مجلة وفاء wafaamagazine
مضى الرئيس التونسي، قيس سعيد، في تنفيذ خطوات رزنامته السياسية، مع انطلاق عمليات بيضاء على الاستشارة الوطنية حول الإصلاحات الدستورية، والتي حرص القصر الرئاسي على إظهار متابعة سعيد بنفسه للتحضيرات الفنية والتقنية لها. ويأتي ذلك في وقت تشهد البلاد فصلاً جديداً من الأزمة السياسية، على خلفية اعتقال نائب رئيس حركة “النهضة”، نور الدين البحيري
تونس | انطلقت في تونس عمليات بيضاء على الاستشارة الوطنية حول الإصلاحات الدستورية، والتي دعا إليها الرئيس قيس سعيد، ضمن خطّة قدّمها الشهر الماضي، يُفترض أن تنتهي بانتخابات نيابية نهاية العام الحالي. العمليات حملت شعار “اختياركم قرارنا”، كرسالة من منظومة الحُكم الجديدة، بالتمايز عن المنظومة القديمة، أحادية القرار وعمودية السلطة. وتشمل الاستشارة محاور عن الإصلاحات التشريعية، التي بدا أنها تجاوزت ما توقّعه المتابعون من الاقتصار على مسائل دستورية مرتبطة بالنظام السياسي، إذ طالت مواضيع تتعلّق بالتعليم والصحة وجودة الحياة والشؤون الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية والانتخابية.
ولم تأخذ المنصّة حظّها من النقاش العام؛ فالمعركة التي أعلنها سعيد مع القضاء وهياكله، والجدل الدائر حول اعتقال القيادي في حركة “النهضة”، نور الدين البحيري، جعلا المسألة هامشية على رغم أهميتها. وبصرف النظر عن الجدل حول أمر صار واقعاً لا رجوع فيه على رغم المساعي الحثيثة لثنْي سعيد عن قراره، فإن مسألة الاستشارة برمّتها تدخل طوراً من الارتباك، من حيث استعمال وسيلة لا ديموقراطية (مرسوم صدر من دون استشارة أيّ مكون وطني) لتكريس نهج ديموقراطي وتشاركي في صناعة التشريعات، عبر تجميع مقترحات عموم المواطنين، ومن ضمنهم أولئك غير المتعلّمين الذين ستزورهم لجان مختصة لتجميع آراءهم. وربّما لو لم يكن تهافت منظومة ما قبل سعيد، وإفراغها مصطلح الإصلاحات من كلّ جانب تشاركي حقيقي، لما كان الاحتفاء لدى كثيرين بالاستشارة الإلكترونية؛ فالتونسيون لم ينسوا بعد أن تشريعات أساسية أملتها منظمات مانحة أو سفارات (القانون الأساسي للبنك المركزي، قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، قانون التقاعد الوجوبي…)، وأخرى أملتها تحالفات مع أصحاب المصالح على غرار الإصلاحات الضريبية التي دائماً ما ألقت على المواطن عبئاً جبائياً جديداً، ومنحت امتيازات ضريبية لقطاعات بعينها. أمّا الإصلاح التربوي، فقد عاشت تونس جولات عدة حول الموضوع نفسه، فيما لم تفضِ الجلسات التي كانت أشبه بالمهرجانات الخطابية إلى أيّ إصلاح يُذكر في المنظومة التربوية المتهاوية.
وبقدر ارتباك متابعي الشأن التونسي إزاء الاستشارة، وتحفّظاتهم على جوانب تقنية في بلد لا تزال تفصله عن عالم الرقمنة هوة فسيحة، كانت الرؤيا لدى المعارضة واضحة تماماً؛ فبالنسبة لها لا يمكن قبول “ما بُني على باطل” وفق تقديرها. وللتدقيق، فإن لقيس سعيد معارضين كثراً، يتوزّعون على تكتلَين واضحَين. الأول هو القوى التي سحبت منها تدابير 25 تموز الماضي امتيازاتها، وتمثل المنظومة السابقة، وتتصدّرها حركة “النهضة” وحلفاؤها منذ 2011، أو مَن انتفعوا من الاقتراب منها. ويميل مراقبون للشأن التونسي إلى اعتبار تلك القوى معارَضة وظيفية لم تكن لتملك الموقف نفسه لو وجدت مع سعيد اتفاقاً يبقي على امتيازاتها ويحفظ حصانتها. ولم تثمر محاولات هذه الفئة إحراج الطيف اليساري والعائلة الوسطية في البلاد، التكتّل المعارض الثاني، لجرّهما إلى التحالف معها والدخول في مبادرات مشتركة، على غرار “مواطنون ضد الانقلاب” أو “المبادرة الديموقراطية”، لأن الأخيرَين يعيان جيداً أن الأولى ستستخدمهما لإسقاط سعيد، ثمّ تعيد مناصبتهما العداء لاسترداد السلطة على شاكلة العشرية الماضية.
سعيد لا يأبه للمعارضين ويضعهم جميعاً في خانة العمالة والتخوين
وفي كلتا الحالتين، فإن سعيد لا يأبه للمعارضين، ويضعهم جميعاً في خانة العمالة والتخوين، مستغلّاً رضى “المجتمع الدولي” النسبي بعد إعلانه رزنامة السنة السياسية المقبلة، حيث ظهر تغيُر في لهجة اللاعبين الدوليين الكبار، من التنديد إلى الإعراب عن الأمل بأن تقود الإجراءات الجديدة إلى “إعادة الديموقراطية إلى نهجها السليم”. لكن القوى المناهضة لسعيد داخلياً، لا تزال تأمل في أن تتضاعف أخطاؤه وعثرات قلة خبرته أو اندفاعه، لا لتقنع الرأي العام التونسي الذي تجني اليوم ثمرة تقسيمه إلى قطبين، وإنما لتجمع ما يكفي من حجج لإقناع الخارج بأنه ليس دكتاتوراً فقط وإنما مستبدّ دموي ينكّل بمعارضيه. ولن يتطلّب الأمر، على ما يبدو، أكثر من عثرات سعيد و”مسرحة” مبالغٍ فيها من معارضيه، من مثل ما أعقب اعتقال القيادي في “النهضة”، نور الدين البحيري، أحد أكثر الشخصيات السياسية خلافية في البلاد؛ فمنذ أن كان وزيراً للعدل وُجّهت إليه تهم من هياكل القضاء ذاتها باختراق الجسم القضائي وتصفية الحسابات الشخصية والحزبية عبر قضاة يعملون لصالحه، وإبان الاغتيالات السياسية وانحراف مسار التحقيق فيها وإخفاء الأدلة، عدا عن تورّط حزبه أساساً في قضية الجهاز السرّي الضالع في الاغتيالات، ولذلك كان التحقيق معه مطلب الكثيرين، حتى من نظرائه النواب في جلسات عامة علنية، بخاصة بعد سقوط المدعي العام السابق، بشير العكرمي، وفصله من منصبه والتحقيق معه قضائياً. ولم يكن لـ”النهضة” أن تجلب تعاطفاً شعبياً مع البحيري بمجرد الإعلان عن إيقافه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، فكان الحديث عن الاختطاف والاحتجاز القسري واتهام سعيد بوضعه في سجن سرّي، وهو ما نفاه عميد المحامين، إبراهيم بو دربالة، في تصريحات صحافية بعد زيارة البحيري. كما قامت “هيئة مناهضة التعذيب” بزيارة فجائية للبحيري، أكدت إثرها أنه نُقل إلى المستشفى بعد رفضه تلقي أدويته وخوضه إضراب جوع من أجل إطلاق سراحه. أيضاً، أعلنت وزارة الداخلية أن البحيري معتقل مع القيادي الآخر في “النهضة”، فتحي البلدي، الذي لم تأت الحركة على ذكره في حملات المناصرة بتاتاً، ما يرسم علامات استفهام حول تجاهلها لابنها الثاني.
الاخبار