مجلة وفاء wafaamagazine
لوزير الماليّة صوت واحد كسواه، ليس سوبر وزير، ولا يوقّع كلّ المراسيم
نقولا ناصيف
ليس في لبنان مرّة أخيرة، بل مرّة أولى. ما إن تكون، تصبح محتملة إن لم تصر دائمة. المرّة الأخيرة تعني الاستثناء، والاستثناء هنا دوام وثبات. كثيرة السوابق أمست بمرور الوقت حلاً أو مخرجاً لمشكلة – كما فعل الرئيس سعد الحريري – أو عرفاً أقرب إلى أخطبوط
قبل ذلك، قانون الانتخاب عام 1992، عندما استثنى مجلس النواب في 16 تموز 1992 محافظة جبل لبنان من دمج الدوائر الانتخابية كما حصل في المحافظات الأخرى، فأخرج لمرّة واحدة وأخيرة أقضيته الستّة من الدمج كرمى من دمشق لوليد جنبلاط بذريعة تفادي ذوبان الأقليّة الدرزية في الأكثرية المسيحية في المحافظة تلك. عاود مجلس النواب في 27 حزيران 1996 الأمر نفسه مع قانون الانتخاب الجديد بالاستثناء نفسه. مذذاك صارت قوانين الانتخاب تشبه المرّة الأخيرة السابقة، بأن قُسّمت الدوائر في الاستحقاقات التالية على صورة جبل لبنان.
أطرف مرّة أخيرة وأبلَغها، لكن بمفعول معاكس، وقد لا يتذكّرها كثيرون، وقد تكون الأولى، تعود الى 17 أيلول 1952، عشيّة استقالة الرئيس بشارة الخوري. دعا معارضوه المسيحيون والمسلمون الى تنحّيه، وأصدروا بياناً بذلك وتقدّموا بعريضة الى رئيس المجلس أحمد الأسعد. من بين هؤلاء كمال جنبلاط الذي اقترح في اجتماع المعارضة إضافة فقرة الى البيان، نصّت على أن «منصب رئاسة الجمهورية في لبنان هو للموارنة هذه المرّة». بيد أن شائعات رافقت البيان حملت الزعماء المسلمين على إصدار آخر وقّعه سعدي المنلا وعبد الله اليافي وصائب سلام وسامي الصلح ورشيد كرامي قال «إننا كنواب مستقلّين لم نفكر قطعاً في إسناد رئاسة الجمهورية الى غير ماروني». تزامن وبيان ثان وقّعه مجدّداً كمال جنبلاط، لكن متراجعاً، أصدرته «الجبهة الاشتراكية الوطنية» المعارضة قائلا إنّها وحلفاءها «لم تفكر قطّ في انتخاب غير ماروني لرئاسة الجمهورية، ولديها من حلفائها الضمانات التي تؤمن هذه النتيجة». أبرز الموقّعين، الى جنبلاط، كان ريمون إده وكميل شمعون وغسان تويني وبيار إده وتقيّ الدين الصلح وحميد فرنجية وعادل عسيران وأنور الخطيب. رمى الإيضاحان الى دحض الاعتقاد أن المعارضة إسلامية تناوئ الرئيس الماروني.
قد لا يكون الرئيس سعد الحريري، القليل الشغف بالقراءة، قد مرّ على هذه الوقائع القريبة والبعيدة، أو أعلموه بها، فتفادى ما فعل. تحقّق على الأقل، على أيامه، من أن المرّة الوحيدة أو الأخيرة هي المرّة الدائمة. أقرب صورة لها هي اتفاق الدوحة عام 2008، عندما حدّد معايير تفادي الفتنة السنّية – الشيعية على أثر 7 أيار، برسمه مواصفات حكومات الوحدة الوطنية، وأحجام القوى فيها، وفيتواتها الصارمة غير القابلة للتذليل، ونصابَي الغالبية والأقلية، والثلث المعطل، وحصة رئيس الجمهورية. يوم أُعلِن، قيل إن اتفاق الدوحة لمرّة واحدة هي لتجاوز ما حدث في بيروت وشوارعها وابتلاع تداعيات الفتنة. في ظلّه توالت كل حكومات الوحدة الوطنية التالية الست حتى حكومة الرئيس حسان دياب. خمس منها طبّق المواصفات تلك كاملة، من بينها ثلاث حكومات للحريري، وواحدة لكل من الرئيسين فؤاد السنيورة وتمام سلام. ثلاث من الخمس أعطت حقيبة المالية الى حركة أمل للمرة الأولى منذ عام 1992، والحكومات الخمس هذه تحت مظلة الحريري بالذات.
اتفاق الدوحة نفسه النافذ حتى الآن بالقليل المتبقي منه، بعد زوال – وإن مرحلياً – حكومة الوحدة الوطنية، يُعوّل عليه الثنائي الشيعي عندما يصرّ على أنه هو الذي يسمّي وزراءه ويختار حقائبه، وإن لم تكن حقيبة الماليّة في عِداد هذا المعوَّل عليه في الاتفاق الذي لم يأتِ على ذكرها.
في بيان 22 أيلول للحريري قائلاً إنه سيساعد الرئيس المكلّف مصطفى أديب على حلّ مشكلة حقيبة المالية بتخلّيه هو عنها وإعطائها الى شيعي «لمرّة واحدة ولا يشكّل ذلك عُرفاً»، شرط أن تأتي تسمية الوزير من أديب بالذات، ثبّت الحقيبة في المكان غير المثبَّت لها حتى الآن على الأقل. الأكثر شقاء فيه أنه يمنح ما لا يملك، ويظهر أنه يعطي الفريق الذي لا يحتاج إليه كي يحصل على ما يريده، ويوصد باب المناقشة في مشكلة بسيطة اسمها حقيبة وزارية تشبه سواها جعلها الثنائي الشيعي عنوان كيانه السياسي ومصيره.
الأصح في ما أدى الى بيان 22 أيلول، أن الثنائي الشيعي انتزع الحقيبة ولم تُعطَ إليه، ما دام لا حكومة من دونه. ولأنّه لا يزال يصرّ على أنه هو الذي يسمّي وزيرها ووزراءه الآخرين، فإن التفاوض كأنه في اليوم الأول، والمشكلة تكمن في الكل لا في الجزء. لم تعدُ «هبة» الحريري سوى تجرّع جديد، مجاني، للسمّ بات بلا طائل اعتاده في الأصل.
ليس الأول إذا كان لا بدّ من التذكير بسُمّ إسقاط حكومته عام 2011، ثم سُمّ إسقاطه الشهر نفسه كانون الثاني عامذاك في الاستشارات النيابية الملزمة أمام الرئيس نجيب ميقاتي، ثم سُمّ ترشيحه الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية في تشرين الأول 2016 النادم عليه الآن، ثم السُمّ الذي أسقاه إيّاه حليفه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بالتخلّي عنه بعد استقالته في تشرين الأول 2019، انتهاءً بُسمّ ترشيح سواه الذي هو الرئيس المكلف الحالي.
بل لعلّ الأكثر إثارة للغرابة، رغم ما قاله الحريري عن «المرّة الأخيرة»، أنه لا يُتقن إلا المرّة الأولى. كل ما يفعله – وإن تكرّر – يكون كأنه المرّة الأولى.
سواء نوقشت الحقيبة في محاضر اتفاق الطائف أو لم تناقش، أو بُتّت أو لم تُبتّ، ليس للمحاضر تلك أيّ قيمة قانونية ما لم يصر الى دسترتها. وهو ما حصل عند إدماج الإصلاحات السياسية في الاتفاق في متن الدستور في 21 آب 1990، فأضحت ملزمة للسلطات كلها. لم تصر مقدّمة الاتفاق دستورية إلا عندما أُدمجت في الدستور نفسه وباتت مقدّمته. في المقابل، لا يصحّ مقاربة محاضر المداولات تلك على أنها تمثّل روح المشترع سوى في حال واحدة، هي الخلاف على تطبيق مادة منصوص عليها في الدستور، فتستعاد محاضر المناقشات للتحقّق من صواب تطبيقها. الأمر الذي لا يجعل، في الحال التي يمثّلها الخلاف على شيعية حقيبة المالية أو عدم شيعيّتها، محاضر اتفاق الطائف تمثّل روح المشترع كون لا مادة دستورية ترعى الحال هذه. بذلك لا مغزى لاستعادة ما قيل أو لم يقل حينذاك.
لوزير المالية كسائر الوزراء في الحكومة صوت واحد، لا يجعله مرجّحاً، ومقعد واحد، ولا يسعه إلا أن يرفع إصبعاً واحدة. موقعه لا يمكّنه من أن يكون سوبر وزير كي يتقدّم على سواه، وليس حتماً الأول بين متساوين. لا يوقّع بالضرورة على كل المراسيم التي يمهرها رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. هو ليس سوى وزير مختص كالآخرين، يوقّعون عندما يتناول المرسوم ما يدخل في اختصاص حقائبهم أيّاً بلغ عددهم. قد يكون أكثر الوزراء الذين يوقّعون، لكن ليس كل المراسيم، بل تلك التي تترتّب عليها أعباء مالية.
تنص المادة 54 على المسؤولية الدستورية للوزير المختص، وكل وزير مختص وكلّهم متساوون كأسنان المشط، للتوقيع. مذ وُضع الدستور اللبناني في 23 أيار 1926 حتى اتفاق الطائف عام 1989، لم يطرأ تعديل على جوهر ما تنصّ عليه المادة 54، وهو اقتران توقيع الوزير المختص أو الوزراء المختصين مع توقيع رئيس الجمهورية. التعديل الوحيد أن دستور 1926 لم يرعَ توقيع رئيس الحكومة المراسيم إلى أن عدّلها اتفاق الطائف.
الأخبار