مجلة وفاء wafaamagazine
بيروت في 2/12/2020
بقلم عضوي الدائرة القانونية لمجموعة الشعب يريد اصلاح النظام المحاميّين هيثم عدنان عزُّو وحسن عادل بزِّي
أصدر مدير عام قوى الأمن الداخلي مذكّرة تعليمات حملت الرقم 392 تأريخ 18/11/2020 مجيزاً فيها لهذه القوى أن توقف ادارياً وفورياً أي شخص تشتبه بتصرفاته وبأفعال ذكرتها المذكرة على سبيل المثال ولو لم تكن هذه الأفعال تشكّل بحد ذاتها جرماً جزائياً كما جاء حرفياً في متن هذه المذكّرة وبالتالي اقتياد الشخص الى محل التوقيف وابقاؤه موقوفاً لمدة 24 ساعة دون مخابرة النيابة العامة المختصة أو أخذ أذنها بذلك ودون حتّى فتح محضر عدلي بهذا الأمر وقد استند المدير العام في تعزيز هذه الصلاحيات لهذه القوى على أحكام المادة 217 من القانون الناظم لعملها رقم 17/1990 والتي أجازت التوقيف الإداري في حالات محددة فيها.
إن السؤال الذي يطرح ذاته بذاته على بساط البحث القانوني هو معرفة من جهة أولى مدى مشروعية التوقيف في هذه الحالات التي ذكرتها المذكرة على سبيل المثال ومن ثمَّ معرفة مدى قانونية التوقيف الاداري بحد ذاته وبصرف النظر عن حالات الاشتباه من جهة ثانية ، بمعنى آخر يقتضي الغوص فيما إذا كان التوقيف الإداري يتصف بالشرعية في الحالات التي أضافتها التعليمات الصادرة عن المدير العام في هذا الصدد وغير المذكورة في المادة 217 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي أم أنها تتصف بعدم المشروعية لكون تعزيز صلاحيات قوى الأمن في هذا الإطار يشكل خروجاً عن حدود النص القانوني من جهة أولى ومعرفة أيضاً ما إذا كانت هذه التعليمات المتعلقة بالتوقيف الاداري لها ما يبررّها في القانون أم أنها تصطدم بأبواب هذا الأخير المقفلة بوجهها لكون النص المستند عليه أصبحَ فاقداً لقوته القانونية من جهة ثانية.
حيثُ ومن نحو أول وفيما يتعلق بمشروعية التوقيف الإداري في الحالات الجديدة التي أضافتها مذكرة المدير العام فإنَّ هذا الأمر يوجب بدايةً استعراض السند القانوني الذي استندت اليه المذكرة المذكورة وهو نصّ المادة 217 من القانون الناظم لقوى الأمن الداخلي والتي نصّت على ما حرفيته:
ً” يحق لرجال قوى الأمن الداخلي توقيف الأشخاص في الحالات الآتية:
تنفيذاً لحكم قضائي .
تنفيذاً لمذكرة عدلية.
تنفيذاً لطلب من السلطة القضائية صاحبة الصلاحية أو من ضباط الضابطة العدلية.
تلقائياً في حالة الجناية المشهودة التي تكون عقوبتها الحبس على ان يعلموا في الحال المرجع القضائي المختص ويتقيدوا بتعليماته.
يترتب عليهم في الحالات الثلاثة الاولى سوق الموقوف إلى أحد أماكن تنفيذ الاحكام القضائية أو إلى السلطة العدلية مصدرة المذكرة أو الطلب في مهلة ٢٤ ساعة من وقت حصول التوقيف.
امّا في الحالة الرابعة فيعود للسلطة العدلية المختصة تمديد هذه المهلة استثنائياً اذا كانت ضرورات التحقيق تستوجب ذلك على الا تتجاوز هذه المهلة في مطلق الاحوال الثلاثة أيام…
بالإضافة إلى حالات التوقيف الانف ذكرها يمكن لرجال قوى الأمن الداخلي اللجوء إلى التوقيف الوقائي ذي الطابع الاداري عندما يشكل ترك الشخص طليقاً خطراً على نفسه أو على الغير كمن كان في حالة السكر الظاهر أو ما شابه أو في سبيل التثبت من وضع الشخص المشتبه به أو المشكوك في صحة هويته وهذا التوقيف لا يجوز ان يستمر أكثر من ٢٤ ساعة.
حيثُ أنهُ تحليلاً لهذه المادة فإنه فيما خصَّ الحالات الثلاثة الأولى المشار اليها فهي خارج نطاق البحث الراهن ولا تثير أية مشكلة قانونية كونها تتم بالاستناد الى أمر قضائي أو قرار أو حكم أو مذكرة صادرة عن سلطة قضائية ذات صلاحية، أما فيما خصّ الحالة الرابعة فهي أيضاً لا تثير أية مشكلة قانونية كون قوى الأمن كمساعدين للضابطة العدلية يمارسون في الجريمة المشهودة بعض صلاحيات النيابة العامة في حالة الجريمة المشهودة التي تشكل خروجاً عن الأصول المعمول بها تفرضها مشهودية الجريمة وخصوصاً في حال تعذر على النائب العام على وجه السرعة ممارسة الإجراءات التي حددها له قانون أصول المحاكمات الجزائية وذلك مكرّس بنص المادة 40من القانون المذكور والتي تنص على أنه :” تقوم الضابطة العدلية في الجريمة المشهودة بالاجراءات التي يقوم بها النائب العام عندما يتعذر عليه مباشرتها بنفسه، وعلى الضابط العدلي ان يراعي في اجراءته الاصول التي حددها القانون للنائب العام عند توليه التحقيق في الجريمة المشهودة”.
وأيضاً تجد هذه الحالة المشهودة للجريمة أساساً قانونياد لها في المادة 41 من القانون المذكور والتي تنصّ على أنه: “إذا وقعت جريمة مشهودة ينتقل الضابط العدلي فوراً إلى مكان حصولها ويبلغ النائب العام المختص بها… يقوم بالتحريات ويقبض على من تتوافر شبهات قوية حول ارتكابه الجريمة أو إسهامه فيها … على الضابط العدلي الذي يتولى التحقيق في الجريمة المشهودة أن يطلع النائب العام المختص على مجرياته وأن يتقيد بتعليماته”.
كما تجد صدىً لها في أحكام المادة 45 من ذات القانون التي تنص على أنه:” لكل شخص، في حالة الجريمة المشهودة، جناية كانت أم جنحة تستوجب عقوبة الحبس، أن يقبض على الفاعل المتلبس بها ويحضره إلى أقرب مركز للضابطة العدلية”. فيكون بالتالي من باب أولى تكريس صلاحية القاء القبض التلقائي في هذه الحالة لرجل الأمن المناط به الحفاظ على الأمن متى ما كان هذا الحق مكرّساً في هذه الحالة لأي شخص سواء أكانَ مواطناً أو حتى أجنبياً. كما أنَّ المادة 46 من القانون المذكور نصت أيضاً على أنه:” إذا كان الجرم المشهود من نوع الجنحة التي تستوجب عقوبة الحبس سنة على الأقل فللضابط العدلي أن يقبض على المشتبه فيه وأن يحقق في الجنحة تحت إشراف النائب العام. للنائب العام أن يقرر توقيف المدعى عليه بالجنحة وإحالته مباشرة أمام القاضي المنفرد لمحاكمته وفقاً للأصول المنصوص عليها في هذا القانون. وغني عن البيان أن القاء القبض على المشتبه به حتى في حالة الجريمة المشهودة لا يعني ابقاءه موقوفاً بدون قرار قضائي لأن قرار التوقيف لا يكون الاّ عبر القضاء بينما القاء القبض يكون عبر الضابطة العدلية وبدليل الفقرة الأخيرة من هذه المادة الأخيرة.
وحيثُ أنهُ بذلك يكون التوقيف في جميع الحالات الأربعة السالفة الذكر توقيفاً عدلياً يستتبع مخابرة المرجع القضائي المختص أو فتح محضر عدلي بشأنها ومخابرة النيابة العامة ذات الصلاحية والتقيّد بتعليماتها.
وحيثُ أنَّ المشكلة القانونية التي تطرح في هذا الصدد هي التي تثيرها الفقرة الأخيرة من المادة 217 من تنظيم قوى الأمن والمتعلقة بالتوقيف الإداري وأنهُ بالرجوع الى الحالات الواردة فيها والتي تجيز لقوى الأمن الداخلي هذا النوع من التوقيف يتبدّى بوضوح منها أنه محصور فقط بحالتيّن على سبيل الحصر هما حالة السكر الواضح لوجود خطر على نفس الشخص أو الغير في هذه الحالة وحالة التثبّت من هوية الشخص الذي لا يحوز هوية أو مشكوك بأمرها لوجود ما يوجب التأكد من شخصية المشتبه الذي قد يكون ملاحقاً قانونياً. وعلى ذلك يقع باطلاً كل توقيف اداري خارج هاتيّن الحالتين لخروجه عن الحدود المسموح بها بمقتضى النص ذاته ولهذا لا يمكن لمدير العام لقوى الأمن الداخلي أن يوسّع من نطاق حالات التوقيف الإداري باعتبار أن ذلك يشكل ضمنياً تعديلاً تشريعياً لهذه المادة وهو ما يجعل بالتالي من المذكرة الصادرة عنه مؤخراً عن المدير العام والتي وسّع فيها حالات التوقيف الإداري مصابة بعيب عدم المشروعية بكونها أباحت التوقيف الإداري خارج هاتيّن الحالتيّن المحددتيّن على سبيل الحصر بالنص المذكور.
وحيثُ علاوةً على ذلك فإنَّه لا يمكن أصلاً التوسع في تفسير هذا النص لكونه نصاً خاصاً وبكون التوقيف الإداري هو استثناء على المبدأ فيقتضي بالتالي تفسيره قانوناً بصورة ضيّقة وحصرية، والاّ اصطدم الإستدلال والقياس عليه بالتالي بعتبة مبدأ: “عدم جواز التوسُّع في تفسير الإستثناء” وخصوصاً في النطاق الجزائي حيث يحظّر القياس فيه على أية حالة.
زد على ذلك أنَّ التوقيفات ومهما تكن طبيعتها شأنها شأن الصلاحيات تُكرَّس بتشريعات ولا تُستنتّج بالقياس وتبقى فقط محصورة بالحالات الواردة في نطاق النص القانوني دون الخروج عن حدوده التي رسمها المشترع. وفي هذا الصدد نجد أنَّ المادة العاشرة من القانون الناظم لقوى الأمن الداخلي التي حدَّدت مهام المدير العام لقوى الأمن الداخلي أوجبت عليه في الفقرة الثالثة منها اصدار التعليمات لقوى الأمن ضمن الحدود المبيّنة في هذا القانون وفي القوانين والأنظمة النافذة في جميع المجالات وهذا يعني أنَّ مذكراته التي تتضمن تعليمات لقوى الأمن يقتضي تحت طائلة عدم مشروعيتها أن تأتي متوافقة ومتطابقة مع أحكام القوانين المرعية الأجراء وضمن الحدود التي أقفلت عليها وهو ما يؤول الى انعدام صلاحية المدير العام لقوى الأمن الداخلي باصدار تعليمات تتضمن توقيفاً ادارياً خارج حدود النص القانوني الوارد بالمادة 217 من القانون المشار اليه فيضحى بالتالي تعزيزه لصلاحيات قوى الأمن الداخلي في التوقيف الإداري لحالات لم يلحظها النص المشار اليه غير مشروعة لتمرّدها على الحدود التشريعية.
حيثُ بالإضافة الى ذلك وعلى فرض صحة التسليم جدلاً بأنَّه يحق توسيع حالات التوقيف الإداري لضرورات أمنية -وهو أمر ننفيه ولا نقُّر فيه للأسباب المنوّه عنها آنفاً ولكن على سبيل الجدل والنقاش القانوني Et pour complément de droit، فإنّهُ مع ذلكَ يبقى من غير المُمكن لهُ اصدار هذه المذكرة للقوى الأمنية قبل الوقوف على رأي مدعي عام التمييز وابلاغه هذه التعليمات المتعلقة بالشأن العدلي وان يكن التوقيف ذا طابع اداري باعتبار أنَّ هذا الأمر من جهة أولى ينتهك الحريات والحقوق الإنسانية لكونه يؤول الى حجز الحرية الشخصية المحمية دستورياً بمقتضى المادة الثامنه منه والتي نصت على أنه “لا يمكن أن يقبض على أحد أو يحبس أو يوقف الاَّ وفاقاً لأحكام القانون” وخاصةً أنَّ المادة المادة ٢٢٤ من تنظيم قوى الأمن الداخلي نصّت صراحةً على أنه”لا يجوز لرجال قوى الأمن الداخلي في غير الحالات التي نص عنها القانون ان يزعجوا الناس في حريتهم الشخصية” ومن ناحية ثانية لكون النائب العام التمييزي -وهنا بيت القصيد- يمثل رأس الهرم في سلطة الملاحقة الجزائية المناط بها وظيفة الضابطة العدلية والذي يعمل تحت اشرافه بحسب المادة 38 من قانون أصول المحاكمات الجزائية النواب العامون والمحامون العامون الذين يقوموا بوظائف الضابطة العدلية والذي يساعدهم في هذا الشأن ويعمل تحت اشرافهم في إجراء وظائف الضابطة العدلية مدير عام قوى الأمن الداخلي وضباط قوى الأمن الداخلي والشرطة القضائية والرتباء العاملون في القطاعات الإقليمية ورؤساء مخافر قوى الأمن الداخلي وغيرهم من الأجهزة الأمنية التي لحظها النص المذكور. وهذا يعني صراحةً أنَّ قضاة النيابات العامة يشغلون وظيفة الضابطة العدلية بينما مدير عام قوى الأمن الداخلي هو مجرّد مساعد لهذه الضابطة العدلية التي تمثّل سلطة الملاحقة الجزائية والأهم أن عمله دائماً يكون تحت اشرافهم في كل ما يتعلق بأعمال الضابطة العدلية بحسب ما جاء حرفياً في النص المذكور في هذا الصدد وهو ما يوجب التالي على المدير العام لقوى الأمن الخضوع لاملاءات رأس الهرم في سلطة الملاحقة الجزائية بخصوص كل ما يتعلق بأعمال الضابطة العدلية والتي يشكّل التوقيف وحتى لوكان ادارياً جزءاً لا يتجزأ من أعمال هذه الضابطة العدلية لكون اختصاص الضابطة الإدارية الادارية كان محدداً بالمواد 220 و221 من المرسوم الاشتراعي رقم 54 تاريخ 5/8/1967 والذي ألغي وحل محله قانون تنظيم قوى الأمن والذي حدد غايات ومهام الضابطة لهذه القوى بالمواد 220 و221 و222 منه وليس من بينها حق التوقيف اطلاقاً لكون عملها مقتصراً فقط على حفظ الأمن ومراقبة الأشخاص ذوي الخطر على السلامة دون توقيفهم لكون هذ الأمر يحوّل الضابطة الإدارية الى عدلية تلقائياً وخاصةً أن اجتهاد مجلس شورى الدولة مستقر على اعتبار التثبت من المخالفات الافتراضية تدخل في نطاق أعمال العدلية ولكون الحالات التي أضافها المدير العام للتوقيف الإداري مبنية على مجرد الاشتباه بأعمال قد تخل بالأمن والتي تدخل في صلب أعمال الضابطة العدلية طالما أن غايته تحقيقية وجمع الأدلة على أمر مشتبه بحصوله أمنياً وتخضع بالتالي لاختصاص القضاء العدلي وتحديداً لسلطة الضابطة العدلية التي تؤدي وظيفتها النيابات العامة التي يعمل تحت أِشرافها مساعدون من ضباط ورتباء الأجهزة الأمنية ومدراؤها العامون بما فيهم مدير عام قوى الأمن الداخلي وهو النص الذي توافق مع المادةَ 207 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي والتي اعتبرته بمثابة ضابط عدلي مساعد للمدعين العامين وتنظّم علاقته مع السلطات العدلية المذكورة وفقاً لما هو محدد في قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون القضاء العسكري.
ولكن رويداً… ما سبق ذكره انصبّ فقط على اثبات عدم مشروعية التوقيف الإداري من قبل قوى الأمن في غير الحالات المنصوص عنها في نص لمادة 217 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي والذي كان السند القانوني الذي اعتمد عليه المدير العام لتعزيز صلاحيات قوى الأمن بالتوقيف الإداري دون إشارة قضائية ويبقى الأهم معرفة ما اذا كان أصلاً التوقيف الإداري وأياً تكن حالاته سواء الواردة في النص المذكور أم غير الواردة فيه جائزاً أم لا عن طريق معرفة ما اذا كان النص المشار اليه والذي يشكل السند القانوني للتوقيف الإداري هو نصّ ساري المفعول أم أصبحَ معطلاً بصورة حكمية لوجود ما يلغيه ضمناً أو صراحةً وهو ما سيكون موضوع الحيثية الثانية من هذا البحث.
حيثُ ومن نحو ثان وفيما يتعلق بقانونية التوقيف الإداري ذاته فإن أساسه القانوني مرتكز على أحكام المادة 217 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي رقم 17/1990 وهذا القانون كانَ قد صدر بتاريخ ٦\٩\١٩٩٠ في حين أنَّ القانون الناظم لأصول المحاكمات الجزائية رقم 328 صدر بتاريخ 2/8/2001 أي أنّ الثاني أحدث تاريخاً من الأول.
وحيثُ أنَّهُ مِنَ المُسَلَّم بهِ فقهاً واجتهاداً أن النصوص القانونية تُلغى إمَّا بطريقة ضمنية وإمَّا بطريقة صريحة ويكون ذلك في كِلتي الحالتين بنصٍ لاحق أعلى منها أو مساوٍ لها من حيث رُتبة قوتها التشريعية بحسب سُلَّم تدرُّج القواعد القانونية وهو الإلغاء الذي يعني انهاء سريانها وتجريدها من قوتها الإلزامية سواء أكانَ ذلك بإحلال قاعدة قانونية جديدة مكانها أو بالاستغناء عنها دون أن تَحِل مكانها قاعدة أخرى، فتُصبح بالتالي غير واجبة الاحترام والتطبيق، ويزول بالنتيجة ما كانَ لها مِن أثر ناتج عن تشريع قانوني كانَ مُلزماً بنتائجه في السابق في حين أصبحَ هذا الأثر متلاشياً بالنسبة للمستقبل.
وحيثُ أنَّ الإلغاء الضمني للقاعدة القانونية يحصل بطريقتيّن:
إمَّا بطريقة التعارض بين نص جديد ونص قديم ويكون ذلك بصدور تشريع جديد يتضمن أحكاماً قانونية مُتعارضة ومُتناقضة مع أحكام قانونية واردة في تشريع سابق فيستحيل عملياً تطبيقهما معاً لورود النصيَّن على محلٍ واحد، الأمر الذي يجعل مِنَ التشريع الجديد مُلغِياً ضمناً ما تقررَ سابقاً من أحكام قانونية واردة في التشريع السابق في حدود ما هوَ متعارَض فيه والذي قد يكون كلياً أو جزئياً، فيُصبح في هذا الصدد التشريع القديم بحُكم المُلغى فيما يُخالف التشريع الجديد جزئياً أو كلياً تطبيقاً لمبدأ: “اللاحق يُلغي السابق”؛ وغني عن البيان في هذا الصدد أنهُ يُشترط لتطبيق هذه القاعدة أن تكون النصوص القانونية المتعاقبة في الزمان والمتعارضة في الأثر مِن طبيعة واحدة لجهة العموم والخصوص، اذ أن النص العام يُلغي نصاً عاماً والنص الخاص يُلغي نصاً خاصاً وأنهُ في حال التعارض بين نص عام ونص خاص فهو لا يؤدي “في حالة الإلغاء الضمني” الى إلغاء أحدهما للأخر، بل يؤدي فقط الى تقييد النص العام بِما جاءَ في النص الخاص طالما لم يتضمّن العام ما يُفيد صراحةً الغاء أحكام الخاص الذي يُخصصه في هذه الحالة إمَّا بطريقة إعادة تنظيم موضوع معيَّن من جديد كانَ قد سبق للمشترع أن نظَّمه بقانون سابق ويكون ذلك بوضع تشريع جديد يُنظم بشكل كامل ذات الموضوع على أسسٍ جديدة كان قد سبق للتشريع القديم أن نظّمها، فيُعتَبر التشريع الجديد مُلغياً في هذه الحالة للتشريع السابق ولو لم ينص صراحةً على هذا الإلغاء لأنَّ المشترع بإعادة تنظيمه الشامل للموضوع يكون قد استغنى عن أحكام التشريع القديم في هذا الصدد واستعاضَ عنها بأحكام التشريع الجديد.
وحيث أنَّ الإلغاء الصريح للقاعدة القانونية -والذي هو الصورة الأوضح لإلغاء التشريعات- يحصُل أيضاً بطريقتين:
إمَّا بسَنّ المشترع لنص صريح لاحق يقضي فيه تحديداً بإلغاء التشريع القديم كلياً أو جزئياً لبعض أحكامه، أي عندما يُفصح المشترع بنص قانوني صريح وواضح على الغاء نص قانوني قديم مُحدَّداً بصفاته، أي مُعيِّناً بذاتهِ وذواتهِ.
وإمَّا بسَنّ المشترع لنص جديد يقضي فقط فيه بالاكتفاء بعبارة إلغاء ما يخالف قواعده أو ما لا يأتلف مع أحكامه ولو لم يُحدد النصوص المُلغاة، لكَوّن الإلغاء قد جاء مُطلَقاً في هذه الحالة وشاملاً لكُلّ النصوص المُخالِفة للتشريع الجديد وفي أي قانونٍ كانت، فلا يَعُد مِن حاجة بالتالي للتمييز في هذه الحالة بين نص عام ونص خاص لكوّن الإلغاء قد جاءَ صريحاً هنا وليس ضمنياً، باعتبار أنَّ التشريع الجديد يقضى “صراحةً” بإبطال العمل بحكم كل قاعدة قانونية سابقة عليه مُخالفة له، فلا يبقى بالتالي مِن مجال في حالة الإلغاء الصريح للتمييز بين قاعدة عامة وقاعدة خاصة اعمالاً لمبدأ قانوني مآلهُ :”لا تمييز حيث لا يُميز المشترع” والذي لو شاء ذلك لكانَ استثنى صراحةً مِن الإلغاء الحاصل بصورة صريحة أحكام بعض القواعد الخاصة ولوَ كانَ هذا الالغاء وارداً في قانون عام الذي يبقى في هذه الحالة على عمومية الغائه الشامل لِما يُخالف أحكامه وباعتبار أن قواعد القانون الخاص تُلغى صراحةً إمَّا بقانون خاص وإمَّا بقانون عام يتضمن قاعدة خاصة صريحة بهذا الإلغاء تستهدف ترك تنظيم حالة معيّنة لقواعد القانون الواردة فيه وإقصاء قواعد أخرى واردة في قوانين أخرى عامة أو خاصة كانت تحكُّم أو تشترِك في حكمها بعملية تنظيم الحالة موضوع القواعد الجديدة والمُلغاة.
وحيثُ أن قانون أصول الاجراءات الجزائية والذي هو القانون الأحدث تاريخاً على قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي -والذي نظّم وحدد مهام وصلاحيات وإجراءات مساعدي الضابطة العدلية في حالة الجريمة المشهودة كما في خارجها والذي لم يكرس لهم على الاطلاق صلاحية التوقيف الإداري في نطاق أعمالهم كضابطة عدلية- كان قد نصّ صراحةً في المادة 428 منه على أنه :”يلغى قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 18/9/1948 وتعديلاته، كما تلغى جميع الأحكام والنصوص التشريعية المخالفة أو المتعارضة مع هذا القانون” بما يعني ذلك أنَّ هذا القانون قد عدّل أحكام قانون تنظيم قوى الأمن المخالفة له بكل ما يتعلق بعمل الضابطة العدلية وهو ما يعني بالتبعية الحكمية أنَّ أحكام قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي المتعلقة بالتوقيف الإداري أصبحت حكماً بحكم الملغاة لكونها لا تأتلف مع أحكام قانون أصول الإجراءات الجزائية الذي لم يمنح مساعدي الضابطة العدلية حق التوقيف الإداري بل حدد حالات التوقيف من قبلهم وحصرها فقط بحالة الجريمة المشهودة دون مخابرة النيابة العامة وفيما خلا هذه الحالة لا يحق لهم التوقيف الا استناداَ لإشارة قضائية أو مذكرة عدلية أو حكم أو قرار قضائي. وما يثبت ويؤكّد أن نصّ المادة 217 من قانون تنظيم قوى الأمن أصبح بحكم الملغى هو أن هذا النص كان قد أباح للسلطة العدلية في الحالة الرابعة المذكورة فيه والسالف بيانها حق احتجازها للمشتبه به في حالة الجناية المشهودة مدة 24 ساعة على ذمة التحقيق وتمديدها استثنائياً اذا كانت ضرورات التحقيق تستوجب ذلك لمدة أقصاها ثلاثة أيام في حين أن القانون الجديد لأصول المحاكمات الجزائية أباح لها بمقتضى المادة 42 توقيف المشتبه به في الجناية المشهودة مدة 48 ساعة قابلة للتمديد مدة مماثلة بقرار معلل بعد إطلاعه على الملف وتثبته من مبررات التمديد أي عدلت هذه المدة لتصبح أربعة أيام على الأكثر وذلك على خلاف ما ورد في قانون تنظيم قوى المن الداخلي وهو ما يعني أنّ النص المادة 217 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي والسابق في صدوره على نصوص قانون الإجراءات الجزائية لم يعد صالحاً للتطبيق لإلغائه صراحةً وضمناً بالتعديل اللاحق المنوّه عنه وللأسباب المنوّه عنها .
وحيثُ أنه تبعاً لذلك يصبح السند القانوني الذي استند عليه المدير العام لقوى الأمن الداخلي لاصدار مذكرة تعليماته بالتوقيف الإداري غير موجود لكونه أصبح بحكم الملغى كما سبق بيانه وهو ما يجعل بالتالي من مذكرته المذكورة مفتقرة لأساسها القانوني.
وحيثُ تقتضي الإشارة أخيراً الى أنه حتى في حالة توقيف قوى الأمن الأشخاص بناءً على قرار قضائي فإنهُ مع ذلك يحظر عليهم احتجاز المشتبه به في نظاراتهم إلا بقرار من النيابة العامة وضمن مدة لا تزيد على ثمانٍ وأربعين ساعة والتي يمكنها تمديدها مدة مماثلة بناءً على موافقتها بحسب المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تحت طائلة ملاحقتهم بجريمة حجز الحرية الشخصية سنداً لأحكام المادة 48 من ذات القانون التي نصّت صراحةً على أنه :” إذا خالف الضابط العدلي الأصول المتعلقة باحتجاز المدعى عليه أو المشتبه فيه فيتعرض للملاحقة بجريمة حجز الحرية المنصوص والمعاقب عليها في المادة 367 من قانون العقوبات بالإضافة إلى العقوبة المسلكية سواء أكانت الجريمة مشهودة أم غير مشهودة. كما أن المادة 107 من القانون أوجبت على الضابطة العدلية التي تنفّذ مذكرة الاحضار الصادرة عن قاضي التحقيق احضاره الى النائب العام مباشرةً بواسطة رئيس النظارة من تلقاء نفسه بمجرد تصرم مهلة الأربع والعشرين ساعة تحت طائلة اعتبار هذا التوقيف عملاً تعسفياً وملاحقته بجريمة حرمان الحرية الشخصية. فكيف الأمر والحال دون وجود قرارٍ قضائي لحصول التوقيف من قبل قوى الأمن؟!…
وحيثُ تأسيساً على ما كل ما سبق وتقدّم تكون مذكرة المدير العام لقوى الأمن الداخلي موضوع البحث بمثابة القرار الاداري غير المشروع لكونه يمثل وضعاً شاذّاً مخالفاً للقانون لعِلَّة انتهاكه بصورة صارخة للأصول وللنصوص القانونية ذات الصفة الإلزامية الواجبة التطبيق والمبادئ القانونية العامة ذات الصفة السامية الواجبة الاحترام والمتعلقة بشرعة حقوق الانسان، وهو يصطدم بمبدأ ” شرعية الأعمال والقرارات الادارية ” ، ويتصف قانوناً بالانعدام أي منعدماً عديم الوجودActe inexistant ويعتبر كأنه لم يكن Nul et non avenu لإنعدام أحد أركان مشروعيته القانونية، فلا تثمر عنه بالتالي أية نتائج قانونية ملزمة وذلك لأن العدَم لا ينتج إلا عدماً.
وحيثُ يقتضي الإشارة أخيراً أن مذكرة التعليمات التي أصدرها المدير العام لقوى الأمن الداخلي والتي يجيز فيها لقواه الأمنية توقيف الأشخاص بدون إشارة قضائية أو مخابرتهم بذلك ومهما تكن مدة هذا التوقيف الذي أثبتنا مخالفته للقانون ولاسيما في ظل التعديل الأخير الذي عزز من ضمانات المشتبه به اي القانون رقم 191/2020 ومنع التحقيق معه من قبل الضابطة العدلية قبل حضور محام ما لم يكن الجرم مشهوداً تجعل منه بالتالي محرّضاً على اقتراف جريمة حجز الحرية الشخصية المنصوص عنها في المادة 367 من الشريعة الجزائية والتي تنص على أنه:” كل موظف أوقف أو حبس شخصاً في غير الحالات التي ينص عليها القانون يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة” وخاصةً أنَّ المشترع أفرد مادتين في قانون العقوبات تتعلقان بالمحرّض حيث نصت المادة 217 منه على أنه:” يعد محرضاً من حمل أو حاول أن يحمل شخصاً آخر بأي وسيلة كانت على ارتكاب جريمة.إن تبعة المحرض مستقلة عن تبعة المحرض على ارتكاب الجريمة”. في حين نصت المادة 218 منه على أنه:” يتعرض المحرض لعقوبة الجريمة التي أراد أن تقترف سواء كانت الجريمة ناجزة أو مشروعاً فيها أو ناقصة.إذا لم يفض التحريض على ارتكاب جناية أو جنحة إلى نتيجة خففت العقوبة بالنسبة التي حددتها المادة 220 في الفقرات 2،3،4″.
بل أكثر من ذلك قد لا نبالغ ان قلنا إنه قد يوصف المدير العام في هذه الحالة بالفاعل المعنوي للجريمة المذكورة لكونه يسخّر بهذه الطريقة غيره من حسني النية من القوى الأمنية الذين هم تحت أمرته على تنفيذها سنداً لتعليماته وذلك لأنَّ المدير العام بتعليماته المذكورة يكون بذلك قد نظم أمر المساهمة في هذه الجريمة أو أدار عمل من اشتركوا فيها وخاصةً متى ما كان المأمور لا يعلم في هذه الحالة أنه يقترف فعلاً جرمياً معاقباً عليه وهو الأمر الذي يجد صدىً له في أحكام المادة 212 من قانون العقوبات.
نخلص الى القول بأنَّ مذكرة تعليمات المدير العام لقوى الأمن الداخلي تسفرّ عنها النتائج القانونية والواقعية التالية:
أنَّ المذكرة تشكل تحريضاً على الاعتقال التعسفي وعلى اقتراف جريمة حجز حرية شخصية.
أنَّ المذكرة تشكل تجاوزاً ساطعاً لحدّ السلطة ومخالفة فاضحة لمبدأ الشرعية.
أنَّ المذكرة تشكل تعدياً صارخاً على أعمال السلطتين التشريعية والقضائية.
أنَّ المذكرة تشكل انتهاكاً جسيماً للحرية الشخصية والحقوق الانسانية.
أنَّ المذكرة تشكل تعزيزًا للدولة البوليسية على حساب دولة القانون.
الأمن تحت سقف القانون وسلطة القضاء وليس العكس.
الشعب يريد اصلاح النظام…فإننا للوطن وان كان بعضنا عليه…