مجلة وفاء wafaamagazine
أكملت الانتخابات المحلّية التي أُجريت في الجزائر قبل أيام، ترسيم الخارطة السياسية الجديدة في البلاد في فترة ما بعد الحراك الشعبي، والتي لم تختلف كثيراً عن نظيرتها القديمة، بفعل العودة اللافتة لحزب «جبهة التحرير الوطني»، الذي بات يسيطر على نحو رُبع المجالس المنتخَبة في البلاد
الجزائر | أُعلنت النتائج الرسمية الأوّلية للانتخابات المحلّية في الجزائر، من دون أن تَحمل مفاجآت كثيرة على صعيد الأحزاب الفائزة، إذ هيمنت 5 تشكيلات سياسية على أغلب مقاعد المجالس البلدية والولائية (المحافظات)، وفي صدارتها «جبهة التحرير الوطني» التي حصلت لوحدها على حوالى 6500 مقعد باحتساب كلّ المجالس، وهو ما يؤهّلها لقيادة العدد الأكبر من البلديات والولايات البالغ عددها 58 بعد التقسيم الإداري الأخير في البلاد. وتأتي هذه النتائج لتوضح معالم الخارطة السياسية الجديدة في الجزائر، والتي بدأت ترتسم مع الانتخابات التشريعية الأخيرة في حزيران الماضي، حيث حصدت «التحرير الوطني» المرتبة الأولى على صعيد الأحزاب السياسية، بعد المستقلّين الذين صعد نجمهم في تلك الانتخابات، بدعم واضح من السلطات التي شجّعت بقوّة دخول المجتمع المدني المعترك الانتخابي من أجل تجديد المشهد السياسي. لكنّ الجبهة عادت مع الانتخابات المحلّية لتنتزع الصدارة من المستقلّين، وتؤكد عودتها في ثوب القوّة السياسية الأولى في البلاد، على الرغم من الأزمات الكبرى التي اجتاحت هذا الحزب، خلال فترة الحراك الشعبي.
ولم تكن «التحرير الوطني» الحزب الوحيد الذي ثبّت أقدامه في هذه الانتخابات، بل سُجّل صعود لافت أيضاً لكلّ ما يُصطلح عليه في الجزائر بالتيار الوطني، الذي يضمّ الأحزاب الوطنية الجزائرية الموروثة عن حرب التحرير وسنوات الاستقلال، وهي أحزاب في معظمها منبثقة عن الجبهة، في فترة التعدّدية الحزبية التي أنهت عهد الحزب الواحد في الجزائر. ومن بين تلك الأحزاب، «التجمّع الوطني الديموقراطي»، الذي يوصف بـ«الابن غير الشرعي» لـ«التحرير الوطني»، وهو حزب ولد في ظروف خاصة سنة 1996، حيث كانت الجبهة تحت زعامة الراحل عبد الحميد مهري الذي رفض سياسة السلطة في ذلك الوقت، بعد وقف المسار الانتخابي سنة 1992 في الانتخابات التشريعية التي كان يتأهّب الإسلاميون للفوز بها. وفاز «التجمّع الوطني» في الانتخابات الأخيرة بالمرتبة الثانية، بعد حصوله على حوالى 5000 مقعد في المجالس البلدية والولائية، مستعيداً المكانة التي كان عليها قبل الحراك الشعبي. وضمن التيار نفسه، حقّقت «جبهة المستقبل» التي يقودها المرشّح الرئاسي السابق، عبد العزيز بلعيد، وأحد كوادر «التحرير الوطني» سنوات التسعينيات قبل أن ينشقّ عنها، المفاجأة بحصدها نحو 3500 مقعد، وهي نتيجة تضعها كقوّة سياسية ثالثة في البلاد. كما استطاع حزبا «صوت الشعب» و«الفجر الجديد» الحصول على نحو 1000 مقعد، ما يدعم هيمنة التيار الوطني على المشهد السياسي العام في الجزائر.
تُعتبر الانتخابات وما أفرزته من نتائج في مصلحة الرئيس عبد المجيد تبون
بالمقارنة مع التشريعيات، يبدو التراجع واضحاً في صفوف التيار الإسلامي الذي تدرّجت فيه حركة «مجتمع السلم» من المرتبة الثانية إلى الخامسة حزبياً، بعد نيلها 2059 مقعداً، متأخّرة حتى عن شقيقتها «حركة البناء الوطني» التي حسّنت من مرتبتها وحصلت على 2078 مقعداً، علماً أن الحركتَين تُمثّلان في الأصل حزباً واحداً أسّسه الراحل محفوظ نحناح، قبل أن يَحدث الانقسام بعد وفاته سنوات الألفين. وتختلف هاتان الحركتان سياسياً على رغم إيديولوجيتهما الواحدة؛ إذ اختارت «مجتمع السلم» صفّ المعارضة في البرلمان، عكس «حركة البناء» الموجودة ضمن الأغلبية الرئاسية. أمّا باقي الأحزاب المحسوبة على التيار الإسلامي، مثل «جبهة العدالة والتنمية» و«الحرية والعدالة» و«الإصلاح والنهضة»، فلا تكاد تَظهر في النتائج العامّة. وكانت هذه الأحزاب قد اشتكت في المرحلة القَبْلية للانتخابات، من إقصاء عدد كبير من مرشحيها، وهدّد بعضها بالانسحاب من المعترك الانتخابي، لكنّ هذا المبرّر لا يمكن اتّخاذه حجّة، كونه متقاسماً بين معظم الأحزاب المترشّحة. وتُظهر التجارب السابقة، أن الإسلاميين في الانتخابات المحلية ذات الطابع الخدمي، والتي تعتمد على شبكة العلاقات الواسعة داخل المدن والقرى، ليسوا بالفعّالية نفسها في الانتخابات التشريعية التي يحسنون فيها التسويق لبرامجهم.
ومن جانب التيار الديموقراطي، وهي التسمية الدارجة للتيار العلماني التقدّمي في الجزائر، نجحت «جبهة القوى الاشتراكية» في الحصول على نحو 1000 مقعد، على رغم مشاركتها في 7 ولايات فقط. وتُعتبر «جبهة القوى الاشتراكية» أقدم حزب معارض في الجزائر، حيث تأسّست سنة 1962 على يد الزعيم التاريخي، حسين آيت أحمد، وظلّت تحتفظ بخطّ راديكالي في معارضة النظام. وبرّر الحزب مشاركته في هذه الانتخابات بالرغبة في المحافظة على الوحدة الوطنية والتصدّي للحركة الانفصالية في منطقة القبائل التي تُعدّ معقلاً رئيساً للقوى الاشتراكية. ومن الواضح أن مشاركته قد فكّكت نسبياً من عقد المقاطعة الشاملة للانتخابات في المنطقة المذكورة، حيث تمّ تسجيل نسب تصل إلى 20% في ولايات تيزي وزو وبجاية والبويرة، بعدما كانت النسب تقترب من الصفر في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة. وعموماً، ظهر ارتياح من جانب رئيس السلطة الوطنية للانتخابات، محمد شرفي، إزاء نسبة المشاركة العامة التي بلغت 35%، بعدما لم تتجاوز 25% في التشريعيات واستفتاء الدستور، وهو ما كان متوقّعاً نظراً إلى طبيعة الانتخابات المحلّية المُحفّزة على التصويت، كون المواطن يتواصل بشكل مباشر مع المنتخب المحلّي. وعلى عكس موقف «جبهة القوى الاشتراكية»، قاطعت غالبية أحزاب التيار العلماني الانتخابات، وأبرزها «التجمّع من أجل الثقافة والديموقراطية»، والأحزاب المتكتّلة في مجموعة «البديل الديموقراطي»، وذلك على خلفيّة رفضها النهج السياسي الذي فرضته السلطة منذ فترة الحراك. وتعتقد هذه الأحزاب أن ما يحدث اليوم يشبه «الثورة المضادّة»، بعد عودة الحزبَين المهيمنَين في فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، «جبهة التحرير الوطني» و«التجمّع الوطني الديموقراطي»، للهيمنة على المشهد السياسي.
وعلى صعيد الراهن السياسي، تُعتبر الانتخابات وما أفرزته من نتائج، في مصلحة الرئيس عبد المجيد تبون، الذي تسيطر الأغلبية الرئاسية الداعمة له بشكل مطلق على المجالس المحلية، وقبل ذلك البرلمان. وفي تصريحاته الأخيرة، ذكر تبون أن هذه الانتخابات تمثّل آخر محطّة في بناء المؤسّسات الذي يتوّج مرحلة الإصلاح السياسي، وسيتلوها بحسبه البدء في الإصلاح الاقتصادي عبر مراجعة قوانين الاستثمار واعتماد إصلاحات هيكلية للخروج من التبعية المفرطة للمحروقات.
الاخبار