مجلة وفاء wafaamagazine
غادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان، تاركاً اللبنانيين أمام ضغوط وتلويح بالعقوبات. ذهب الاحتفاء وحان وقت الجدّ. وبدأت القوى اللبنانية في تناحراتها وصراعاتها حول شكل الحكومة وتركيبتها.
رحل الفرنسي وتكاثر المستوزرون
كلامياً، القوى كلها تظهر استعدادها للتسهيل وعدم العرقلة. وشدد الفرنسيون على حكومة من 14 وزيراً، فيما السجال اللبناني بدأ يجنح إلى توسيعها لتصير من 20 وزير. وبعضهم يطالب بـ22 أو 24. وها هم ينقسمون حول التشكيلة:
معارضو حزب الله يعتبرون أنه لن يتمثل فيها، بل سيتمثل الشيعة بوزراء لديهم حيثية شيعية من خارج الثنائي، لكنهم يرتبطون بعلاقة جيدة به. وهناك من يتحدث عن احتمال تشدد حزب الله ليتمثل على طريقة تمثيله في حكومة حسان دياب.
لكن هذه كلها تفاصيل حيال الضغوط المسلطة عليهم بلا توقف.
حزب الله بين باريس وواشنطن
يمكن اختصار البرنامج الفرنسي بعناوين ثلاثة: تشكيل الحكومة، إصلاحات أولية في الشؤون الاقتصادية والحيوية، والتأسيس لإصلاحات جذرية في النظام. أما المسائل السياسية والاستراتيجية فمؤجلة إلى مرحلة لاحقة، يتولاها الأميركيون بعدما رسم الفرنسيون ملامحها بالتصرف مع حزب الله بوصفه حزباً سياسياً لبنانياً.
تجنّب ماكرون الحديث عن سلاح حزب الله، وعن ترسيم الحدود وغيرها من المسائل المماثلة. لكن الأميركيين الذين يركزون على التواصل مع الفرنسيين يؤكدون أن مكافحة الفساد تمر في تطبيق القرارات الدولية، وخصوصاً القرارين 1559 و1701، اللذين يتعلقان مباشرة بحزب الله وسلاحه.
ينظر ماكرون إلى حزب الله بصيغته السياسية اللبنانية، ووصفه بأنه الأقوى شعبياً وتنظيمياً، معتبراً أن لديه مقومات تخوله العمل بجدية أكثر من القوى الأخرى كلها. ويبدو الطرح الماكروني هذا محاولة لحث حزب الله على الانخراط أكثر فأكثر في السياسات الداخلية اللبنانية، والتخلي عن سياساته الخارجية التي يصنّف على أساسها جماعة إرهابية. وأعلن ماكرون صراحة أنه لا يريد الحديث عن حزب الله الإرهابي، بل السياسي في لبنان.
سياسياً، هناك من استنتج أن ماكرون الحريص على تعويم حزب الله في الداخل اللبناني، أوصل للحزب رسالة وتحذيراً: الفرصة سانحة أمامك الآن للحصول على مكتسبات سياسية، قبل الانتخابات الأميركية. لأن عودة ترامب ستضاعف الضغوط على إيران وحزبها في لبنان.
وتواصل الرئيس الفرنسي مع الإيرانيين تحت هذا العنوان. لذا، سهّل الإيرانيون مهمته في لبنان، فقدموا تنازلات عن بعض شروطهم، تحسباً لخطورة المرحلة المقبلة. لا سيما أن الأميركيين لا يبدون في وارد التراجع. والعنوان الأساسي لديهم هو معركتهم المفتوحة على حزب الله، طالما لم تُنجز أي تسوية.
لبنان ونموذج البوسنة – الهرسك
الأطراف كلها تحاول الآن التقاط أنفاسها.
استغل الفرنسيون لحظة الفراغ هذه، فدخل ماكرون إلى المشهد اللبناني وفقاً لحسابات متعددة. تماماً كما دخل إلى العراق، في ظل استعداد أميركي للانسحاب من هناك. واللحظة هذه تتيح لفرنسا أن تستمر في مساعيها، فيما تنتظر القوى الدولية الأخرى ما يمكن أن تحققه باريس. إذا حققت شيئاً ما، فهذا حسن. وإذا لم تحقيق أي شيء، فالمسار الأميركي لن يتغير أو يتبدل.
قد لا يحصل استقطاب دولي مباشر، يعرقل مساعي الفرنسيين. فلا أحد من مصلحته الظهور مباشرة وبوضوح كعامل معرقل للمبادرة الفرنسية. لكن سبل عرقلتها متروكة لطرق متعرجة كثيرة.
مع ذلك، المبادرة الفرنسية تبدو غير مكتملة في ما يخص تطوير النظام اللبناني، أو الذهاب إلى ميثاق جديد. فهل يكون لبنان أمام المثالثة، وتعزيز وضع حزب الله والشيعة في بنية النظام الجديد، أم تذهب الأمور إلى ما يشبه التقسيم الفيدرالي؟
هذه المسألة ناجمة عن قناعة ثابتة: لا يمكن لإلغاء الفساد السياسي والمالي والسيادي، أن يردم الهوة الكبيرة بين مفهوم الدولة المتماسكة سياسياً، لتعلو وترتفع فوق القوى المحلية وهوياتها المختلفة المتنازعة، وبين من يؤمن بلبنان الكبير، أو بلبنان الأكبر أو الأصغر.
هنا تشير التقديرات إلى أن لبنان يسير إلى تركيبة جديدة، قد تشبه تركيبة البوسنة والهرسك: دساتير ثلاثة، نشيد وطني بلا كلمات، دويلة شبه مستقلة للروم الأرثوذوكس، لها رئيس مستقل تماماً، والباقي دولة مزيج من الكاثوليك والسنّة، عاصمتها سراييفو.
قد يتجه لبنان إلى نموذج مماثل، شبه استقلال لجبل لبنان يذكر بالمتصرفية. والباقي مزيج بين السنة والشيعة.
هذه التصورات تبقى غير مكتملة أو واضحة المعالم. ربما موازين القوى في المنطقة ستتحكم برسمها وتحديدها، في إطار مآلات الصراع الأميركي – الإيراني.
المدن