مجلة وفاء wafaamagazine
مع انتهاء القدرة الاستيعابية لمطمر الجديدة وبدء تراكم النفايات في بعض شوارع العاصمة، عُقد، على عجل، اجتماع في القصر الجمهوري أمس، طُلب فيه من مجلس الإنماء والإعمار القيام بما يلزم لعدم تفاقم الأزمة واستعادة سيناريو ٢٠١٥ الذي أعقب إقفال مطمر الناعمة. وهذا يعني، بحسب مصادر المجتمعين، زيادة ارتفاع مطمر الجديدة مجدداً، تمهيداً لاستخدام جزء من المساحة المردومة – المقدرة بـ120 ألف متر مربع – لإنشاء مطمر جديد على مساحة تصل إلى 50 ألف متر مربع، وتستوعب نفايات لسنة إضافية. يعني هذا فشلاً جديداً مكرراً في إيجاد الحلول والخطط المستدامة، وأننا – كما كان متوقعاً – عدنا إلى توسيع الخطط الطارئة وتمديدها.
ليس هذا التراجع الدراماتيكي قدراً بالطبع. فبحسب أدوات التفكير والإمكانات الفكرية والمادية لدى المسؤول والمواطن، تكون النتيجة. وليست المشكلة فقط في كيفية اختيار المسؤولين في هذا المجال، لا سيما وزراء البيئة. وإنما في بنية الحكم والوزارة المعنية. وهي أكثر عمقاً وتطال «عدّة» التفكير من مفاهيم ورؤى وفلسفات يتم تبنّيها من دون تمحيص. كما أن المشكلة تقنية أيضاً. ليس بمعنى ضعف التقنيات أو التقنيين المستعان بهم، بل في كيفية الاستفادة من خبراتهم التخصصية وتوجيههم حسب الاستراتيجيات المعتمدة. وهذا يعني أيضاً أن التفكير الاستراتيجي غير التفكير التقني، وأن هناك حاجة للاستعانة بالمفكرين الاستراتيجيين تماماً كما تجري الاستعانة بالتقنيين، وهو ما لم يحصل عندنا منذ أكثر من ربع قرن… حتى دخلنا هذه الدوامة من الحلول الطارئة والمكلفة للاقتصاد والبيئة والصحة العامة. انطلاقاً من ذلك، لا يفترض أن نسأل اليوم كيف دخلنا في نظام الأزمات المتكررة من حكومة إلى أخرى ومن عهد إلى آخر.
في هذه الحكومة، وقبل أن تدخل مرحلة تصريف الأعمال، شكلت رئاسة مجلس الوزراء «لجنة فنية» لتستأنس اللجنة الوزارية المعنية برأيها ومقترحاتها. وهي، بالمناسبة، شبيهة باللجنة التي شُكّلت إثر أزمة عامي ٢٠١٥ و٢٠١٦ بعد إقفال مطمر الناعمة، وأفتت يومها باعتماد مطمرَي برج حمود – الجديدة والكوستا برافا، بعد تراكم النفايات في الشوارع وانطلاق تحركات شعبية آنذاك. ليست المشكلة في مدى فنية هذه اللجان، ولا في خبرة أعضائها في إدارة حالات الطوارئ أو في إيجاد الحلول الفنية… بل هي، دائماً، في تجنّب مناقشة الاستراتيجية التي يفترض اعتمادها والتي كان يفترض أن تترجم في قوانين وخطط مستدامة. وهي عندما كانت تواجَه بهذا الجانب من النقص، كانت تسارع إلى القول بأنها مصنّفة فنية فقط ولا تبحث في الاستراتيجيات أو في الحلول المستدامة، وترد المشكلة إلى وزارة البيئة التي يُفترض بها – حسب قانون إنشائها – وضع الاستراتيجيات البيئية. علماً أن عرقلة وضع الاستراتيجية تأتي تاريخياً من داخل الوزارة نفسها، مع استسهال اعتماد الخطط المطورة عنها! وهي خطط يتم طبخها عادة مع متعهدين وملتزمين لا يحتاجون إلى استراتيجيين. وهي خطط تليق بعقل السياسي «المقاطعجي» والسمسار أكثر من السياسي المسؤول في دولة. ولهذا تماشت خطط عام 2006، البديلة عن خطة مطمر الناعمة الطارئة لبيروت وجبل لبنان التي وُضعت عام 1997، مع النظام الطائفي الزبائني، إذ تم تقسيم لبنان إلى مراكز معالجة وخدمات حسب التقسيم المناطقي الطائفي، مع انتقاء مطمرين لبيروت وجبل لبنان (بدل الناعمة)، الأول في مكب حبالين في جبيل والثاني في الإقليم. وهو الاقتراح نفسه الذي عاد وطرحه المدير العام للوزارة مؤخراً على الوزير دميانوس قطار حين عاد إلى الاستعانة به، بعد استبعاد من الوزراء الأربعة السابقين! فزاد الوزير إرباكاً وتردّداً حتى لحظة استقالته، في حين لم يُعرض عليه من «فنيين» آخرين سوى إعادة فتح مطمر الناعمة أو توسيع الجديدة. لا نستعيد هذه الإطلالة التاريخية الخاطفة لتحميل المسؤوليات الآن، بل للدلالة على سوء الفهم المتمادي حول المفاهيم. فالخطط المستدامة التي تم اقتراحها كبديل عن تلك الطارئة، لم تكن كذلك. وإلا فإن هناك سوء فهم لمعنى الاستدامة. فإيجاد مطامر ترضي الطوائف أو تعدل بينها وبين مناطق توزعها (اقتراح 25 مطمراً لكل لبنان)، تكون لها سعة أكبر، لا يعني حلّاً مستداماً.
في الأصل، مفهوم الاستدامة البيئية يندرج ضمن فلسفة مختلفة عن الفلسفات الدينية التوحيدية. الفلسفة البيئية تتحدث عن إنسان جديد يعتبر نفسه جزءاً من الطبيعة وليس فوقها أو محورها. هو ليس الإنسان الذي ألّه نفسه أو اعتبر نفسه مخلوقاً على صورة الله ومثاله. هي فلسفة تدعو الإنسان، المتعالي والمتشاوف، القرف من فضلاته، إلى التواضع والاهتمام بنفاياته كما يهتم بطعامه. واعتبار معالجة النفايات جزءاً من دورة حياته اليومية. وقد بات عليه الاعتراف بأن كل ما كان يرميه خلفه ويمشي، إنما كان يرميه بوجه أناس آخرين وأجيال أخرى، وأن هذه الفضلات ستعود إلينا وإليهم في نظامنا الغذائي عاجلاً أم آجلاً. هذه الفلسفة التي تعني، أيضاً، العودة إلى المعنى الأصلي للاقتصاد الذي كان يعتمد على التوفير والتدوير، أكثر مما يعتمد على التصنيع والاستهلاك والرمي وإعادة التصنيع. فمتى نعود إلى جوهر المشكلة التي حوّلتنا إلى مجتمعات استهلاكية، نستورد ونستهلك كل شيء، السلع كما المفاهيم، من دون دراية. لقد استوردنا المفاهيم الجاهزة كالاستدامة كما استوردنا الاستراتيجيات والقوانين وترجمناها شكلياً، متجاهلين تلك الفلسفة المتصالحة أكثر مع الطبيعة، فخسرنا الاقتصاد والطبيعة وأنفسنا معاً. وكانت النتيجة أيضاً، أننا لم نحصد سوى الأزمات المتلاحقة والكوارث التي تجرّ كوارث أكبر. فهل حان الوقت بعد هذا التمديد الجديد لأزمة النفايات التي باتت تُعتبر بمثابة تعبيد الطريق التي تقودنا إلى الجحيم، أن نتوقف ونتراجع قليلاً إلى الوراء لإعادة التفكير بالمفاهيم المترجمة التي تبنيناها، مع إعادة بناء الدولة الراعية والمؤتمنة على ديمومة الموارد وحفظ حقوق الإنسان الحالي والآتي أيضاً؟
ليس هذا التراجع الدراماتيكي قدراً بالطبع. فبحسب أدوات التفكير والإمكانات الفكرية والمادية لدى المسؤول والمواطن، تكون النتيجة. وليست المشكلة فقط في كيفية اختيار المسؤولين في هذا المجال، لا سيما وزراء البيئة. وإنما في بنية الحكم والوزارة المعنية. وهي أكثر عمقاً وتطال «عدّة» التفكير من مفاهيم ورؤى وفلسفات يتم تبنّيها من دون تمحيص. كما أن المشكلة تقنية أيضاً. ليس بمعنى ضعف التقنيات أو التقنيين المستعان بهم، بل في كيفية الاستفادة من خبراتهم التخصصية وتوجيههم حسب الاستراتيجيات المعتمدة. وهذا يعني أيضاً أن التفكير الاستراتيجي غير التفكير التقني، وأن هناك حاجة للاستعانة بالمفكرين الاستراتيجيين تماماً كما تجري الاستعانة بالتقنيين، وهو ما لم يحصل عندنا منذ أكثر من ربع قرن… حتى دخلنا هذه الدوامة من الحلول الطارئة والمكلفة للاقتصاد والبيئة والصحة العامة. انطلاقاً من ذلك، لا يفترض أن نسأل اليوم كيف دخلنا في نظام الأزمات المتكررة من حكومة إلى أخرى ومن عهد إلى آخر.
في هذه الحكومة، وقبل أن تدخل مرحلة تصريف الأعمال، شكلت رئاسة مجلس الوزراء «لجنة فنية» لتستأنس اللجنة الوزارية المعنية برأيها ومقترحاتها. وهي، بالمناسبة، شبيهة باللجنة التي شُكّلت إثر أزمة عامي ٢٠١٥ و٢٠١٦ بعد إقفال مطمر الناعمة، وأفتت يومها باعتماد مطمرَي برج حمود – الجديدة والكوستا برافا، بعد تراكم النفايات في الشوارع وانطلاق تحركات شعبية آنذاك. ليست المشكلة في مدى فنية هذه اللجان، ولا في خبرة أعضائها في إدارة حالات الطوارئ أو في إيجاد الحلول الفنية… بل هي، دائماً، في تجنّب مناقشة الاستراتيجية التي يفترض اعتمادها والتي كان يفترض أن تترجم في قوانين وخطط مستدامة. وهي عندما كانت تواجَه بهذا الجانب من النقص، كانت تسارع إلى القول بأنها مصنّفة فنية فقط ولا تبحث في الاستراتيجيات أو في الحلول المستدامة، وترد المشكلة إلى وزارة البيئة التي يُفترض بها – حسب قانون إنشائها – وضع الاستراتيجيات البيئية. علماً أن عرقلة وضع الاستراتيجية تأتي تاريخياً من داخل الوزارة نفسها، مع استسهال اعتماد الخطط المطورة عنها! وهي خطط يتم طبخها عادة مع متعهدين وملتزمين لا يحتاجون إلى استراتيجيين. وهي خطط تليق بعقل السياسي «المقاطعجي» والسمسار أكثر من السياسي المسؤول في دولة. ولهذا تماشت خطط عام 2006، البديلة عن خطة مطمر الناعمة الطارئة لبيروت وجبل لبنان التي وُضعت عام 1997، مع النظام الطائفي الزبائني، إذ تم تقسيم لبنان إلى مراكز معالجة وخدمات حسب التقسيم المناطقي الطائفي، مع انتقاء مطمرين لبيروت وجبل لبنان (بدل الناعمة)، الأول في مكب حبالين في جبيل والثاني في الإقليم. وهو الاقتراح نفسه الذي عاد وطرحه المدير العام للوزارة مؤخراً على الوزير دميانوس قطار حين عاد إلى الاستعانة به، بعد استبعاد من الوزراء الأربعة السابقين! فزاد الوزير إرباكاً وتردّداً حتى لحظة استقالته، في حين لم يُعرض عليه من «فنيين» آخرين سوى إعادة فتح مطمر الناعمة أو توسيع الجديدة. لا نستعيد هذه الإطلالة التاريخية الخاطفة لتحميل المسؤوليات الآن، بل للدلالة على سوء الفهم المتمادي حول المفاهيم. فالخطط المستدامة التي تم اقتراحها كبديل عن تلك الطارئة، لم تكن كذلك. وإلا فإن هناك سوء فهم لمعنى الاستدامة. فإيجاد مطامر ترضي الطوائف أو تعدل بينها وبين مناطق توزعها (اقتراح 25 مطمراً لكل لبنان)، تكون لها سعة أكبر، لا يعني حلّاً مستداماً.
في الأصل، مفهوم الاستدامة البيئية يندرج ضمن فلسفة مختلفة عن الفلسفات الدينية التوحيدية. الفلسفة البيئية تتحدث عن إنسان جديد يعتبر نفسه جزءاً من الطبيعة وليس فوقها أو محورها. هو ليس الإنسان الذي ألّه نفسه أو اعتبر نفسه مخلوقاً على صورة الله ومثاله. هي فلسفة تدعو الإنسان، المتعالي والمتشاوف، القرف من فضلاته، إلى التواضع والاهتمام بنفاياته كما يهتم بطعامه. واعتبار معالجة النفايات جزءاً من دورة حياته اليومية. وقد بات عليه الاعتراف بأن كل ما كان يرميه خلفه ويمشي، إنما كان يرميه بوجه أناس آخرين وأجيال أخرى، وأن هذه الفضلات ستعود إلينا وإليهم في نظامنا الغذائي عاجلاً أم آجلاً. هذه الفلسفة التي تعني، أيضاً، العودة إلى المعنى الأصلي للاقتصاد الذي كان يعتمد على التوفير والتدوير، أكثر مما يعتمد على التصنيع والاستهلاك والرمي وإعادة التصنيع. فمتى نعود إلى جوهر المشكلة التي حوّلتنا إلى مجتمعات استهلاكية، نستورد ونستهلك كل شيء، السلع كما المفاهيم، من دون دراية. لقد استوردنا المفاهيم الجاهزة كالاستدامة كما استوردنا الاستراتيجيات والقوانين وترجمناها شكلياً، متجاهلين تلك الفلسفة المتصالحة أكثر مع الطبيعة، فخسرنا الاقتصاد والطبيعة وأنفسنا معاً. وكانت النتيجة أيضاً، أننا لم نحصد سوى الأزمات المتلاحقة والكوارث التي تجرّ كوارث أكبر. فهل حان الوقت بعد هذا التمديد الجديد لأزمة النفايات التي باتت تُعتبر بمثابة تعبيد الطريق التي تقودنا إلى الجحيم، أن نتوقف ونتراجع قليلاً إلى الوراء لإعادة التفكير بالمفاهيم المترجمة التي تبنيناها، مع إعادة بناء الدولة الراعية والمؤتمنة على ديمومة الموارد وحفظ حقوق الإنسان الحالي والآتي أيضاً؟
الأخبار