الرئيسية / سياسة / بيروت «تحت» صفيح ساخن

بيروت «تحت» صفيح ساخن

السبت 19 تشرين الأول 2019

نزل الجيش إثر تعرّض المتظاهرين لواجهات بعض المصارف بالتكسير في وسط بيروت (هيثم الموسوي)

كتب محمد نزال في جريدة الأخبار:

يحمل بيده قضيباً معدنيّاً، يضرب به لوحاً معدنيّاً، خالعاً قميصه والنار مِن حوله. يضرب الحديد بالحديد لأكثر مِن ساعة، ثم ماذا؟ مات الحديد المضروب، فرضاً، لِمَ لا يتوقّف الضرب؟ بدا ذاك المتظاهر، قبيل فجر أمس، كمن يُمارس رقصة طقسيّة ما، لقبيلة ما، مستحضراً بـ«الفودو» أرواحاً ما. الدخان الأسود لوّن وجه، والخدوش بادية في صدره، منفعل «يزرزب» مِنه العرق… ويستمر الضرب. رأيناه ليل أول مِن أمس. متظاهر كهذا يأتيه مراسل تلفزيوني يسأله عمّا يُريده مِن الحكومة. أيّ جواب يتوقّع منه؟ هذا ليس متظاهراً عاديّاً، هذا مقتول منذ ولادته، وربّما قبل ذلك، هذا «مُنتَج اجتماعي» يصعب على «أبناء البيوت» فهمه، تفكيكه، تقبّل وجوده أساساً، إلا اللهم بعد ألف دراسة «إنثروبولوجيّة»… إن أمكن أصلاً. هذا ينام نهاراً ويستيقظ ليلاً، قبل انطلاق التظاهرات الأخيرة ضدّ الضرائب، وروّاد وسط بيروت نهاراً على الأرجح أنّهم لم يقابلوه عن قرب. هذا، فضلاً عن العمل، عاطل مِن أشياء كثيرة أخرى. هذا ليس حالة فرديّة، تظهر فجأة في التظاهرات، بل حالة باتت مألوفة، وهي في ازدياد مستمر. التظاهر عنده ليس بالضرورة لغاية، بل يُمكن أن يكون هو الغاية نفسها، مجرّد الانفلات مِن كلّ قيد، الانطلاق، الانفجار… ويحصل أن ينفجر هذا، أحياناً، بمَن «صنعه». ظهر صاحبنا ليل أمس، في ليلة هي الثانية على بداية الاحتجاج الواسع، رأيناه هو نفسه، ومعه مجموعة مِن رفاق «الحالة».

ليلة أمس، قُطعت طرقات بيروت كلّها. تماماً كلّها. اقتصر الأمر في الليلة السابقة على بعض الطرقات الرئيسيّة. سماء العاصمة، أمس، كانت قاتمة منذ الصباح لكثرة ما استقبلت سواد المطّاط المُشتعِل. خطّ «فان 4» تعطّل نسبياً بداية النهار، لكنّه، ومع اقتراب المساء، اختفى كليّاً. المتظاهرون ظفروا بـ«فان» يعمل، احتجزوه عند تقاطع بشارة الخوري، قبل أن يطلبوا مِن الركاب النزول مِنه. دوّن أحدهم رقم لوحة تسجيله، متوعّداً صاحبه بالمحاسبة لاحقاً، لأنّه خالف قرار «جماعة الفانات» بالتعطيل والإضراب. كاد أن يُضرَب، لولا شفاعة فتاة له، كانت بين الركّاب. حلّ المساء. عاد بعض «المهذّبين» إلى منازلهم، وجاءت نوبة «العصاة» الآن. هاجموا واجهة بنك الموارد، ظنّ البعض أنّ اللحظة التاريخيّة بدأت، ذلك مع تحطيم لواجهة بنك آخر، ودخول مبنى مكتوب على جدرانه اسم شركة الاتصالات «MTC». سبقت ذلك جولات كرّ وفرّ بين القوى الأمنيّة والمتظاهرين، قنابل مسيّلة للدموع، ألعاب ناريّة مدويّة، إلى أن حضر الجيش. في الليلة السابقة، لم يتدخّل الجيش. قبل ذلك، وإثر بداية التعرّض لمباني بعض البنوك، توقّع بعض المتظاهرين أنّ السُّلطة، الآن، سوف تبطش بقوة. وفعلاً، هذا ما حصل. نزل الجيش بين المتظاهرين. وسط بيروت ساحة حرب إنّما بلا رصاص. عشرات الموقوفين، عشرات المضروبين، ركض في كلّ اتجاه، قسوة لافتة مِن العسكر. وما العسكر؟ «آلات قسوة» لا تنال راتبها الشهري إلا لأنّها كذلك. على هذا يتدرّبون. لا يُحبّون المزاح. شعارات التظاهرات هذه، في تشرين الأوّل مِن العام الجاري، ستُذكر مديداً بكونها كسرت «تاوبهات» ما كان أحد يتوقّع أن تُكسَر. التعرّض لقامات سياسيّة، لها هالة قداسة عند أهلها، أصبح مألوفاً أمس على ألسن الناس. هذا ليس عابراً. عادة، وعلى مدى التاريخ، لم تكن تحصل التحوّلات، خاصّة المتضمّنة لتهشيم هالات كبرى، مِن غير عنف وعويل ودم. هذا ما يجب أن يُحسَب حسابه. هذه سُنّة تاريخيّة.

بدأت النفايات تتكدّس في شوارع بيروت في ظلّ قطع الطرقات الرئيسيّة والفرعيّة


الناس في الشارع، المتظاهرون، ما عادوا يطيقون أن يتضامن معهم «المشاهير». كلّ مسؤول سياسي، ولو مِن خارج الحكومة، انضم إليهم ليتضامن معهم نال نصيبه مِن الشتم والطرد. شيء ما نضج في الشارع هنا. شيء مِن القرف فاض على شكل: «طْلَعوا مِن راسنا بقى». الشارع يبدو أنه ما عاد يطيق مجاملة أحد. النفور شامل. كلّ «المساطر» جُرّبَت. حتى بعض الإعلاميين، مِن المتمسحين بأعتاب السُّلطان والآكلين على مائدته، يُخبرهم الشارع اليوم أنّه لا يطيقهم أيضاً. شيء ما في الشارع نضج ضدّ هذا النوع مِن النفاق. ليس علينا أن نتفاءل كثيراً، لكن، وهذا المؤكّد، هناك تحول ما هنا حصل، ويحصل.

النفايات بدأت تتكدّس في شوارع بيروت. هناك كومة ضخمة مِن النفايات في منطقة البسطة، مثلاً، هي نتاج عدم جمعها لمدة يومين. ستزداد تلك الكومة، وغيرها كذلك في مناطق أخرى، إن استمر إقفال طرقات العاصمة. ما عاد ممكناً التنقل لمسافات بعيدة إلا بواسطة الدراجات الناريّة. أن تملك سيارة اليوم فأنت لا تملك وسيلة نقل، هكذا ببساطة. نرصد «أبو حطب» يركب حصاناً. هو أحد المتظاهرين، تلقائيّاً يعني، وإن فضّل عدم الذهاب إلى وسط البلد. مشهد فنّي أن تراه فوق حصانه يمرّ بين الحاويات المشتعلة، في القرن الحادي والعشرين. يمرّ قربه عدد مِن عناصر قوى الأمن، ليسوا مِن ضمن مجموعة مكافحة الشغب، وخارج منطقة المواجهات التقليديّة، ومع ذلك لا يحتاج فتى مراهق إلى جرأة كبيرة حتى يسخر منهم بأعلى صوته. راح «يُقرّق» عليهم بلا توقف. لم يرفع أحد مِنهم رأسه. أكملوا سيرهم. هذه لحظة كسر المحرّمات. كلّ هذا يكون في نفوس الناس، منذ أمد بعيد، فتأتي اللحظة ويكون كلّ هذا المشهد. ماذا عن الأمل؟ مَن يعلم؟ الله أعلم.