مجلة وفاء wafaamagazine
لم يُسجّل منذ الاستقلال ان حصلت تنحية لرئيس جمهورية او رئيس مجلس نيابي او رئيس حكومة، حتى ولو كان رئيساً مكلّفاً، فما حصل من سابقات على مستوى الرئاسات الثلاث كان بمبادرة بعض اصحاب العلاقة، ولو تحت ضغط شارع او ظرف سياسي او أمني عسكري احياناً، وفي حالات محدودة، بل نادرة جداً..
كتب طارق ترشيشي في الجمهورية
الباعث على هذا الكلام هو ما يُتوقع ان يتنتهي اليه مصير الرسالة التي وجّهها رئيس الجمهورية العماد مبشال عون الى مجلس النواب، ويطلب فيها بطريقة غير مباشرة سحب التكليف من الرئيس المكلّف سعد الحريري، لأنّه في رأيه يخالف الدستور وفقاً لأحكام المادتين 53 (فقرة 4) و 64 (بند 2) من الدستور، وأنّه «عاجز» عن التأليف و»يأسر» هذا التأليف، بما يمنع ولادة حكومة تحتاج اليها البلاد بإلحاح، نتيجة للانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعيشه. فالمجلس النيابي الذي دعاه رئيسه نبيه بري الى جلسة لمناقشة رسالة عون بعد ظهر الجمعة، لن ينتهي على الأرجح في هذه الجلسة او في جلسة لاحقة الى قرار بسحب التكليف من الحريري، الذي كان فاز به بأكثرية نيابية عادية في الاستشارات النيابية الملزمة التي اجراها عون في تشرين الثاني الماضي.
فمثل هذه الخطوة لم تحصل في تاريخ تأليف الحكومات، وما حصل في هذا التاريخ، انّ بعض الرؤساء كُلّفوا، وعندما وجدوا صعوبة في تأليف حكوماتهم بادروا من تلقائهم الى الاعتذارعن التكليف، والأمثلة عن ذلك كثيرة.
والواضح من الجو النيابي، انّ نقاشاً سيحصل في مضمون الرسالة الرئاسية، لكنه لن يرقى الى مستوى التصويت على استمرار التكليف من عدمه، رغم أنّ هذا التكليف ناتج أصلاً من الإرادة النيابية، إذ دون هذا الامر محاذير كثيرة منها:
ـ أولاً، انّ من ايّدوا الحريري في التكليف من كتل نيابية او نواب مستقلين، وحتى إشعار آخر، لم ينقلبوا عليه او يغيّروا موقفهم منه، إذ ما زالوا يتمسكون به، ما يعني أنّ الاكثرية النيابية لا تزال تؤيّده.
ـ ثانياً، انّ البعض يعتبر انّ هذه الرسالة الرئاسية بما احتوته من شكوى، لا تبرّر للكتل النيابية وللمجلس عموماً ان يتخذ قراراً بنزع التكليف من رئيس مكلّف، فإلى اعتبار البعض الخطوة الرئاسية «غير دستورية»، فإنّ البيئة السياسية والمذهبية التي ينتمي اليها الحريري ترفض بشدة مقاربة التكليف من هذه الزاوية، لأنّها تعتبرها افتئاتاً على الرئيس المكلّف وصلاحياته، وبالتالي ترفض إحداث سابقة من هذا النوع في هذا المضمار، لأنّه في تاريخ تأليف الحكومات لم يحصل انّ مجلساً نيابياً سحب التكليف من رئيس مكلّف بهذه الطريقة او بغيرها. فالامر بالنسبة الى هذه البيئة، هو انّ الرئيس المكلّف لديه المتسع من الوقت ومن الصلاحية لتأليف حكومته بعيداً من اي قيد دستوري زمني وحتى سياسي، او اي ضغوط مهما كان نوعها.
واكثر من ذلك، فإنّ بيئة الحريري ومؤيّديه يرمون الكرة في ملعب عون ويحمّلونه مسؤولية تعطيل التأليف ويتهمونه بالافتئات على صلاحيات الرئيس المكلّف، الذي يمنحه الدستور صلاحية تأليف الحكومة واصدار مراسيمها بالاتفاق مع رئيس الجمهورية. بمعنى، انّ الدور الاساسي في التأليف هو للرئيس المكلّف، وأنّه يتحمّل والحكومة التي يشكّلها المسؤولية أمام المجلس النيابي، فإما تنال الثقة النيابية وإما تُنزع عنها. وأنّ لا صلاحية لرئيس الجمهورية في اختيار الوزراء، او ان تكون له حصّة وزارية في الحكومة، باعتباره رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن والقائد الاعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء، وله الحق في ترؤس جلسات مجلس الوزراء عندما يشاء، من دون ان يحق له التصويت على القرارات فيها. ما يعني انّه في موقع الحَكَم بين السلطات، وأنّ تدخّله في تأليف الحكومة من خلال عبارة انّه يصدر المراسيم بالاتفاق بينه وبين الرئيس المكلّف، ينبغي ان يكون من الموقع الحَكَميّ وليس من موقع الشريك في التأليف وفي اختيار الوزراء وخلافه.
لذلك، يقول معنيون في هذا المضمار، انّ مجلس النواب ما أحدث في ما مضى ولن يحدث اليوم سابقة في هذا المجال، يمكن ان تفتح الباب امام سابقات على مستوى رئاسات اخرى، علماً أنّ في تاريخ رئاسة الجمهورية لم يحصل ان اجتمع مجلس النواب ونزع ثقة من رئيس جمهورية كان انتخبه اصلاً. كذلك لم يُسجّل حصول ضغط على رئيس ودفعه الى الاستقالة، إذ كان كل رئيس مهما مرّ في ظروف صعبة على المستوى الشخصي او على مستوى البلد يرفض الاستقالة ويصرّ على البقاء في سدّة الرئاسة حتى اللحظة الاخيرة من ولايته، منعاً لإحداث اي سابقة من هذا النوع، ويتضامن معه في هذا الموقف البيئة التي ينتمي اليها، حتى لو كان بعضها يعارضه. والأمر نفسه ينطبق على رئاسة مجلس النواب، التي نادراً ما خرج رئيس مجلس منها بالاستقالة طوعاً او عنوة، او بنزع الثقة منه، علماً أنّ الدستور المنبثق من «إتفاق الطائف»، الذي جعل ولاية المجلس النيابي 4 سنوات، يقضي بطرح الثقة برئيس المجلس ونائبه بعد سنتين لانتخابهما، بناءً على عريضة يوقعها 10 نواب، وتنال موافقة اكثرية الثلثين، لكن هذا الأمر لم يحصل يوماً منذ دسترة «اتفاق الطائف»، لا ايام الرئيس السابق حسين الحسيني ولا ايام الرئيس الحالي نبيه بري.
قصة الرئاسات في لبنان، انّ اختيارها يتمّ سياسياً وطائفياً في آن، لذلك من الصعب عزل رئيس من منصبه بمعزل عن هذين العاملين. وهنا الرئيس المكلّف تأليف الحكومة يصبح منذ لحظة تكليفه كرئيس الحكومة الاصيل. فإذا لم يبادر هو الى الاعتذار لا يستطيع احد ان يعزله. فالدستور لا يتضمن اي نص يقيّده بمدة زمنية لتأليف حكومته، وربما تكون هذه ثغرة من الثغرات التي تعتري «اتفاق الطائف» في هذا المجال وفي مجالات اخرى وعلى مستوى الرئاسات الثلاث وخارجها، وهذه الثغرات ينبغي معالجتها مستقبلاً لجعل الدستور اكثر مرونة، خصوصاً على مستوى تكوين السلطات الدستورية، بما يجنّب البلاد الفراغ والتعطيل وسواه.
لذلك، ربما ستؤدي رسالة عون الى المجلس فقط الى تحريك عجلة التأليف الحكومي المتجمدة بفعل الخلافات السائدة بين المعنيين، ولكنها قطعاً لن تنتهي الى قرار نيابي بسحب التكليف من الرئيس المكلّف، الذي لا يمكن ان يعتذر الاّ اذا بادر هو شخصياً الى هذا الاعتذار..