهم على أن يُحوّلوا من الخارج إلى حساب خاص مبلغاً يوازي 15% من قيمة الاعتمادات المستندية المفتوحة في واحدة من السنوات 2017 و2018 و2019». ويُمكن للمصارف أن تدفع فوائد على «الحساب الخاص» من دون التقيّد بسقوف الفوائد المُحدّدة. يحصل الزبون من المصرف على تعهّد بأن يستعيد وديعته «مهما كانت الظروف» عند حلول أجلها، كما يقوم المصرف باستعمال «هذا النوع من الودائع لتسهيل العمليات الخارجية المُحفزة للاقتصاد الوطني»، من دون أن تُشرح النقطة الأخيرة. المادة الثالثة تنصّ على أنّ على كلّ مصرف «أن يكوّن حساباً خارجياً حرّاً من أي التزامات لدى مراسليه في الخارج لا يقل، في أي وقت، عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديه، كما هي في 31/7/2020».
تشرح مصادر مُتابعة أنّ مُجرّد استخدام تعبير «حثّ» يعني أنّ الموضوع غير جدّي وقد لا يتحقّق، فضلاً عن أنّ البعض اعتبر أنّ «عدم تحديد كتابةً أنّه يجب إعادة الأموال من الخارج، قد يعني القبول بتجميد ما يساوي 15% الاموال المحوّلة إلى الخارج، لكن يؤتى بها من الودائع التي يملكها الشخص في لبنان».
هذه المادة تعني أيضاً أنّه لو حوّل أحد الأشخاص 500 ألف دولار إلى الخارج فسيُعيد 75 ألف دولار فقط، ومن حوّل مليون دولار سيُعيد 150 ألف دولار، أما من حوّل 10 ملايين فيُعيد مليون و500 ألف دولار.
هؤلاء سيحصلون على فوائد مرتفعة لقاء تجميد أموالهم، وينالون ضمانات بتسديدها حين يحين موعدها، «ستُدفع من أموال المودعين الآخرين. إنّها إعادة إحياء لنظام البونزي حين دفعت المصارف فوائد مرتفعة لجذب الودائع». أين المنطق في مكافأة من «هرّب» أمواله، فيما مُنع على المودعين الصغار سحب رواتبهم حتّى، وإعطاء «المهرّب» ضمانات وفوائد تُدفع من أموال عامة المودعين؟ وهل سيثق أحد أصلاً بإعادة وضع أمواله في نظام مصرفي مُفلس؟ مهلاً، فسلامة لا يُريد حصراً من «كبار المودعين» إعادة أموالهم التي حوّلوها إلى الخارج، بل حدّد أنّ التعميم يُطبّق على رؤساء وأعضاء مجالس إدارة وكبار مساهمي المصارف، وعلى الإدارات العليا التنفيذية للمصارف. أما العملاء من الأشخاص المُعرضين سياسياً، مباشرةً أو غير مُباشرةً، فـ«تُعتمد نسبة 30% بدلاً من 15%».
قبل أشهر، أبلغت هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان القاضي غسان عويدات أنّها لا يُمكنها أن تكشف له عن هوية الذين حوّلوا أموالاً إلى الخارج، إذ لا تدور حولهم شبهات. ولكن في التعميم، يذكر سلامة أنّ هؤلاء، وفي حال تخلّفهم عن تطبيق ما سـ«تحثّهم» عليه المصارف، فسيُطبَّق بحقهم البندان 9 و21 من القانون 44 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ألا يُفترض أن يمثل هؤلاء أمام القضاء إذاً عوض فتح حسابات خاصة لهم؟ وفي القانون، وردت المادة 7 حول الأموال غير المشروعة الناتجة عن استغلال المعلومات المميزة والمضاربات غير المشروعة. من يشملهم تعميم سلامة، وُضعت بين أيديهم، نتيجة وظيفتهم، معلومات سمحت لهم بتهريب أموالهم، فيما كانوا يمنعون صاحب حساب جارٍ فيه مليون ليرة من الحصول عليها! يبقى الأهم في التعميم، الذي لا يستفيد منه حساب الاحتياط ويسمح للمصارف بإعادة التحويل إلى الخارج من خلال «لغم» اسمه «عمليات خارجية مُحفزة للاقتصاد الوطني»، اعتراف رياض سلامة أخيراً بأنّ أزمة التحويلات بدأت في الـ2017 وليس في تشرين الأول 2019. الرجل يعترف بأنّه كان بإمكانه القيام بخطوات لتدارك استنزاف احتياطيات العملة الصعبة ومنع خروج الودائع، ولكنه انتظر ثلاث سنوات!
– ترحيل خسائر المصارف –
التعميم الثاني المُتعلق بالأزمة المالية والنقدية، هو التعميم الوسيط 567، الذي ينسف كلّ ما ورد في خطة الحكومة للإصلاح المالي، وتوصيات صندوق النقد الدولي. يتحدّث سلامة عن تكوين مؤونات على توظيفات المصارف في الديون السيادية: سندات الدين بالعملات الأجنبية (يوروبوندز)، سندات الدين بالليرة، وشهادات الإيداع. ويُقدّم «انتصاراً» إلى كلّ ما يمتّ لـ«حزب المصرف» بصلة، من جمعية المصارف ولجنة المال والموازنة النيابية. طلب مؤونات بنسبة 45% على «اليوروبوندز»، بعد أن كانت الخطة تقترح نسبة تراوح بين 60% و75%. أما السندات بالليرة، فطلب سلامة مؤونات 0%، فيما كان المطروح 40%، سامحاً بإطفاء الخسائر تدريجياً خلال فترة 5 سنوات، قابلة للتجديد حتى 10 سنوات.
ورد في التعميم «عدم تخفيض تصنيف ديون العملاء المتأثرين سلباً نتيجة انتشار كورونا في حال حصول تأخر في تسديد ديونهم أو تجاوزهم لسقوف التسهيلات». الدافع ليس «إنسانياً» لدى الحاكم بالتأكيد. فبحسب مصادر مصرفية، «الهدف إخفاء خسائر المصارف وعدم تسجيل القروض المتعثرة».
والنقطة الثالثة اللافتة في التعميم، هي إعطاء المصارف مُهلة إضافية في «زيادة أموالها الخاصة في مهلة حدها الأقصى 31 كانون الأول 2020 بنسبة 20%»، بعد أن انتهت المهلة في حزيران الماضي. يُدرك سلامة أنّ «رفاق الكار» لن يلتزموا هذه المرّة أيضاً، لذلك «دسّ» بنداً في التعميم أنّه «يعود للمجلس المركزي استثنائياً الموافقة للمصرف المعني على تكوين 50% من أصل نسبة 20% عن طريق تقديم المساهمين لعقارات تنقل ملكيتها إلى المصرف على أن يتم تصفيتها في مهلة لا تتجاوز 5 سنوات». ٥٠٪ من اصل الـ٢٠٪ عن طريق تقديم المساهمين عقارات بدل الاكتتاب النقدي بالدولار. تشرح المصادر المصرفية أنّ «الهدف تبدّل من ضخّ السيولة إلى تعظيم الأصول العقارية، واللافت أنّه يسمح للمصارف باحتساب إعادة تخمين موجوداتها العقارية كربح ضمن أموالها الخاصة، ما يعني الإيحاء زوراً بأنّها سجّلت أرباحاً، في حين أنّ واحدة من أزمات المصارف تحصل عندما تتحوّل إلى شركة عقارية».
– تعميمان مُخالفان لقانون النقد والتسليف –
التعميمان الوسيطان 568 و569 يُفترض بهما أن يعنيا المودعين وأن يكونا لصالحهم، في حين أنّهما مُخالفان للمادة 192 من قانون النقد والتسليف بفرض عقوبات على كلّ من يرفض الاستيفاء بالليرة اللبنانية.
مضمون التعميم الوسيط 568 يتعلق بقبول تسديد دفعات القروض المستحقة بالعملات الأجنبية الناتجة عن قروض التجزئة (سكنية وشخصية) بالليرة على أساس سعر 1507 ليرة، «شرط أن لا يكون العميل من غير المقيمين، وأن لا يكون له حساب بالعملة الأجنبية لدى المصرف يُمكن استعماله لتسديد الأقساط». وعلى المصارف «عدم قبول تسديد القروض الممنوحة بالعملات الأجنبية لغير المقيمين إلا من أموال جديدة مُحولة من الخارج». لم تكتف المصارف بسرقة أموال هذا المُقيم في الخارج، الذي قد يكون مُغترباً عاملاً، ولكنّها تفرض عليه خلافاً لأي قانون إرسال أموال جديدة تستخدمها المصارف في إطفاء خسائرها.
أما التعميم الوسيط 569 المتعلق بـ«مساعدة» المتضررين من انفجار المرفأ، فيفرض على المُقترض «في حال تلقّي أي مساعدة أو هبة، تسديدها كلياً أو جزئياً لقاء القرض الاستثنائي» الذي سبق أن طلب سلامة من المصارف منحه للمتضرر. ويُمكن للمصارف والمؤسسات المالية «في حال طلب العميل، دفع هذه القروض لعملائها بالليرة وفقاً لسعر السوق المعتمد في المنصة لعمليات الصرافة، وذلك لمرة واحدة، وبحدّ أقصى لا يتجاوز مبلغ 15 ألف دولار أميركي». هل يعني ذلك أنّ المصارف تستولي على الدولارات التي يُفترض أن يحصل عليها المُقترض، وأن يتكبّد نتيجة ذلك خسائر فادحة نظراً إلى التفاوت بين سعر السوق (معدّل 7500 ليرة للدولار) وسعر المنصة (3900 ليرة للدولار)؟ وهل هذا تثبيت أوّلي لسعر صرف جديد يبلغ 3900 ليرة، تمهيداً أيضاً لـ«تحويل الدعم على السلع الرئيسية من الـ1500 ليرة إلى 3900»، كما تقول مصادر مُطلعة على أجواء مصرف لبنان؟
الأخبار