الأربعاء 30 تشرين الأول 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
خرقت استقالة الرئيس سعد الحريري جدار الأزمة العاصفة بالبلاد تحت وطأة الانتفاضة التي دخلت يومها الـ13 اليوم، فيما طرأ على الساحات ما غَيّر في معادلاتها بفِعل دخول مناصرين لحركة «أمل» و«حزب الله» الى ساحتي الشهداء ورياض الصلح وجسر «الرينغ»، حيث حطّموا خيَم المتظاهرين والمعتصين، الذين عادوا اليها إثر إعلان الحريري استقالته مُحتفلين بـ«الإنجاز».
ولكن الاستقالة ألقت في الاجواء الداخلية غمامة تحجب ما قد يليها من وقائع، وسط سؤال كبير لدى كل الاوساط: الى أين؟ وفي أي اتجاه ينحو البلد، هل في اتجاه تأليف حكومة جديدة تعيد لملمة أجزاء الواقع المفكك؟ أم في اتجاه أزمة حكومية يتعذّر فيها التأليف حتى أمد طويل؟ وهل بات الوضع اللبناني يتحمّل أي تأخير؟ إلّا أنه بمعزل عن الاسباب التي دفعت الحريري الى استقالة حكومته، وسبق له أن حدّدها بمحاولة تعطيل جهوده على يد شركائه في «التسوية» وفي الحكومة، فإنّ الصورة الداخلية، وبإجماع القوى السياسية على اختلافها، هي في منتهى التعقيد، سواء على مستوى الشارع الذي بدأ يَستولد شوارع متقابلة بعضها مع بعض، أو على المستوى السياسي حيث جاءت هذه الاستقالة مستفزّة، وخصوصاً لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفريقه.
فضلاً عن أنها، وإن كانت في الشكل تلبّي مطلباً اساسياً للمحتجّين في الشارع منذ 13 يوماً حيث لم تبدر أي اشارة من هؤلاء المحتجّين حول إمكان خروجهم من الشوارع وفتح الطرق المقفلة الذي بات مطلباً ملحاً، فإنها تنمّ عن إشارات بدأت تتصاعد منذ ما بعد إعلان الحريري استقالته، وهي أنّ سقف المطالب قد يرتفع الى ما هو أعلى من مطلب استقالة الحكومة.
ولوحِظ انّ تيار «المستقبل» عمد بعد استقالة الحريري الى تسيير تظاهرات مؤيّدة له، وتخللها إقفال طرق وشوارع في المناطق المحسوبة عليه، وكان لافتاً إعلان «حزب الله»، عبر الوزير محمد فنيش، انّ استقالة الحريري «تؤزّم الأمور اكثر»، فيما لوحِظ «تَنقّل رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط بين محطة تلفزيونية وأخرى داعياً الى الحوار، وبرزت في الوقت نفسه مواقف خارجية تُبدي تخوّفها على الواقع اللبناني.
في انتظار أن يدعو عون الى الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية من سيكلّف تأليف الحكومة، فإنّ نادي المرشحين لرئاسة الحكومة لا يبدو انه يحتوي على اسم محدد، ما يجعل هذا الباب مفتوحاً على شتى الاحتمالات، خصوصاً في ظل التباين السياسي القائم بين مكونات البلد.
واذا كان الحريري يعتبر مرشحاً طبيعياً لتأليف الحكومة الجديدة، فإنّ هذا الأمر يتطلب لتحقيقه أن ينال الرجل في الاستشارات الملزمة أكثرية تخوّله ذلك، علماً انّ هناك علامات استفهام تحوط بمواقف قوى أساسية من إعادة تسمية الحريري، ولاسيما منها «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» وحلفائهما.
وبَدا جلياً لدى القوى السياسية على اختلافها، أمس، أنها في حال صدمة، وتحديداً لدى فريق رئيس الجمهورية الذي أكدت المصادر «انّ الحريري لم يضعه في جَو الاستقالة، الى حَدّ انّ الرئيس فوجِئ بها، خصوصاً انّ الاجواء التي كانت سائدة لدى فريق الرئيس تفيد أنّ جهوداً كانت تُبذل لعقد جلسة لمجلس الوزراء غداً».
وجزمت مصادر مطلعة على أجواء بعبدا لـ«الجمهورية» انّ الحريري قدّم استقالته من دون أي تنسيق مُسبق مع رئيس الجمهورية، الذي اطّلع على نيّته بالإستقالة من خلال وسائل الإعلام. وأشارت الى انّ الاتصالات اليومية التي كانت تجري بينهما لم تتناول القرار بالاستقالة.
وأضافت: «إنّ استقالة رئيس الحكومة حق دستوري وقرار يتخذه بنفسه وبلا شريك له إن أراد ذلك، وما كنّا نتمنّاه ونريده هو أن ينسّق مع رئيس الجمهورية في مثل هذه الخطوة قبل الاستقالة ،للتسريع في تشكيل حكومة جديدة».
ورأت المصادر انه «لا يجوز التأخير في كثير من الملفات الطارئة، خصوصاً تلك التي تناولها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة تحت عنوان الورقة الإصلاحية. ولعلّ بند مكافحة الفساد هو من الخطوات الأولى التي على الحكومة مقاربتها، وإنّ ايّ حكومة ستشكّل سيشترط عون عليها، فور توقيعه مرسوم تشكيلها، أن تكافح الفساد.
ما قبل الاستقالة
وعلمت «الجمهورية» انّ الساعات التي سبقت الاستقالة شهدت اتصالات مكثفة مع الحريري، في محاولة لِثَنيه عنها لأنها قد تفتح الوضع اللبناني على احتمالات صعبة.
وذكرت المعلومات انّ رئيس مجلس النواب نبيه بري عمل بقوة لإقناع الحريري بعدم الاستقالة، فأوفد إليه نهاراً وزير المال علي حسن خليل، مؤكداً له انّ الاستقالة قد توصِل الامور الى حائط مسدود، وتعقّد المشكلة الى حد قد لا يعود في الامكان التوَصّل الى أي حلول بسهولة.
لكنّ خليل عاد الى بري بأجواء سلبية، حيث سمع من الحريري تصميمه على الاستقالة، «لأنّ الامور لم تعد تحتمل». وأضافت انّ الحريري إتصل ببري قبَيل الاستقالة، وأبلغ اليه انه في صدد إعلانها، فدعاه بري مجدداً الى»تقدير وضع البلد، وعدم الاستقالة التي لا تشكّل حلاً للأزمة، إنما قد تعمّقها».
بري
وسألت «الجمهورية» بري عمّا دار بينه وبين الحريري؟ فأجاب: «لم نترك شيئاً الّا وقمنا به في محاولة لاحتواء الموقف، وعدم بلوغ الأزمة الحد الذي بلغته. وقد سعيتُ شخصياً لإقناع الحريري بعدم الاستقالة، إلّا اننا اصطدمنا بإصراره عليها».
وسُئل بري أيضاً: ماذا بعد الاستقالة؟ فأجاب: «لا شك في انّ الوضع دقيق وحساس، وينبغي مقاربة ما حصل بكثير من التعقل وعدم الانفعال، والحؤول دون حصول أي أمر من شأنه ان يزيد الأمور تعقيداً. المطلوب هو أن تسود الحكمة ولغة الحوار بين المكونات اللبنانية في معالجة الأمور، خصوصاً انّ صورة الأزمة ليست طائفية او مذهبية».
في عين التينة
وسُجّل في عين التينة وَقع سلبي لاستقالة الحريري، عكسه بري أمام زوّاره أمس، مشدداً على وجوب «اليقظة ومنع كل ما من شأنه أن يُشعل توترات من هنا وهناك، أو يدفع الى دَفع الشوارع الى أن تقف في مواجهة بعضها بعضاً».
تطورات ميدانية
وكان قد سبق إعلان الحريري استقالته، تطورات ميدانية تمثّلت بـ«هجوم» شَنّه عدد كبير من الشبّان، قيل إنهم تابعون لحركة «أمل» و«حزب الله»، في محاولة لفتح طريق «الرينغ» المقطوعة، الّا انّ هذا الهجوم تَوسّع ليشمل المعتصمين في ساحتي رياض الصلح والشهداء، حيث عمد المهاجمون الى الاعتداء عى المعتصمين وتخريب الخيم التي نصبوها في هاتين الساحتين.
وأثار هذا الامر بلبلة سياسية، وكان صدى هذا الهجوم في منتهى السلبية في «بيت الوسط»، وقالت مصادر سياسية مواكبة لحركة الاتصالات لـ«الجمهورية» انّ «هذا التطور السلبي، الذي تمثّل بالهجوم على المحتجّين على طريق «الرينغ» وفي وسط بيروت، شَكّل دافعاً أساسياً لتصميم الحريري على تقديم استقالته، وليتحمّل الجميع مسؤولياتهم».
وتردّد مساء أمس أنّ اتصالات مكثفة جَرت بين بعبدا وعين التينة، وكذلك على خط حركة «أمل» ـ «حزب الله»، وعلى خط «الحزب» و«التيار الوطني الحر». فيما حصل تواصل ليلاً بين بري والحريري عبر الوزير علي حسن خليل، وتمحورت هذه الاتصالات حول مرحلة ما بعد الاستقالة.
الحريري
وقالت مصادر متابعة لحركة الاتصالات التي سادت في الايام الاخيرة لـ«الجمهورية» انّ قرار الحريري بالاستقالة ليس وليد الأمس، بل انّ ما حصل في الشارع عَجّل به، اّلا انه قرار مُتّخذ منذ بدايات الحراك، وقد أوحى الحريري به حينما أعلن عن مهلة الـ 72 ساعة التي منحها لشركائه في الحكومة لتقديم تنازلات، أو بمعنى أدق خطوات تقنع المحتجّين في الشارع.
وأشارت المصادر الى انّ القرارات الاخيرة التي أعلنها الحريري بعد جلسة مجلس الوزراء الاخيرة، واعتبرت قرارات إصلاحية، عوّل عليها بأنها قد تُقنع المحتجين في الشارع، الّا أنّ ردة الفعل عليها جاءت عكسية، فسعى لإجراء تعديل حكومي «نَوعي» يحتوي الشارع، الّا انه اصطدم برفض رئيس الجمهورية.
ورفضت مصادر قريبة من الحريري توصيف استقالته بـ«الهروب من المسؤولية»، مؤكدة «انّ رئيس الحكومة جهد في الآونة الاخيرة في محاولة تدوير الزوايا، وبَلورة مخارج للأزمة الحالية، الّا أنها اصطدمت بالاعتراض عليها، فكان لا بد له من أن يُبادر الى هذه الصدمة، التي ينبغي على سائر المكونات السياسية ان تقاربها على انها صدمة إيجابية، يُصار من خلالها الى بلورة حلول سريعة، وتشكيل حكومة جديدة بحجم الازمة، وهذه مسؤولية الجميع من دون استثناء.
وعمّا اذا كان الحريري مرشحاً لترؤس الحكومة الجديدة، قالت المصادر: «لا نريد استباق الامور، فالرئيس الحريري قدّم استقالته الى رئيس الجمهورية، ويجب انتظار ما سيصدر حيالها من قصر بعبدا، علماً انّ استقالة نهائية».
قبول الاستقالة
الى ذلك، ومع تأكيد الحريري انّ استقالته نهائية، وانه يعتبرها نافذة منذ لحظة إعلانها، فإنّ المنتظَر أن يصدر بيان عن رئاسة الجمهورية، ربما اليوم، يُعلَن فيه قبول رئيس الجمهورية استقالة الحريري، ويدعو الحكومة الى تصريف الاعمال الى حين تشكيل الحكومة الجديدة، على أن يصدر في وقت لاحق بيان ثان لرئاسة الجمهورية، تحدّد فيه موعد الاستشارات النيابية الملزمة التي سيجريها الرئيس لتكليف الرئيس الجديد لتشكيل الحكومة قبل نهاية الاسبوع على الأرجح. ولاحظت مصادر سياسية انّ تحديد الموعد ينتظر أن يقترن بفتح الطرق وإخراج المحتجّين من الشوارع، تسهيلاً لوصول النواب الى القصر الجمهوري للمشاركة في استشارات التكليف، وكذلك تسهيلاً لوصول النواب الى المجلس النيابي في ساحة النجمة للمشاركة في استشارات التأليف التي سيجريها الرئيس المكلّف.
وحول عدم صدور بيان رئاسي بعد يقبل الاستقالة ويكلّف الحكومة المستقيلة بتصريف الاعمال، قالت اوساط وزارية قريبة من بعبدا لـ«الجمهورية» ان «ليس هناك أي نص دستوري مُلزم بمثل هذه الخطوة».
ولفتت الى انّ هذا البيان المنتظَر سيصدر صباح اليوم على أبعد تقدير، بعد انتهاء بعض المشاورات التي يجريها رئيس الجمهورية مع مستشاريه والأصدقاء والحلفاء السياسيين، وذلك قبل الدعوة الى الإستشارات النيابية الملزمة الي يمكن إجراؤها في يوم واحد.
وحول المواد الدستورية التي تراعي حالة استقالة رئيس الحكومة، قال مرجع دستوري لـ«الجمهورية» انّ المادة 69 في الدستور واضحة، عندما حدّدت في البند الأول منها انّ الحكومة تعتبر مستقيلة «إذا استقال رئيسها»، سواء أعلن ذلك من قصر بعبدا او لم يحصل، فالإستقالة باتت خطوة دستورية كاملة لا نقاش فيها، ولا أهمية للحديث عن احتمال رفضها.
كذلك قالت الفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور انه «لا تمارس الحكومة صلاحياتها بعد استقالتها الّا بالمعنى الضيّق لتصريف الاعمال». وقال البند 2 من المادة 53: «يقوم رئيس الجمهورية باستشارات نيابية ملزمة يطلع عليها رئيس مجلس النواب، وبعد التشاور معه يسمّي رئيس مجلس الوزراء».
وقالت الفقرة 3 من المادة 69: «يكون مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية الى حين تشكيل حكومة جديدة ونيلها الثقة». كذلك قالت الفقرة الثانية من المادة 53 الآتي: «يصدر رئيس الجمهورية منفرداً مرسوم قبول استقالة الحكومة».
«الكتائب»
إلى ذلك، سيعقد رئيس حزب الكتائب اللبنانية مؤتمراً صحافياً اليوم، يؤكد فيه على أن الإنتصار الذي تحقق هو انتصار للناس وللبنان في ذكرى المئوية الأولى على إعلان دولة لبنان الكبير. كذلك سيتطرق إلى خريطة طريق سياسية ودستورية للخروج من الأزمة، والى الإعتداءات التي تعرّض لها المتظاهرون والمعتصمون قبيل إعلان الرئيس الحريري استقالته.
وسيطمئِن الى أن لا التهويل بالفوضى على الأرض يُمكن أن يُغيِّر إتجاهات الناس، ولا التهويل بالفراغ يستند الى أي مُعطى دستوري، وإنما هو وسيلة ضغط يمارسها أركان منظومة التسوية المترنحة في مكابرة لعدم الإعتراف بالفشل، وقرب موعد السقوط.
مالك
وفي هذا السياق قال الخبير الدستوري المحامي سعيد مالك لـ«الجمهورية» انّ «الثابت الوحيد في هذه الاستقالة أنها نهائية ونافذة، وبالتالي لا دور لرئيس الجمهورية في قبولها او رفضها، وإنّ ما فعله الحريري هو أنه أبلغ الى رئيس الجمهورية كتاب استقالته على سبيل الإعلام، وبالتالي ليس هناك من مهَل لهذا الأمر. فالحكومة اليوم هي في حالة تصريف أعمال عملاً بأحكام الفقرة 2 من المادة 64، واستناداً الى ذلك ليس هناك اي صلاحية لرئيس الجمهورية برفض هذه الاستقالة التي هي نهائية ونافذة من تاريخ إعلانها شفوياً على لسان رئيس الحكومة، وتسليمها بموجب كتاب خطي الى رئيس الدولة».
الجمهورية