مجلة وفاء wafaamagazine
يحتدم الصراع بين الغرب وروسيا على خطّ الصدام الحالي في أوكرانيا، التي تحوّلت إلى بؤرة مركزية للحرب الباردة الجديدة. وتَظهر تركيا، في هذا المشهد الثنائي، بوصفها حجراً بالغ الأهمية في لعبة الشطرنج الجديدة، التي قد تتحوّل، عند أيّ خطأ في التقدير، إلى حروب دموية. إذ يسعى كلّ من الطرفين إلى اجتذاب أنقرة إلى صفّه، وهو ما ظهر في الموقف الأميركي الأخير، الذي تطابَق مع الموقف التركي في معارضة مدّ خطّ «شرقيّ المتوسط» لنقل الغاز من المتوسط إلى أوروبا، والذي يستهدف عزل تركيا عن مجريات قطاع الطاقة في هذه المنطقة
إذا كان «استعراض العضلات» قد ظهر قوياً من جانب روسيا في كازاخستان، علّه يولّد حلّاً في أوكرانيا، وخاصة في ضوء «التضامن» الصيني مع روسيا، فإن الصراع الغربي ــــ الروسي على التموضع التركي له وسائل عديدة. ولا تفوت من يتابع المشهد الأكبر في هذا الصراع، بعضُ التفاصيل الموضعية التي يأمل الغرب أن تكمل «البازل» العام. فقبل أن تؤكد وكالة «رويترز» الخبر، كانت الصحافة اليونانية تُعلِن أن الولايات المتحدة أبلغت حكومة أثينا أنها لا تدعم مدّ خطّ «شرقيّ المتوسط»، الذي هو في الأساس مشروع اتّفقت عليه دول «منتدى غاز شرقي المتوسط» لمدّ أنابيب تحت البحر من قبرص الى جزيرة كريت، فاليونان، ومن هناك إلى إيطاليا لنقل الغاز إلى أوروبا. وجاء هذا المشروع في سياق تكتّل دول شرقي المتوسط، من الكيان الإسرائيلي ومصر والسلطة الفلسطينية وقبرص واليونان والأردن وفرنسا، لإنشاء جبهة تستهدف عزل تركيا عن مجريات قطاع الطاقة في هذه المنطقة، وهو ما استتبع انتقادات كثيرة نظراً إلى كلفة المشروع العالية، والتي تتعدّى الثمانية مليارات دولار، في حين أن نقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا يُعتبر الأجدى اقتصادياً. ومن هنا، فإن الرسالة الأميركية إلى أثينا ستثير، دونما شكّ، ارتياحاً كبيراً في أنقرة.
وعلى رغم أن تركيا واجهت بشراسة خصومها في شرقيّ المتوسط، ولا سيما اليونان وقبرص، للاحتفاظ بما تَعتبره حقّها في المنطقة الاقتصادية الخالصة، فهي عملت في السنة الماضية على تخفيف هذه التوتّرات، عبر تجديد المفاوضات مع حكومة أثينا، والتي لا يثِق أحد في أنها ستسفر عن أيّ نتيجة إيجابية. كما أن أنقرة لم تُبدِ ردّة فعل حادّة على اتفاق الولايات المتحدة، عبر شركة «إكسون موبيل»، مع قطر، للتنقيب عن النفط في مياه المنطقة الاقتصادية القبرصية الخالصة. وقال وزير الخارجية التركية، مولود تشاووش أوغلو، إن بلاده تلّقت ضمانات بأن التنقيب لن ينتهك حدود المنطقة الاقتصادية التركية. وفي هذا السياق، يرى محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييات»، أن مفتاح فهم الموقف الأميركي المعارِض لخطّ أنابيب شرقي المتوسط، يكمن في وصْفه من قِبَل نائب رئيس صندوق أمن الطاقة الوطني الروسي، ألكسي غريفاتش، بأنه «جزء من الغزل الأميركي مع تركيا». ويرى غولر أن الولايات المتحدة أدركت أن أوكرانيا ستكون مركز الحرب الباردة الجديدة مع روسيا. وفي مواجهة الاتفاق الروسي ــــ الصيني الجديد، فإن واشنطن ترى الحاجة ماسّة لتركيا، كما لأوروبا الغربية، وإلى حدّ ما للهند. ولذلك، يعتقد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أن التحوّل الأميركي إزاء مشروع «شرقيّ المتوسط»، يقدّم فرصة ثمينة له ولسلطته، على رغم أن توقيع سوريا قبل أيام على اتفاقية طريق الحرير البحرية مع الصين، يجعل تلك المنطقة ساحة لتوتّرات جديدة.
تعتقد أنقرة أن نقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا أجدى اقتصادياً
وربّما تنسجم مع هذا الغزل الأميركي رسالة إردوغان الخميس الماضي إلى أوروبا، أثناء استقباله سفراء دول الاتحاد الأوروبي بمناسبة حلول السنة الجديدة، حيث أراد تذكير الأوروبيين بأهمية تركيا بالنسبة إلى معظم القضايا الأوروبية، مشيراً أولاً إلى قضية اللاجئين السوريين، قائلاً إنه «لولا جهود تركيا في احتواء قضية اللاجئين، لكُنّا أمام منظر مختلف بالكامل، سواء بالنسبة إلى سوريا أو بالنسبة إلى أوروبا. ولولا جهودنا الكبيرة لتعمَّقت مشكلة اللاجئين ولازداد عدد الضحايا، ولتعاظَم أيضاً الإرهاب، ولانتشر الاضطراب في جغرافيا واسعة جدّاً». وانتقد إردوغان مواقف بعض الدول الأوروبية، ولا سيما اليونان وقبرص، التي تعمل على تخريب التعاون بين تركيا وأوروبا لحلّ المشكلات القائمة. لكنّه أوصل رسالة قوية إلى التكتل بأنه «على رغم كلّ الظلم الذي تعرّضنا له، فإن أولويتنا الاستراتيجية تبقى الاتحاد الأوروبي». وقال: «من زاوية الجغرافيا والتاريخ والبشر، فإن تركيا جزء من القارة الأوروبية، وهدفها بالتأكيد العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي». وفي الأرقام، فإن الاتحاد الأوروبي يبقى الشريك التجاري الأكبر لتركيا، حيث نصف صادراتها تقريباً تذهب إلى دوله. ففي 2021، بلغت هذه الصادرات 93.1 مليار دولار، من أصل 225.3 مليار دولار هي مجمل الصادرات التركية، أي ما نسبته 41.3 في المئة منها. وإذا أضفنا إلى تلك الأرقام، صادرات تركيا إلى بريطانيا وهي 13.7 مليار دولار، تصبح نسبة الاتحاد الأوروبي وبريطانيا معاً 47.4 في المئة. كذلك، يَبرز مدى ارتباط تركيا بأوروبا في الاستثمارات الخارجية المباشرة للأخيرة، والتي بلغت 21.3 مليار دولار بين عامَي 2016-2020، من أصل 33.3 مليار دولار، أي ما نسبته 64.5 في المئة من مجمل الاستثمارات.
ولا تنفصل علاقات تركيا مع الغرب عن علاقاتها مع إسرائيل، التي يُنظر إليها في أنقرة على أنها جزء من المشهد الغربي. وفي هذا الإطار، وبعد سلسلة رسائل تقارب بين تل أبيب وأنقرة في الأشهر الأخيرة، وأبرزها لقاء إردوغان مع «تحالف حاخامات الدول الإسلامية»، وقوله كلاماً طيباً عن إسرائيل وأهميتها، تابع الرئيس التركي هذه الرسائل، عبر توجيه برقية تعزية الخميس الماضي إلى الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، بمناسبة وفاة والدته أورا هرتزوغ. وقال إردوغان، في رسالته، وفقاً لصحيفة «شالوم» التركية اليهودية، «إن أورا قامت بأشياء رائعة في مجال المبادرات الاجتماعية المهمة. إنني أعتقد أن أورا هرتزوغ تشعر بالفخر بما قدّمته من خدمات إلى مواطني إسرائيل».
إزاء ذلك، يرى الكاتب ندرت إرسانيل، في صحيفة «يني شفق»، المؤيدة لإردوغان، أن حديث الرئيس إلى السفراء الأوروبيين له أهميته في لحظة الصراع بين الولايات المتحدة/ الأطلسي وروسيا، وخصوصاً أن الجميع يرى في تركيا شريكاً له. وعلى رغم عدم توقُّع الرأي العام التركي الكثير من هذه التحولات، فإنه يعوّل على المحادثات التي أجراها، أخيراً، الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين، مع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. ويقول إرسانيل إن إدراك الغرب لأهمية تركيا سيكون فرصة لها لفتح ممرّات لتطبيع العلاقات معه. ويلفت إلى الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي إلى بكين قبل أيام، والتي لم تحظَ بالاهتمام الإعلامي الكافي، مشيراً إلى أنها تزامنت مع زيارات لمسؤولين من إيران والسعودية والكويت وعمان والبحرين إلى بكين، وهذا يعكس التعاظم المتزايد للنفوذ الصيني في الشرق الأوسط، مقابل تراجع اهتمام واشنطن التي تنقل حضورها إلى شرق آسيا. ويذكّر إرسانيل بأن تركيا من الدول المهمّة للصين في إطار مشروع «الحزام والطريق»، وأن الأخيرة تَعتبر أن بإمكان الأولى، على رغم الخلاف حول مشكلة الأويغور، التوجّه إليها لمجابهة مشكلاتها الاقتصادية. كما تعرّف الصين، تركيا، على أنها بلد مهمّ ومؤثّر في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا، وتؤكد أنها مستعدة للتعاون معها. ويختم إرسانيل مقالته بالقول إن تلك التطورات تستحثّ تركيا للنظر إلى التطورات بعين متأنّية، في فترة تقليص الولايات المتحدة نفوذها في الشرق الأوسط، وفي مرحلة نسج أنقرة علاقات خاصة ومتشعبة مع روسيا والولايات المتحدة معاً، وفي حقبة إعادة تشكيل العالم.