مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده قداس الاحد في كنيسة مار جاورجيوس، حيث ألقى عظة قال فيها: “مرات كثيرة يتم لقاؤنا بالمسيح في خضم عواصف الأحوال السيئة والظروف الصعبة. يتم هذا اللقاء على أرض لا يثبتها غير الإيمان. فقلة الإيمان تفتح الهوة العظيمة وتغرق كل من يوجه انتباهه نحو الرياح المعاكسة، فيرى فقط هيجان عناصر الطبيعة، ويشك بقوة الكلمة التي أبدعت الطبيعة. إن لقاء المسيح في التجارب الكبيرة يحتاج جرأة ونكرانا للذات. في إنجيل اليوم التلاميذ لم يعرفوا وجه معلمهم داخل اضطراب الموج، وقالوا إنه خيال فصرخوا من الخوف. نحن لا نستطيع أن ندرك، بسهولة، وجه المسيح البهي في خضم الأحوال الصعبة، لأن حضوره يخيفنا. نقاوم رؤيته بالصراخ عوضا عن الصلاة، وبصوت الفزع واليأس اللذين لا يأتيان بنتيجة. هذا ما تفعله الغالبية العظمى من شعبنا حاليا. صحيح أننا وصلنا إلى حال تشبه الجحيم، لكن علينا ألا ندع اليأس يغلب الرجاء الذي فينا. القديس سلوانس الآثوسي وصل إلى حال يأس مدقع، لكن الرب قال له: إحفظ نفسك في الجحيم ولا تيأس. من يضع اتكاله على الرب لا تهزه أمواج هذا العمر أو تخيفه. طبعا، ما يتحمله اللبناني، منذ عقود، والذي وصل حاليا إلى أوجه، لا يستطيع أحد أن يتحمله: فقر، مجاعة، ظلمة شاملة، فساد ضخم، وغيرها من الأوزار والأعباء، إلا أننا نقرأ ما أنشده النبي داود في سفر المزامير معزيا وقائلا: إن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا، لأنك معي (23: 4). طبعا، المسيح لا يتركنا في اضطراب أمواج الحياة، بل يعطينا الشجاعة بكلمته كما سمعنا في الإنجيل: ثقوا، أنا هو، لا تخافوا. في هذه الحالة، نحتاج إلى مجازفة الرسول بطرس الجريئة: يا رب، إن كنت أنت هو، فمرني أن آتي إليك على الماء (مت 14: 28). ليست كلمة الرسول بطرس هنا تعبيرا عن نقص في الإيمان، بل هي تعبير عن الإيمان والمحبة. رغب في لقاء معلمه، لكن الخوف من الضلال حد من شوقه، لذلك تفحص حقيقة الأمر الظاهر”.
وتابع: “بدأ بطرس يفهم، في تخبط الأمواج، بعض خفايا محبة المسيح غير المدركة. طلب عطية الله التي تزدري بالمخاطر، وفي الوقت نفسه أخرج ذاته من أمان المركب إلى هياج الأمواج. إن جرأة الرسول بطرس، المليئة بالمجازفة، وقد خاطر بحياته لكي يلتقي بالمسيح، ترسم معالم مسيرتنا الروحية، في خضم حياتنا اليومية الهائجة المليئة بالمخاطر المفاجئة. السؤال المطروح اليوم: لماذا لا يهرع شعبنا، في غمرة كل المصائب المحيطة به، إلى لقاء الرب القائل: تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم؟ ألا يمكن أن يكون ما تمر به بلادنا، وسائر بلاد العالم، بسماح من الرب كي يوقظنا من السكرة التي كنا نعيشها بعيدين عنه؟ ألا يمكن أن يكون درسا في الشكران، لأننا لم نعتد أن نشكره على شيء مما كنا نملكه عطية منه؟ ألا يمكن أن يكون درسا في من هو الإله الحقيقي، وأن كل ما ومن يعبده البشر من آلهة كالممتلكات والمراكز والزعماء، ليست سوى أمور مضلة يتوسلها الشيطان في إبعاد عبيد الرب عن طريقه الخيرة؟ في الكتاب المقدس، تدخلات كثيرة للرب بهذه الطريقة من أجل خير الشعب، خصوصا في سفر النبي هوشع، حيث تبع الشعب الأوثان، واعتقد أنها هي التي تمنحه كل الخيرات لا الرب، حينئذ منع الرب خيراته عن شعبه حتى يستيقظوا ويعرفوا أنه هو الوحيد الذي يمنحهم كل خير دون أن يستعبدهم، على عكس الآلهة الوثنية. أليست هذه حالة بلادنا، حيث ترك الجميع الرب وتبعوا زعماء كذبة، لا يهتمون إلا لمصالحهم”.
أضاف: “هل الزعماء هم مصدر الطعام والدواء والخبز والماء لكي يمنعوه عن الشعب؟ هل هم أصحاب النفط والمازوت والموارد الطبيعية ليمنعوها عن الشعب؟ أليس الرب هو من منح البشر كل الخيرات؟ فكيف يستعبد الشعب نفسه لبشر نصبوا أنفسهم آلهة، وينسى أن الله هو الإله الحقيقي؟! المطلوب من الشعب حاليا قفزة مثل قفزة الرسول بطرس داخل بحر هذا الوضع الهائج في بلدنا. يجب أن يساعد شعبنا مسؤوليه على الإستيقاظ من وهم السلطة، لأن المسؤول الحقيقي ليس إلها يستعبد الشعب ويقاصصه ويجوعه ويميته بلا دواء أو غذاء. المسؤول الحقيقي هو خادم للشعب الذي انتخبه وأوكل إليه مهمة العناية بأموره المالية والصحية والغذائية والتربوية… نحن في دولة لا تستطيع تأمين الضروري للعيش الكريم، والشعب يتخبط في آلامه ويأسه فيما ذوو السلطة يتنافسون على تقاسم قالب حلوى الحكومة الذي أصبح بلا طعم، مختبئين وراء شعارات عناوينها لافتة لكن مضمونها ضحل، لأنها تهدف إلى المصلحة الشخصية أو الحزبية أو الطائفية وما تستتبع من زبائنية تعيق الحكم عوض تسهيله. الإجتماعات لا تهم اللبناني الذي يريد أن يطعم أولاده ويضيء لياليهم. الشعارات لم تعد ذات معنى فيما الدولة تذيق أبناءها العذاب والذل والموت. سيتحول لبنان كله إلى رماد بعد بيروت وعكار، والزعماء ما زالوا يجتمعون ويصرحون. شعب لبنان ليس منذورا للموت أو للتصدير. شعب لبنان يستحق الحياة وقد خلقنا الله لنحيا حياة كريمة مكللة بالفضائل ومتعالية عن كل ما يعيق الإتجاه نحو الله. ربما آن الأوان ليتذكر شعبنا صرخة الإستغاثة التي أطلقها بطرس: يا رب نجني، وأن ينسى صرخات الذل التي عوده المسؤولون على إطلاقها من أجل الحصول على أدنى الحقوق الإنسانية”.
واذ شكر للجيش “الجهود التي بذلها في الأيام الماضية ودهم المحطات وأماكن تخزين المحروقات، ذكر أن “دوره ليس ضبط المحطات بل ضبط الحدود، كل الحدود، ومنع إخراج أو إدخال أي شيء ممنوع إدخاله أو إخراجه عبر هذه الحدود، حماية للوطن والمواطنين التي هي مهمته وحده. فيما واجب الدولة وضع حد للتجار والمحتكرين والمهربين ومنعهم من استغلال المواطنين”.
وقال: “نحن نطلب إلى الله ألا يدخلنا في التجربة، لكن التجارب مهمة في الكثير من الأحيان، والجواب على هذا الأمر سمعناه في نص رسالة اليوم: “إن عمل كل واحد منا سيكون بينا، لأن يوم الرب سيظهره، لأنه يعلن بالنار، وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو. فمن بقي عمله الذي بناه على الأساس فسينال أجرة، ومن احترق عمله فسيخسر وسيخلص هو ولكن كمن يمر في النار”. التجارب التي نمر بها هي نار تنقينا، والله يسمح بها إن كانت لخلاص نفوسنا، وليس لأنه إله قاس. الأب يقسو أحيانا على أبنائه، ويجعلهم يمرون في صعوبات، لكي يدربهم على كيفية اجتياز الأصعب بنجاح. لذلك يجب علينا ألا نلوم الله، بل أن نشكره على كل شيء، وعندما نتعلم أن نشكر تتدفق علينا مجاري النعم الإلهية. كل هذا يتطلب جرأة ونكرانا للذات. ولكي ينبت الإيمان فينا علينا أن ننقي أنفسنا من التعلق بالأشياء والأفكار والزعماء. نحن بحاجة إلى الإنعتاق من الفزع الذي تخلقه محبتنا الكبيرة لأنفسنا، عندما نواجه المخاطر، الأمر الذي ترجم أخيرا من خلال طوابير الإذلال التي أنتجها المواطنون أنفسهم، بسبب الخوف الأناني الذي قد يكون أحيانا أكبر من الحاجة الحقيقية. من الضروري جدا أن يتعلم الشعب المجازفة من الرسول بطرس. جازفوا في عدم إذلال أنفسكم للحصول على أدنى حقوقكم، قاطعوا المحتكرين والمتحكمين بحياتكم عوض مقاطعة الله، وسترون كيف سيهرعون هم تجاهكم. كيف نقاطع خبز الحياة، المعطي الطعام لطيور السماء والجمال لأزهار الحقول، الذي لن ينسانا؟ كيف نقاطع إلهنا الذي أعطانا الحرية الكاملة، ونهرع خلف مستعبدينا ومذلينا؟ ألم يحن الوقت لتصويب البوصلة؟ الحضن الأبوي مفتوح دائما، بينما مكاتب الزعماء تفتح فقط عند حاجتهم”.
واعتبر أن “الإيمان يغذي الجرأة، لأن المؤمن لا يخاف شيئا أو أحدا لأن الله يعضده. كما أن الجرأة تفعل الإيمان وتجذب نعمة الله. طبعا، لا نعني بالجرأة الوقاحة التي يولدها عدم الإيمان. الإيمان يحمل المحبة داخله، وهذان لا يتركان للوقاحة والجبن مكانا”.
وشدد على أن “الله يدعونا لأن نثق به ونحن نراه خيالا بعيدا. مع ذلك نستعجله ليخلصنا لأننا نكاد نغرق في المصاعب والخطايا. قد يتأخر، أو إنه لحكمة ما لا يستجيب. لكن الأكيد أنه سامع ومجيب في الوقت المناسب”.
وتابع: “قال بطرس ليسوع: يا رب، إن كنت أنت هو فمرني أن آتي إليك على المياه. بطرس الصياد كان بالطبع سباحا ماهرا ومع ذلك خاف من شدة الريح وخشي الغرق. عندما رفع عينيه عن يسوع وتطلع إلى الموج العاتي بدأ يغرق. هكذا نحن الذين نجاهد في حياتنا الروحية، نخاف كثرة خطايانا ونظن أننا أضعف من أن نتغلب عليها لأننا عوض أن ننظر إلى وجه يسوع نتطلع إلى قباحتنا فنسقط في اليأس ونغرق”.
وختم عوده: “لنتذكر أن نتيجة شك بطرس كانت صرخة صلاة: يا رب نجني. يعلمنا بطرس كيف أن لجة التجارب التي تحاول إغراقنا، تصبح من جديد أرضا ثابتة. الصلاة تتحدنا بالمسيح، وتحولنا من أناس خائفين إلى أناس جريئين، وتنجينا من الغرق، وتصلح عدم إيماننا بإظهار الإيمان الذي يصنع العجائب. لذلك، المطلوب في هذه الأيام السوداء أن نظهر إيمانا ولو بقدر حبة الخردل، ولنترك الباقي لخالقنا الذي لن يتخلى عنا. لا تيأسوا، جاهدوا في الحفاظ على أنفسكم في الإيمان، لا خارجه، وثقوا فقط بالرب المنجي من الغرق، آمي