ليس من موت مجانيّ في مواجهة الظلم. لكن الموت يصبح مجانياً متى قرّر الطاغية مسح الدماء عن يديه بمنديل قداسة اخترعه لنفسه، وهو الذي يتخيّل أسطورته حيلةً للصعود الى السماء مرفوعاً فوق جماجم الضحايا.

هكذا كنت، ولا تزال. لا تهمّك الوجوه ولا الأسماء ولا بقية الأهل. هكذا هي حالك، منذ أن كتبت أولى قصائد الموت في محيط منزلك وقريتك ومنطقتك وأهلك الذين صلبتهم أحياء، ورميتهم في البحر طعاماً للقرش الساكن في جسمك. فأنت لست سوى نسخة من نار، تعيش على الحطام!


جبلتك تشكّلت من حقد وكره لكل شيء من حولك. لم تعرف يوماً سوى الصراخ في أودية تغزوها الغربان. هؤلاء هم رفاق دربك، وأنت مصدر رزقهم من جثث قتلاك التي تملأ الأمكنة حيث حللت. وفي كل مرة يحاول فيها الناس نسيان أفعالك، تصرّ على تذكيرهم بأصلك وفصلك ومبتغاك.


الصفح الذي أردته يوماً من الناس أخذته عنوةً باسم الحق العام المسلوب دوماً في بلاد الجنون المفتوح. تجاوز أولياء الدم عنك، وعرضوا عن مقابلتك بالعقل القبلي المسيطر على جوارحك. لكنك، في كل مرة، تعيد تذكير الناس بأنك لا تعيش من دون حقد ودماء، وأنك لا تتصور حياة من دون سلطتك القائمة على القهر بالقتل والحرق والتذويب… تفعل ذلك، وتنسب أفعالك الى ربّ لا يعرفه أحد غيرك. ولا تعرف سوى زرع الخوف في قلب كل من يسمع بك لأنك لا تعرف الى الصواب طريقاً، ولا يبدو أنك ستتعرف يوماً الى هذا الطريق.


يوم رفض سعد الحريري تنفيذ أوامر صاحب المنشار بافتعال فتنة دموية، خاصمته وحرّضت عليه الدب الداشر، ودعوت الى التخلص منه لأنه ضعيف لا يجيد القتل. ثم حاولت التطوع لأدوار كبيرة، رسمت الخطط، وعرضت المشاريع، وفي كل مرة كنت تشعر بأنك فاقد للشرعية الأخلاقية، وأن عمادتك لم تكن صالحة لمحو خطيئتك الأصلية، لم تجد سوى أن تعرض اليوم على أولياء الأمر من القتلة والمجانين، أنك الوحيد القادر على رمي النار والبارود وإحراق المكان. حتى عندما فكرت بحيلة الشارع المموّه، في كل تشرين، شعرت بأن البساط قد يُسحب من تحتك لأن الناس الأصليين لا يقبلون بك شريكاً، فصار حقدك يكبر، وصرت تبحث عن ضربة تصيب بها أهدافاً عدة: تعيد تثبيت أوراق اعتمادك لدى السعودية، ومن خلفها الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون والألمان وكل مجانين العالم، وتعيد فرض جدول الأعمال الدموي على قسم من الناس يدّعون النطق باسم ربهم الأعلى. وفوق ذلك، تستجدي الدماء من أجل استحضار ما تعتقد أنها جيوش الأرض الزاحفة لنصرتك. وحتى لو اكتشفت أنك واهم، فلن تراجع نفسك، ولن تقبل بأقل من نهر من الدماء قرباناً لآلهة الموت التي تعبدها.


لذلك، كنت يا سمير جعجع أول من يعلم بما حصل أمس. ليس بذكاء لم تُعرف به يوماً، بل لأنك خطّطت وحضّرت ونفّذت جريمة تطابق ما فعلته منذ أن امتشقت السلاح. وهي جريمة كبيرة، وأكبر من كل الجرائم التي يجري استثمارها هنا وهناك، إذ تستهدف شن حرب أهلية واسعة. لكنها لن تحظى برجال ينسبون لأنفسهم صفة الأولياء الصالحين المرسلين من الرب لإنقاذ الناس من أرواحهم الشريرة!
وأنت لم تكن وحدك من يعلم بما حصل أمس.


كل الأجهزة الأمنية والعسكرية، من جيش وقوى أمنية وأجهزة استخبارات على أنواعها، كانت تعلم أيضاً.
قدّمت لهم ليل أول من أمس المعلومات المباشرة عما يجري على الأرض، عرضت لهم المعطيات حول السيارات التي استقدمت مسلحين من زحلة وكسروان ومن عناصر أمنية في معراب أيضاً. وقدّمت لهم المعطيات حول السيارات التي تجوب المنطقة من مار مخايل حتى سباق الخيل وفيها مسلحون تابعون لقواتك اللبنانية، وقدمت لهم المعطيات حول المسلحين المنتشرين عند مداخل الأبنية، وقدّمت لهم المعلومات التي تعرض من يخطط ومن يوزع المهام ومن ينشر العناصر.
الجيش فعل ما تفعله قوات الطوارئ الدولية في الجنوب. بدل أن تنتشر هذه القوات لردع العدو، تراقب المعتدى عليهم في الجنوب. هكذا، تماماً، فعل الجيش. بدل أن ينتشر قامعاً الوجود المسلح في عين الرمانة والمداخل المؤدية الى شارع سامي الصلح، انتشر في المناطق التي سيخرج منها المتظاهرون، وهو الذي كان يعلم مسبقاً بخط سير التظاهرة. وعندما جرى سؤاله قال إنه لم ير شيئاً. وكيف يرى إذا لم يكن قد نشر عناصره هناك أساساً. عندما بدأ إطلاق النار على المتظاهرين، ألم يكن هناك جنود ينتشرون في المكان؟ ألم تكن هناك عيون أمنية في المنطقة التي تضمّ قصر العدل والجامعة اللبنانية ومقار رسمية ومراكز قريبة من سفارات ومكاتب دبلوماسية؟ أليست تلك المنطقة التي ينتشر الجيش أصلاً فيها للفصل بين الشبان الذين يختلفون دائماً؟ وعندما بدأ إطلاق النار، وتحدّث الأمنيون عن قناصين، أين كانت طوافات الجيش، أم أنها مجهزة فقط لنقل الضيوف من عسكر الولايات المتحدة ومسؤولين لا يريدون التنقل بسياراتهم بين المناطق!


حتى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، الذي اشتهر بحرفية جعلته يتعرّف على تفاصيل الجرائم الكبيرة والصغيرة بسرعة البرق، والذي يمتلك شبكات من المخبرين والعاملين في تلك المنطقة وغيرها، ويعرف من خلال علاقاته مع أجهزة أمنية داخلية وخارجية ما يحضّر للبنان، وتعرف قيادته جيداً عقل «القوات اللبنانية» وطريقة تصرفها، كما تعرف ما هو المطلوب من جهات خارجية… كيف سيتصرّف اليوم؟ هل سيكون صعباً عليه اكتشاف ما حصل؟ وهل سيكون متعذراً عليه الوصول الى كاميرات أو استخدام داتا الاتصالات لكشف ما حُضّر له بعناية قبل ساعات طويلة، أم سيقف متفرجاً تاركاً الأمر لمخابرات الجيش خشية حسابات تتصل باعتبارات جهات تمون عليه سياسياً؟
وماذا عن أمن الدولة الذي يلاحق كل مخالفة بناء وكل مشكلة بين عاملة منزلية ورب عملها ويمتلك فرقة من المخبرين الذين وُظّفوا لأسباب سياسية أو أمنية، هل غابت عنه الحقيقة أيضاً، وماذا سيفعل؟


هؤلاء أيضا كانوا يعلمون!
وهناك أيضاً من كان يعلم ما يُدبّر في ليل ونهار، من رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود، ومعه أعضاء في المجلس، وقضاة كبار يتقدّمهم المحقق العدلي طارق البيطار، العالم بالقانون والجاهل بالسياسة وعلم الاجتماع، والخبير الروحاني الذي قرر أنه مكلّف من الرب بإنقاذ لبنان وأهله… ألم يكن هؤلاء يعرفون أن ما يقومون به سيؤدي الى ما حدث أمس؟ ألم يُقل لهم بوضوح إن التسييس الفاضح والغلوّ في خدمة الخارج سيقود الى مواجهات في الشارع، فلم يأبهوا، ويصلون الليل بالنهار لحماية مشروع لا نتيجة له سوى توريط البلاد في فتنة من بوابة تفجير المرفأ… نعم هؤلاء أيضاً كانوا يعلمون!


حتى من منعوا الحكومة من اتخاذ القرار المناسب في شأن المشكلة الأساسية في ملف تفجير المرفأ، والذين يقفون عند حسابات سياسية داخلية أو خارجية، من التيار الوطني الحر الذي يخشى على شعبيته في الشارع المسيحي، الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي التزم أمام فرنسا برئيسها ورئيس استخباراتها الخارجية بعدم الاقتراب من عمل المحقق العدلي، وصولاً الى السعودية التي بعثت إليه برسالة تبدي استعدادها لاستقباله، شرط أن تحدّد هي الموعد والطريقة ومستوى المسؤولين الذين سيلتقيهم، وقالت له سلفاً إنها تفعل ذلك تلبية لطلب الفرنسيين بعدما «طوشهم» برنار إيمييه الذي أبلغه السعوديون بوضوح أن «ميقاتي ليس رجلنا، كما أن الحريري لم يعد رجلنا»، وأنه «لا يوجد في بيروت سوى شخص واحد ينفذ ما نريد ويستحق الدعم هو سمير جعجع»… هؤلاء أيضاً كانوا يعلمون!
لكن، ما الذي يدفع هؤلاء الى التشارك، طوعاً أو غصباً، مجتمعين أو متفرقين، في هذا التجاهل الذي يؤدي الى جريمة بحجم تلك التي حصلت أمس؟ هل هو اعتقادهم بأن صمت المقاومة عما حصل في شويا، وعدم انجرارها للفتنة بعد جريمة خلدة، وصمتها عن كل موبقات إعلام طحنون وتركي آل الشيخ… هو علامة ضعف؟
من يقولون، بزهو ، إن «شراويل ثلاثة» هزت المقاومة في شويا، أو إن شيخاً مع بضعة صبية أذلّوها في خلدة، أو أن صليباً مشطوباً شقّ رقبتها في الطيونة… ألا يعرفون أن قواعد اللعبة ليست من صنعهم، وأنهم ليسوا سوى أدوات لتنفيذ ما تريده أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والسعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل!
وحتى لا يبدو الخارج كأنه مستثنى من المسؤولية المباشرة، هل يعتقد الأميركيون والفرنسيون والبريطانيون والألمان والسعوديون والإماراتيون، سواء في عواصمهم أو في سفاراتهم في بيروت، أنهم ليسوا شركاء كاملين في هذه الجريمة كما في غيرها، أو أنهم بعيدون عن الأعين التي تراقب ما يعملون عليه من فتن قادمة على شاكلة ما سبق في أكثر من منطقة ومع أكثر من جهة؟ والأهم، هل يعتقدون أنهم فوق المحاسبة وفوق دفع الأثمان؟
ربما من المفيد لفت انتباه من يهمّه الأمر الى أنه بعد كل ما حصل، منذ سنوات وحتى جريمة أمس، فإن قيادة المقاومة قررت مغادرة مربع الصبر، وهي تنتظر الآتي:


أولاً: إقفال ملف الجنون الذي يقوده طارق البيطار.


ثانياً: محاكمة من قرّر وخطّط ووزّع المهام ونفّذ عمليات القتل في الطيونة.


ثالثاً: محاسبة كل من أهمل وقصّر في حماية المتظاهرين العزّل.


أما من يحتاج الى شرح أكثر، فليس من الخطأ أن يقرأ الكتاب بوضوح أكثر أو أن يسمع ما فيه من وصايا: «سكوت صاحب الحق عن حقه، لهو قلّة دين وقصر في التعبّد، وأخذ الحق لا يكون بالتوسل، فإما عبر ما تقرّه الشرائع وإما باليد دون وسيط»!
صحيح أن أميركا، ومعها الغرب والسعودية ومجنون كسمير جعجع يصلّون الليل ليقع حزب الله في المحظور،
وصحيح، أيضاً، أن في لبنان قوى سياسية وعسكرية وأجهزة أمنية تفضّل الجلوس على التلّ والتفرّج علّها تكون المنقذ،
لكن الصحيح أيضاً، هو أن العقل أُعطي لمن يجيد استخدامه، فيعرف، كما في كل مرة، أن يصيب من يجب أن يصيب، من دون تحميل الناس من حوله أيّ مسؤوليّة!