مجلة وفاء wafaamagazine
في بلد كالصين، لتلوّث الهواء تبعات دراماتيكية. فقد يؤدّي «الضباب الدخاني»، الذي اجتاح عام 2013 عشرات المدن الصينية، إلى إقفال المدارس والمصانع، وفرض «حجر منزلي» من نوع آخر، وإزهاق أرواح آلاف الأشخاص يومياً. غير أنه خلال السنوات الماضية، لم تَعُد تُلحظ صور المدن الصينية الغارقة في موجات الضباب الدخاني. كما انخفض عدد الوفيات من جرّاء تلوّث الهواء بشكل لافت، نتيجة «ابتكارات صينية» في مكافحة تَغيّر المناخ.
قيادة المعركة
في عام 2020، أصبحت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس السابق، دونالد ترامب، الدولة الأولى التي تنسحب من «اتفاق باريس» لمكافحة تغيّر المناخ. وبحسب مجلة «نيتشر» البريطانية، عُرفت تلك الفترة بصعود القادة الشعبويين في العالم، والذين، في حال أقرّوا بوجودها، لا يَعتبرون ظاهرة تغيّر المناخ أو التحوّل إلى الطاقة البديلة من أولوياتهم. وحتى مع انتخاب الرئيس الأميركي الديمقراطي، جو بايدن، وعودته إلى اتفاق باريس، فإن تعهداته حول مكافحة الظاهرة ما زالت تصطدم بالانقسام السياسي الحادّ في الكونغرس.
فعلى سبيل المثال، وبالرغم من أن الولايات المتحدة شهدت خلال الأيام الماضية، وفترة الصيف بشكل عام، عدداً من الكوارث الطبيعية التي أودت بحياة المئات، من موجات حرّ وحرائق وفيضانات وأعاصير، أعادت مشكلة المناخ إلى الواجهة بقوة، لا يزال هنالك إجماع بين الجمهوريين على الاعتراض على مخطّط بايدن لإنفاق 3.5 تريليون دولار للحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة، وطرح برنامج يهدف إلى استبدال معظم المحطات التي تعمل بالفحم والغاز، بتلك التي تعمل بالرياح والطاقة الشمسية والنووية، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز». تزامناً مع الفترة المشار إليها، اتّخذت الصين، المسؤولة منذ عام 2006 عن أكبر نسبة انبعاثات كربونية في العالم، على عاتقها مهمّة قيادة المعركة ضدّ ما يعتبره العلماء أخطر كارثة صحية على البشر في عصرنا الحالي.
وقد تعهّد الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، العام الماضي، بأن الصين «ستصبح خالية تماماً من الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2060». وسرعان ما انعكس ذلك انخفاضاً واضحاً في هذه الانبعاثات، كما في عدد الوفيات الناتجة من التلوث في البلاد.
في الواقع، قد يكون “الإدمان الصيني” على الفحم الحجري، في بلد يستهلك، وحده، كمّية منه تفوق تلك المستخدمة في جميع أنحاء العالم، أكبر التحدّيات أمام خطط الصين الطموحة. وفي السياق، تؤكد المديرة الاستراتيجية رفيعة المستوى، في «مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية»، بربارا فينامور، لشبكة «سي أن بي سي»، أنه «منذ عام 2001، أي عقب انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، ازداد استهلاكها للفحم الحجري ثلاثة أضعاف، لكي تتمكّن من تحقيق معجزتها الاقتصادية»، لافتة إلى أنه «بالرغم من أن هذا النهوض أسهم بانتشال مئات ملايين المواطنين من براثن الفقر، فإنه فرض تبعات بيئية مدمرة». وتتابع أنه في عام 2013، أي حين «لم يعد بمقدور الناس التنفّس في الشوارع الصينية، اعتزمت الصين تقليص استهلاكها للفحم الحجري».
آنذاك، أعلنت الحكومة إنفاق نحو 277 مليار دولار لخفض نسبة تلوث الهواء، من خلال خفض استهلاك الفحم الحجري في بكين، والانبعاثات الناتجة من السيارات، وهو ما مهّد لانضمامها، في عام 2015، إلى «اتفاق باريس» لتغير المناخ، بحسب الشبكة. كذلك، زادت الصين من توجّهها نحو الطاقة البديلة، لتصبح، حالياً، المستثمر الأكبر في هذه الطاقة في العالم. فهناك، ثمّة ما يصل إلى 98 في المئة من مجموع الباصات الكهربائية في العالم، ونصف السيارات الكهربائية المُصنّعة فيه، وواحدة من بين كلّ ثلاثة «توربينات رياح». كما تعدّ الصين حالياً المُصنّع الأول لألواح الطاقة الشمسية، وبطاريات “الأيون الليثيوم» والسيارات الكهربائية، بحسب شبكة «سي أن بي سي».
بشكل عام، تشكل الطاقة البديلة نسبة 13 في المئة من مجموع الطاقة المستهلكة في الصين، أي ما يفوق الولايات المتحدة، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وقد تعهدت بكين بجعل النسبة 20 في المئة بحلول عام 2030. أما النتيجة، فانعكست انخفاضاً في نسبة الوفيات بسبب التلوث، إلى مستويات ما قبل عام 1990، بعدما كانت قد بلغت ذروتها في عام 2013. وبين عامي 2013 و2017، نجحت الإجراءات الصينية الحازمة في خفض تلوث الجسيمات، وهو تلوث ناتج من خليط من جسيمات دقيقة جداً ورذاذ، إضافة إلى مواد كيماوية في الجو، يتسبّب لدى استنشاقه بأضرار بالجهاز التنفسي، بمعدل 33 في المئة في 71 مدينة أساسية، بحسب صحيفة «ذي غارديان» البريطانية.
وأعلنت وزارة البيئة الصينية، في آذار، أن كثافة الكربون انخفضت بنسبة 18 في المئة، خلال السنوات الخمس الماضية. أما في المنازل، فكانت 61 في المئة من العائلات تعتمد على الفحم الحجري والأخشاب في الطهي، وقد انخفضت نسبتها إلى 31 في المئة بين عامي 2005 و2017، وفق ما تذكر الصحيفة البريطانية. وبعدما حرصت الحكومة على دعم سيارات الطاقة البديلة، «رمت كبرى شركات السيارات الصينية بالمحركات التقليدية في الخردة، وأنفقت ملايين الأموال على صناعة السيارات الكهربائية»، على حدّ تعبير صحيفة «غلوبال تايمز». وأبعد من ذلك، جعلت الحكومة لوحات أرقام السيارات الكهربائية مجانية، يقابلها فرض معاملات صعبة ومكلفة للحصول على لوحة للسيارة العادية، ما جعل من المتوقع أن تفوق مبيعات السيارات الكهربائية الـ2.2 مليون سيارة هذا العام.
آخر الحلول الصينية
وإلى جانب الاستثمار في الطاقة المتجددة، أطلقت الجمهورية الشعبية أخيراً مجموعة مبادرات لتحقيق تطلعاتها البيئية. وأبرزها:
القطارات المعلقة
في شهر آذار، كشفت الصين عن نظام «النقل المغناطيسي». فظهر أول قطار مغناطيسي معلق، يمكن أن تصل سرعته إلى 600 كيلومتر في الساعة، وهو أسرع مركبة أرضية في العالم حتى الآن. وباستخدام القوة الكهرومغناطيسية، يمكن للقطار أن يقلّص مدّة السفر بين بكين وشنغهاي إلى ساعتين فقط. ويعدّ هذا النظام إنجازاً عظيماً في مجال التكنولوجيا والهندسة، ومن شأنه، بمساعدة سكك القطارات السريعة الممتدة في جميع أنحاء البلاد، بطول 40 ألف كيلومتر، والتي تسهم في الحد من الرحلات الجوية وقيادة السيارات لمسافات طويلة، خفض استخدام الوقود الأحفوري وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون بشكل جذري.
أكبر سوق للكربون
أطلقت الصين رسمياً، في تموز، «السوق الوطنية الصينية للكربون»، وهي أكبر نظام لتداول الانبعاثات (ETS) في العالم، وفق ما أفادت به صحيفة «غلوبال تايمز». وبذلك، ستكون السلطات المحلية، للمرة الأولى، قادرة على تحديد حصص الانبعاثات المسموح بها في محطات توليد الطاقة الحرارية. وعبر هذه السوق، تشتري الشركات ما يعرف بـ«حقّ التلوث»، وهي كمية ثاني أوكسيد الكربون التي يُسمح لها بإصدارها. وفي حال تجاوزت الشركة الكمية المحدّدة، يُفرض عليها ما يعرف بــ«ضريبة الكربون» كنوع من الغرامة. ويتمّ تداول الكربون بين الدول عبر بيع «حصص الانبعاثات». فعادة ما يكون البائع من الدول أو الجهات ذات الانبعاثات المنخفضة، والمشتري من أصحاب الانبعاثات المتزايدة، ما يشجّع الشركات على اللجوء إلى حلول صديقة للبيئة، لتوفّر على نفسها كلفة شراء حصص الانبعاثات. وفي حين أن الفكرة ليست بجديدة، إذ اتبعها عدد من الدول قبل الصين، فالسوق الصينية هي الأضخم حتى الآن. وبحسب الصحيفة الصينية، فإن عدداً متزايداً من شركات الحديد والإسمنت ستنضمّ إلى هذه السوق مع مرور الوقت.
الغابات
أعلن مسؤول كبير في مجال الغابات، أواخر الشهر الماضي، أن الصين ستزرع 36 ألف كيلومتر مربع من الغابات الجديدة سنوياً، وهو ما يفوق إجمالي مساحة بلجيكا، اعتباراً من العام الحاليّ وحتى عام 2025، في إطار مساعيها لمكافحة تغيّر المناخ، علماً أنها تهدف إلى زيادة مساحة الغابات إلى 24.1 في المئة، بنهاية عام 2025، من 23.04 في المئة في نهاية العام الماضي، وفقاً لـ«خطة الغابات والأراضي العشبية الخمسية».
المعركة طويلة
بيد أنه، وعلى رغم جميع هذه المساعي، تبقى المعركة طويلة. فقد يتوجّب على الصين، كي تفي بتعهّداتها، أن «تضاعف استثماراتها في الطاقة الشمسية، وأن تزيد استثمارها في الرياح ثلاثة أو أربعة أضعاف، والتوجه نحو حلول جديدة كالرياح البحرية وتخزين الطاقة»، وفق ما تؤكد فينامور لصحيفة «ذي غارديان». يضاف إلى ذلك، أن نصف الفحم الحجري في الصين يُستثمر في الصناعات الثقيلة، إذ تنتج مصانعها نصف احتياجات العالم من الإسمنت والحديد، من دون توافر بدائل ذات كلفة مقبولة حتى الآن. لذا سيتوجب عليها بذل الكثير من الاستثمارات والجهود لتوفير بدائل للمصانع، كالهيدروجين الأخضر مثلاً، بدلاً من البناء المتزايد للمحطات العاملة بالفحم الحجري. غير أن فينامور تلفت، في المقابل، إلى أن هذه المهمة لن تكون تعجيزية بالنسبة للصين. في الواقع، لطالما نجحت بكين في خلق الحلول، وهي تفي، حتى الآن، بجميع تعهّداتها البيئية، وسط إجماع ضمن الدولة الواحدة على أن تغير المناخ هو ظاهرة علمية، لا نقاش فيها، وأن الحدّ منها يعني، ببساطة، إنقاذ البشرية، وإكساب الصين مزيداً من الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية في العالم.
الأخبار