مجلة وفاء wafaamagazine
ليست ظاهرة الحرمان بجديدة على المجتمع السوري، فهي كانت موجودة قبل الحرب، خصوصاً على مستويَي التعليم والصحّة. لكنها بعد عشر سنوات من الدمار والخراب والعقوبات والسياسات التنموية غير المتوازنة، باتت قاسماً مشتركاً يجمع معظم مناطق البلاد، وإن تفاوتت درجات ذلك الحرمان وأسبابه
عاد إلى مدينته ببيلا على أطراف العاصمة دمشق بعد ستّ سنوات من النزوح. عاد ليعيش بين أهله وأقاربه وليتخلّص من همّ الإيجار الشهري الذي كان يضطر إلى دفعه طيلة فترة نزوحه. لكن أبو علاء، الذي يعمل في مهنة تصليح الأحذية، سرعان ما اكتشف أن ما سيوفّره شهرياً سيكون مضطرّاً إلى دفعه وأكثر في مدينته، التي تعاني اليوم من شحّ كبير أو غياب للخدمات العامّة، من كهرباء ومياه ومواصلات وغيرها. لذلك، فضّل النزوح من جديد إلى ضاحية قدسيّا حيث كان يقيم طيلة سنوات النزوح الأول، فعلى الأقلّ هناك سيكون أولاده قادرين على الذهاب إلى جامعاتهم من دون معاناة كبيرة.
حال مدينة ببيلا، كحال العديد من المناطق السورية، التي تحوّلت، تحت وطأة أضرار الحرب والسياسات التنموية القاصرة، إلى مناطق محرومة أو شديدة الحرمان. لا بل إن ببيلا قد تكون أفضل من غيرها بالنظر إلى الدمار المحدود الذي لحق بها، وهذا يمكن ملاحظته بوضوح في عموم الريف السوري. وقد تفاجأ السوريون، أثناء موجة الحرائق الأخيرة، بأن غابات الساحل الجميلة تخفي خلفها مشاهد قاسية من الفقر وغياب الخدمات الأساسية والمشروعات التنموية. فكيف الحال إذاً مع مناطق أخرى مرّت عليها الحرب بقسوة، وتركت فيها ذكريات لا تُمحى لسنوات طويلة؟
محاولة وحيدة لم تتكرّر!
على أهمّيته، فإن الحصول على الغذاء من عدمه، لم يعد وحده المؤشّر الأساسي لقياس مستوى حالة الحرمان وخطورتها في سوريا، كما كان يجري سابقاً. فالتدهور الكبير الذي سجّلته المؤشرّات الأخرى خلال سنوات الحرب، كشف أن الفقر الغذائي، مثلاً، قد يكون في بعض المناطق، الأقلّ سوءاً من بين المؤشرات التي يجري الاعتماد عليها في قياس الهشاشة أو الحرمان، والتي هي بحسب أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق، الدكتور كريم أبو حلاوة: «إما مادّية تتّصل بالموارد والخدمات وقدرات الموارد البشرية في الإقليم/ الجغرافيا، أو مؤشّرات هشاشة اجتماعية لدى النازحين وفاقدي المأوى والمعيل، إضافة إلى النساء الحوامل ومعيلات أسرهنّ والمرضى والمسنّين، لذلك فالأفضل قياس مؤشرات الهشاشة الأسرية إضافة إلى الأفراد».
المحاولة السورية الوحيدة في هذا المجال كانت مع التقرير الوطني الصادر منتصف العام 2014، والذي حاول قياس مؤشّرات الفقر المتعدّد الأبعاد خلال الفترة الممتدّة من العام 2001 لغاية العام 2009. وقد خلص التقرير، الذي أعدّه آنذاك المكتب المركزي للإحصاء، إلى أن سوريا شهدت تحسّناً في أبعاد التنمية البشرية، إلا أن هذا التحسّن، ولا سيما في المناطق الريفية وبعض المحافظات، لم يُلغِِ التنمية غير المتوازنة بين المناطق. وحذّرت النتائج من أن التقدّم البطيء نسبياً في بُعد التعليم يُمثّل تحدّياً خطيراً لتراكم رأس المال البشري، كما أن الركود الذي طرأ على عددٍ من المؤشّرات الصحية، خاصةً خلال ذلك العقد، يُبرز أوجه القصور المؤسّساتي، الذي لم يسهم في ترجمة التوسّع الكمي إلى تطوّر نوعي. أمّا جغرافياً، فقد أشارت نتائج التقرير إلى أن محافظات دير الزور، الرقة، حلب، الحسكة، وإدلب كانت على التوالي هي الأكثر حرماناً. في المقابل، كانت السويداء، طرطوس، اللاذقية، ودمشق هي المحافظات الأقلّ حرماناً على التوالي (راجع الأخبار 20 كانون الثاني 2015). لكن كلّ هذه المعطيات انقلبت رأساً على عقب مع دخول البلاد في أزمتها الطويلة، حيث تعدّدت الأسباب المؤدّية إلى الحرمان، واتسعت المناطق التي باتت موسومة بهذه الظاهرة إلى درجة كبيرة جداً.
ومع أن التقرير الوطني الأول للتنمية المستدامة الصادر في العام 2017، حاول تتبّع انعكاسات الحرب وتأثيراتها خلال الفترة الممتدة من العام 2011 حتى العام 2015 على خطة أهداف التنمية المستدامة الموضوعة عالمياً لعام 2030، والمكوّنة من سبعة عشر هدفاً، إلا أنه لم يدخل صراحة في تفاصيل المتغيّرات التي طرأت على مؤشرات قياس الفقر المتعدّد الأبعاد، على رغم أن تأثير الحرب كان بحسب الدكتور أبو حلاوة «مهولاً، سواء بالنسبة إلى دمار المساكن أم لخروج أعداد كبيرة من المدارس والمستوصفات من الخدمة، فضلاً عن تأثر خدمات مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء وخدمات النظافة وغيرها». من جهته، يحمّل الباحث الاقتصادي، شامل بدران، الحرب الاقتصادية على سوريا مسؤولية «تراجع مؤشّرات الفقر المتعدد الأبعاد (الحرمان) على المستوى الوطني، وفي جميع المكونات (الصحة والتعليم ومستوى المعيشة)»، معتبراً أن تلك الحرب أثّرت «سلباً، وبشكل متفاوت، على الحرمان بحسب المناطق جغرافياً، وذلك لأسباب سياسية وأمنية واجتماعية، وأيضاً وفق فترات زمنية مختلفة». وما سلم من نكبات الحرب وأضرارها الهائلة، لم يسلم من السياسات التنموية والاقتصادية الحكومية، التي عمّقت بفشلها وانحيازها للأغنياء وأصحاب الثروات والمدن الكبرى وشيوع الفساد من مأساة الحرمان، سواء في المناطق التي بقيت بعيدة عن ساحة المعارك، أو تلك التي عانت ما عانت من تدمير وتخريب للبنى التحتية والموارد الاقتصادية، وتدهور في المؤشّرات التنموية والاجتماعية.
مزيد من الحرمان
ربما يكون النزوح القسري الذي اضّطر إليه أكثر من ستة ملايين سوري خلال الفترة الممتدّة من العام 2011 إلى نهاية العام 2019، العامل الأكثر إسهاماً في شيوع ظاهرة الحرمان وامتدادها جغرافياً إلى مناطق لم تكن تشملها سابقاً، أو كان حضورها فيها قليلاً؛ إذ بحسب «المركز السوري لبحوث السياسات»، في تقريره الأخير، فإن»أكثر من نصف سكان سوريا قد نزحوا قسرياً، الأمر الذي ترك آثاراً مدمّرة على قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الأساسية، وإنفاذ حقوقهم الإنسانية، وظروفهم المعيشية والاقتصادية». ولعلّ الدراسة البحثية التي أجرتها «الهيئة السورية لشؤون الأسرة»، وشملت أوضاع الأسر النازحة إلى منطقتَي وادي الذهب وكرم الشامي في محافظة حمص، توضح جزءاً من معاناة الأسر التي اضطرت إلى النزوح بسبب الحرب، إذ خلصت الدراسة إلى تسجيل جملة ملاحظات في الجلسات الحوارية مع الأسر النازحة أهمّها: ارتفاع إيجارات السكن وتردّي مواصفاته، وارتفاع أسعار السلع والخدمات، ووجود تمييز وانتقائية في عملية توزيع المساعدات والسلل الغذائية وعدم عدالتها، إضافة إلى تراجع الاهتمام برعاية الطفل والمرأة الحامل صحياً واجتماعياً ونفسياً، ومحدودية فرص العمل والخيارات المهنية المتاحة أمام النازحين.
ولم تبتعد كثيراً نتائج المسح الديمغرافي الذي أعدّه «المكتب المركزي للإحصاء» عام 2017، عن تلك الملاحظات، إذ أشارت النتائج إلى أن 53.8% من الأسر السورية تلقّت شكلاً من أشكال المعونات، وقد تركّزت النسبة الأكبر في محافظة القنيطرة، حيث تلقّت 97.8% من أسرها معونات، ثم جاءت درعا بنسبة 94.8%، ومحافظة ريف دمشق بنسبة 78.7% . أمّا أقلّ محافظة تلقّت أسرها معونات فكانت طرطوس بنسبة 23.4%، فالحسكة 25.8%، واللاذقية 38.9%. وهذا يتناقض بعض الشيء مع بيانات التوزّع النسبي لمؤشّرات الأمن الغذائي المتضمَّنة في المسح نفسه، والتي أشارت إلى أن 28.7% من الأسر السورية غير آمنة غذائياً، وكانت النسبة الأكبر منها في حماة حيث بيّنت نتائج المسح أن 53.4% من أسر المحافظة غير آمنة غذائياً، فالقنيطرة بنسبة 46.5%، فحلب بنسبة 36.6%.
قضية الأمن الغذائي تناولها «المركز السوري لبحوث السياسات» من زاوية أخرى أكثر عمقاً. ففي دراسة له، حاول المركز رصد واقع الأمن الغذائي من خلال أربعة مكوّنات أساسية هي: التوفّر، الوصول، الاستخدام، والاستدامة. وقد خلصت تقديرات المركز إلى حدوث تراجع حادّ في الأمن الغذائي بنسبة وصلت إلى 34%، بين عامَي 2010 و2014. وكان المؤشّر الفرعي الأسوأ أداءً هو الوصول إلى الغذاء بنسبة تراجُع تقارب 48%، من جرّاء حالات الحصار، والقيود المفروضة على التنقل، وتدهور القوة الشرائية. وقد تلى ذلك تراجع في الاستخدام بنسبة 37%، والاستقرار بنسبة 25%، والتوفر بنسبة 23%. وفي 2018، هبط المؤشّر بنسبة 8% مقارنة مع العام 2014. لكن مؤشّر الوصول إلى الغذاء تحسَّن تحسُّناً طفيفاً بنسبة 3% من جرّاء التقلص في مساحة المناطق المحاصرة والتراجع في العمليات العسكرية، بينما تراجعت مؤشّرات التوفّر والاستقرار والاستخدام بنسبة 20% للأول، و14% للثاني، و1% للثالث.
وعلى خلاف ما كان متوقّعاً، فإن ظاهرة الحرمان التي كان يأمل السوريون أن تخفّ وطأتها مع انحسار دائرة المعارك والعمليات العسكرية عام 2019، شهدت تصاعداً سريعاً على خلفية التدهور الشديد في الأوضاع الاقتصادية والخدمية، والمستمرّ إلى الآن منذ منتصف العام 2019. هكذا، بات الحرمان سمة لجميع المناطق السورية بنسب متفاوتة؛ فأكثر من90% من السوريين دخلوا في خانة الفقر العام مع موجات الغلاء المستمرّة من دون توقف، وهو ما انعكس سلباً على إنفاق الأسر على الغذاء والتعليم والصحة وغيرها من الاحتياجات اليومية الرئيسية، في وقت أصبح فيه الحصول على رغيف خبز أو قارورة غاز أو بضعة ليترات من مازوت التدفئة وغير ذلك أمراً بعيد المنال، أو يحتاج إلى ساعات من الانتظار اليومي، أو إلى بيع ما تبقى من أدوات المنزل. كما أن مؤسّسات الدولة غدت بسبب الحصار الخارجي والمعوقات الداخلية أقلّ قدرة على توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، وفي مقدّمتها الكهرباء والمواد المدعومة.
تدهور جديد في قيمة الليرة
سَجّلت الليرة السورية، أول من أمس، هبوطاً كبيراً وجديداً أمام الدولار وباقي العملات الأجنبية. إذ وصل سعر الدولار في السوق الموازية (السوداء) إلى 3110 ليرات للشراء و3140 ليرة للبيع، بعدما كان 3070 ليرة للشراء، و3100 ليرة للبيع. واستقرّ سعر الدولار في تعاملات البنوك الرسمية السورية عند 1250 ليرة للشراء، و1262 ليرة للبيع من دون تغيير. ويأتي هذا الانخفاض الحادّ في قيمة العملة السورية في وقت يستعدّ فيه المصرف السوري المركزي لطرح ورقة عملة جديدة بقيمة 5000 ليرة. وتشهد العملة المحلية، منذ سنوات، انخفاضاً متتالياً أمام الدولار والعملات الأجنبية، ولا سيما في السنتين الأخيرتين، حيث ساهمت العقوبات الأميركية والغربية على سوريا، بضرب قيمتها إلى حدّ بعيد. وبلغت خسائر الاقتصاد السوري، منذ عام 2011 حتى مطلع عام 2020 الماضي، نحو 530 مليار دولار، وهو ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلّي الإجمالي لعام 2010 بالأسعار الثابتة. ووفق دراسة أعدّها «المركز السوري لبحوث الدراسات»، فإنّ الدين العام للبلاد ارتفع إلى نحو 208% نسبة إلى الناتج المحلّي، كما فقدت العملة المحلية نحو 97% من قيمتها على مدار سنوات عدّة، إضافة إلى بلوغ معدلات البطالة في البلاد نسبة 42%.
الأخبار