مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل، قال في عظته: “واجه المسيح، عند باب مدينة نايين، أحد أصعب مشاهد الحياة البشرية: إمرأة أرملة ترافق ابنها الوحيد الميت إلى القبر. في لحظات كهذه، يصعب الكلام مع المحزونين، لذا لم يقدم الرب خطابات رنانة عن الموت والخطيئة وكل ما يرتبط بهما من مفاهيم في المجتمع اليهودي، لكنه تقدم من الأم المفجوعة وقال لها: لا تبكي. الرب يسوع لم يكن وحيدا بل الكثير من تلاميذه وجمع غفير كانوا معه، كما يقول الإنجيل، وكأن مشيئة الرب هذه المرة أن يكون للآية التي يعتزم القيام بها شهود كثيرون. المعجزة هنا ليست شفاء كسابقاتها بل إقامة ميت. والرب يسوع لا يستجيب لطلب بل يبادر. يقول القديس غريغوريوس النيصصي إن السيد يظهر لنا بهذه الآية قوة الحياة الكامنة فيه، ومنحة القيامة التي يهبنا إياها”.
أضاف: “تحنن المسيح على المرأة الباكية، وكان بكاؤها نتيجة الحزن العميق وقد فقدت وحيدها وهي أرملة. عندما نقرأ عبارة تحنن في الإنجيل، وهي ترد عدة مرات، نجدها مرتبطة بالمسيح فقط، الذي هو المتحنن. طلب الرب من المرأة أن تتوقف عن البكاء، وكان يهيئها للحدث الذي سيلغي حزنها. لم يكن كلامه فارغا، ولا كانت تعزيته وهمية، فهو المسيح، الطريق والحق والحياة، وعندما تتقابل الحياة مع الموت، لا بد لها من أن تشرق وتحول حزن الفراق إلى فرح قيامي. كلمات المسيح حملت معها التعزية، لأنها انبعثت ممن هو القيامة والحياة. إنجيل اليوم يعطينا فرصة لتعلم كيفية مقاربة البشر المحزونين، الأمر المهم جدا في عمل الكنيسة الرعائي. إن قيامة المسيح هي أساس كنيستنا، وفعلها هو إبطال الموت الروحي، أما عقيدتها فهي الإيمان بقيامة الأجساد المائتة. إذا، لا تحاول الكنيسة أن تجعل الناس ينسون الموت، بل تساعدهم على أن يتخطوه. لا تهدف فقط إلى جعلهم متزنين نفسيا، بمساعدتهم على تقبل واقع الموت كأمر طبيعي، بل تعلمهم طريقة تجاوزه إلى حين إبطاله في اليوم الأخير. فالموت عدو، وهو آخر عدو لحياتنا سيبطل، كما يقول بولس الرسول (1كو 15: 26). نحن نأتي إلى الكنيسة لكي ننعتق منه منذ الآن، إلا أنه سيكتمل بالقيامة العامة لأجساد الموتى في المجيء الثاني للمسيح”.
وتابع: “تحنن المسيح واقترب من الأرملة. هكذا علينا أن نقترب من المحزونين بمحبة، مشاركينهم أحزانهم. لا نذهب لنتمم أحد واجباتنا الإجتماعية، بل نذهب لنشاركهم حزنهم، ولكي نبكي مع الباكين (رو 12: 15). الموت سر. تجاه هذا الحدث الذي لا مفر منه لدى الناس جميعا، يتزعزع كيان الإنسان الجسدي والنفسي ويضطرب. هذا أمر طبيعي وهو خاصية الطبيعة التي تقاوم الإنحلال. يتألف الحزن من إحساس مضاعف: الإنفصال عن الشخص المحبوب، والإحساس بالجحيم مبتلعا الجميع، أي اليقين بأن هناك موتا، وأن الحياة البيولوجية تنتهي. عندئذ، يبدو كل شيء تافها لا معنى له، وينقلب مشهد الحياة كله. في هذه الحالة لا تلقى الخطابات الرنانة ترحيبا دائما، وفي بعض الأحيان تولد هذه الخطابات اعتراضا. أليس هذا ما حدث مع أهلنا في بيروت، الذين فجعوا بتفجير أودى بأحبائهم من أطفال وشباب وشيب، ومع هول الحدث، وعوض تعزيتهم والوقوف إلى جانبهم، استغل البعض الحدث الجلل ليطلقوا مواقف وخطابات بعضها لا يمت إلى الواقع ولا المحبة أو الرحمة أو التعزية، وبعضها الآخر مملوء حقدا ورسائل سياسية كان أهل الضحايا، ولا يزالون، في غنى عنها. كان الأولى بالمسؤولين لو نزلوا من عليائهم ووقفوا بصمت وخشوع إلى جانب المواطنين المتألمين، وكانوا الكتف التي يستند إليها. يا ليتهم تحننوا مثلما فعل الرب مع أرملة نايين، لكن بعضهم يمعنون في لمس الجرح العميق، جاعلين إياه ينزف أكثر، إما بعدم مثولهم أمام القضاء، أو من خلال تعطيل مسار التحقيق، متعللين بعلل الخطايا، وإما من خلال إخفاء الدلائل والحقائق لغايات في نفوسهم”.
وقال: “أمام الموت يقف الإنسان مذهولا، متأملا مغزى الحياة وسرها. تفقد الأشياء معناها عند الموت، ويدرك الإنسان أن كل شيء زائل وأن الوقت الذي يهدره سعيا وراءها يذهب هباء. لذلك عليه أن يستغل الوقت للقيام بالأعمال الصالحة والمفيدة، وعوض الشر والحقد والأنانية والإستغلال عليه ممارسة الفضائل وامتهان المحبة والتحنن والتضحية. المسيحي المؤمن يعرف أن الحياة هي فسحة ممنوحة لنا للتوبة والعودة إلى الله، وأن الوقت عطية ثمينة يجب ألا نضيعها بالإهتمام بالأمور الزائلة والفانية، بل علينا الانصراف إلى ما يؤدي بنا إلى الخلاص والحياة الأبدية. عندما يعي الإنسان هذه الأمور ويتأمل في أبعادها ربما قد يخفت صوت الشر، وتخف النزاعات والحروب، وتتراجع الجرائم، ويعود الإنسان إلى إنسانيته”.
أضاف: “أود أن أقرأ لكم هذا المقطع الإنجيلي: ثم انصرف يسوع من هناك وجاء إلى مجمعهم (حيث الفريسيون معلمو الشريعة أي القانون). وإذا إنسان يده يابسة، فسألوه قائلين: هل يحل الإبراء في السبوت، لكي يشتكوا عليه. فقال لهم: أي إنسان منكم يكون له خروف واحد فإن سقط هذا في السبت في حفرة أفما يمسكه ويقيمه؟ فالإنسان كم هو أفضل من الخروف؟ (وكم هو أفضل من القانون؟) إذا يحل فعل الخير في السبوت. ثم قال للإنسان مد يدك، فمدها. فعادت صحيحة كالأخرى (مت12: 9: 13)”.
وتابع: “لا يمكن أن نجعل حضور الله ملموسا عند الحزانى إلا من خلال الإيمان الذي لا يأتي عن طريق الكلام، بل عن طريق المحبة والمشاركة في الحزن. المحبة التي يلدها الإيمان الحقيقي هي أقوى من الموت، وكلمتها هي كلمة تعزية ورجاء، لا تجرح ولا تلهب الجراح، بل تبلسمها. إن كنيستنا المقدسة تود دائما أن ترسل كلمة صلاة إلى المحزونين، فهذه الكلمة يحتاجها ذوو الراقد، كما يحتاجها الراقد نفسه. من هنا، علينا أن نعتاد قراءة الكتاب المقدس، لكي يتجه ذهن الجميع نحو الله ونعرف ما هي مشيئته. الكنيسة تعلم الحاجات الحقيقية للنفس البشرية عندما تكون في الجسد، كما عندما تنفصل عنه. قال المسيح للأرملة: لا تبكي، ثم أقام ابنها الميت. لم يكتف بكلمة تعزية بل أراحها عن طريق الأعمال. هكذا علينا نحن أيضا، على قدر طاقتنا، أن لا نظهر تعاطفنا مع المتألمين بالكلام فقط بل أيضا بالأفعال، لأننا إن كنا نقوم بأعمال حسنة سوف يحسن إلينا الرب مكافئا إيانا. ولكي يجلب حضورنا تعزية للمحزونين، علينا أن نقبل تعزية الله إلى حد ما. علينا أن نختبر، ولو قليلا، الحزن الروحي الذي يقبل تعزية الله. القديس غريغوريوس بالاماس يجد في إقامة ابن أرملة نايين نموذجا لتجديد أذهاننا. إن نفسنا أرملة للختن السماوي بسبب الخطيئة، وعندما تندب ابنها الوحيد، أي الذهن، الذي يموت عن الأهواء محمولا خارج مدينة الأحياء، تقبل زيارة المعزي التي تمنح التعزية الأبدية. المتعزي من الروح القدس المعزي يستطيع أن يقدم تعزية حقيقية لإخوته البشر المحزونين، أما من لا يستطيع التفوه بكلمة تعزية، فعليه أن يبقى صامتا، متألما مع المحزونين، ومصليا، وذلك يكون أفضل من التفوه بكلام الجهل الذي لا يبني ولا يعزي”.
وختم: “يدعونا إنجيل اليوم أن نتعلم من الرب المتحنن كيف نحمل المحبة الحقيقية للجميع. قد نصادف أناسا أحزنتهم أمور كثيرة غير الموت، فلا نطلق العنان لفلسفاتنا البشرية منظرين عليهم لماذا يجب ألا يحزنوا، لأن ذلك لن ينفع. يجب علينا أن نستمع إلى تأوهاتهم بإصغاء شديد، وأن نقدم لهم يد المعونة، لأن الكلام من دون أفعال باطل. الرب طلب من الأرملة ألا تبكي، ثم أقام ابنها وقدمه لها حيا، مقرنا القول بالفعل، فأصبح فرحها كاملا في المسيح. هكذا، على كل إنسان مسيحي، أن يكون مؤمنا بمسيحه المتحنن، القائم من الأموات، وأن يكون حاويا في ذاته ذاك الفرح القيامي الذي لا يزول. عندئذ يستطيع أن يكون منارة مشعة بالفرح في كل زمان ومكان، ومساعدا في اضمحلال كل حزن ومسح كل دمعة”.