الخميس 03 تشرين الأول 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
يبكي محبو الموسيقى الكلاسيكية رموزها عندما يرحلون، وكذلك يفعل محبو الغناء الأسوَد مع رموزه. أما جيسي نورمان (1945 ـــ 2019)، فيبكيها كلاهما. الديفا الأميركية التي رحلت الاثنين الفائت لها في الغناء الكلاسيكي مساهمة شاملة، إذ طالت الأعمال الأوبرالية (والمقتطفات) والـ«ليدر» (الأغنيات بالمعنى الكلاسيكي) والأعمال الإنشادية الدينية (القداديس والجنازات وغيرهما)، ولها في الغناء الأميركي الأسوَد مساهمة كبيرة، لكن غير حصرية، في الإنشاد الديني أو ما يعرف بالـNegro Spirituals أو اختصاراً الـSpirituals. علماً أن لها تسجيلات وإطلالات حيّة من خارج هذا اللون، تُدرَج تحت خانة الجاز والبلوز، ومنها حفلتها في آخر زيارة إلى لبنان عام 2012 ضمن «مهرجانات بعلبك الدولية».
إنها «الوسطى» بين «أخواتها»، «الصغرى» كاتلين باتل (1948) و«الكبرى» ليونتين برايس (1927)، لكن القدر اختارها لتكون أولى الراحلات من الثلاثي الأسمر الذي نشر الجمال في مجالين غنائيَّين متباعدَين اجتماعياً، ومتقاربَين قيمةً فنيةً وجمالاً. «الثلاثي السوبرانو» الذي يكتمل فيه الحضور النسائي بكل أشكاله: كاتلين عنوان الأناقة الهشّة، ليونتين عنوان الجمال البرّي، وجيسّي عنوان السطوة الجسدية.
ولدت جيسّي نورمان في ولاية جورجيا الأميركية، موطن راي تشارلز وغلاديس نايت وغيرهما من رموز الغناء الأسود الراحلين والحاليين. بدأت مسيرتها بالإنشاد الديني الأفرو- أميركي أو الـ«سبيريتشوال» قبل الغناء الكلاسيكي الأوروبي، لكنّ مساهمتها في المجال الثاني تعدّ اليوم أهم كمّاً ونوعاً. تسجيلاتها بالعشرات، وبالأخص في الشق الجرماني من الغناء الأوبرالي والإنشاد الديني الكلاسيكي.
إذ برعت في أداء أعمال فاغنر وريشارد شتراوس ومالر وبرامز وبيتهوفن (السمفونية التاسعة والقداس الاحتفالي) وموزار وكذلك الأعمال الأحدث، وشونبرغ وبرغ وغيرهم، من دون أن تهمّش الممر الإلزامي في إيطاليا، من خلال فيردي بشكل خاص. لنورمان أيضاً اهتمام بالريبرتوار الفرنسي الكلاسيكي، مثل أعمال (أوبرالية أو غنائية) رافيل ودروبوسي وبرليوز وفوريه.
كما سجّلت كلاسيكيات الإنشاد الديني الأسوَد، اللون الذي غنّته على المسارح أيضاً، تماماً كما الجاز والبلوز اللذين سمعناهما منها في «بعلبك» حيث تألف البرنامج من باقة متجانسة للمؤلفين الأميركيين الثلاثة الكبار: ديوك إلينغتون وجورج غرشوين وليونارد برنشتاين (أو «برنستين» لم يفضّل هذا اللفظ). في هذا السياق، اعتلت الديفا الراحلة كبرى المسارح ودور الأوبرا والصالات المرموقة في العالم، وعملت مع كبار قادة الأوركسترا في القرن العشرين (لا ضرورة لتعدادهم، لكن يصعب أن نجد كبيراً في هذا المجال من فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات لم يرتبط اسمها به) ومعظم تسجيلاتها منشورة عند الثلاثي المندمج/ المنفصل، الأول في عالم الكلاسيك، «فيليبس» (في الدرجة الأولى) ثم «ديكّا» و«دويتشيه غراموفون».
عانت جيسّي نورمان في السنوات الأخيرة من آلامٍ في الظهر ورحلت متأثرّة بمضاعفات عملية جراحية أجريَت لها في في النخاع الشوكي. لكن تسجيلاتها خالدة وكذلك مسيرتها المتوّجة بعشرات الجوائز الموسيقية العالمية، وهي حيّة في حناجر عشرات المغنيات اللواتي تأثرن بها أو تلقين دعماً مباشراً منها، أو عبر المعهد المجّاني الذي أنشئ في جورجيا ويحمل اسمها (Jessye Norman School of the Arts) لرعاية المواهب الشابة وتعليم الفنون على أنواعها، ومن ضمنها الموسيقى غناءً وعزفاً، لمن يرغب.