الأخبار
الرئيسية / آخر الأخبار / نجوم الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة ضيوفاً على الحدث العريق | «البستان» ينطلق الليلة: جرعة الأمل

نجوم الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة ضيوفاً على الحدث العريق | «البستان» ينطلق الليلة: جرعة الأمل

مجلة وفاء wafaamagazine

حياة بلا موسيقى موت. الإنسان، طالما هو حيّ، هو في هذا الوجود مركبٌ لا يغرق. قد يتعارك مع مزاج الطبيعة، قد يرتطم، قد يتكسّر، قد يتشلّع، لكنه لا يغرق. إنه مشدودٌ صوب شاطئٍ ما، بخيط من نور رَمَته إليه منارة الأمل. الأمل لا يغيب ويشرق. الأمل بصيص نورٍ يكبر ببطءٍ. يكبر أحياناً لمجرّد الإصرار على النظر باتجاهه. يكبر فقط بنظر الناظر إليه. له هذه الخاصّية وهذا التأثير، وهنا يكمن سرّه غير المحكوم بقوانين العلم، ونحن محكومون به. بالنسبة إلى البعض، هذا الأمل هو الموسيقى. أو هكذا يجب أن يكون بالنسبة إلى الجميع.

وباء، انهيار اقتصادي، انفجار، ذلّ، جوع، تشرّد، دموع، أوجاع، كآبة… وأمل. كل ذلك والأمل موجود بوقاحة منفِّرة أحياناً. الأمل بلا حياء، لا يمكن التعويل على لياقته ليفهم انعدام الرغبة بوجوده. حسناً، فلنتعامل معه على هذا الأساس. على أساس أنه لن يتركنا ويذهب بسبيله. فلنسمع بعض الموسيقى… وها هي تأتينا، اليوم، من «البستان»، المهرجان العريق والأنيق الذي ينطلق الليلة بدورةٍ تحمل عنواناً يشرح ما مرّ به في السنتَين الأخيرتَين: Reconnect (إعادة الوَصْل أو التواصل).
رغم هَول المصائب، استطاع مهرجان «بيروت ترنّم» أن يقدّم لنا دورةً غير مختصرة ولو أنها فقدت بعضاً من المستوى الرفيع الذي بلغته في السنوات السابقة. كان ذلك في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. كاللقاح، كان جرعتنا الأولى، واليوم يمنحنا «البستان» الجرعة الثانية لكي يحمي النفس من وباءات أكثر مجهريةً من كورونا وغيره من الزملاء في المنظومة. هذه ليست استعارات أدبية. هذه حقيقة. نعم، الموسيقى لقاح مضاد للانحطاط، والانحطاط سبب كل علّة.
«بيروت ترنّم» أصرّ على الكمّية المضنية على حساب جزءٍ من النوعية المكلفة. «البستان» أصرّ على النوعية المكلفة على حساب جزءٍ من الكمية المضنية، فأتت نتيجة المعدّل العام متساوية تقريباً. وهاتَان المعادلتَان مبرّرتان نظراً إلى مجانية الحضور في الأول، وإلى رمزية ثمن البطاقات في الثاني (سعر موحّد هو 350.000 ليرة لبنانية، وهذا سعر رمزي نسبياً، ولو كان مرتفعاً للبعض). فالاستمرار لم يعد ممكناً بدون أضرار، يحاول المنظمون حصرها قدر الإمكان. الرعاة الأساسيون في السابق، أي «الزعران» (هل هناك حاجة بعد للقول بأنّ هذه العبارة مقصودٌ بها المصارف اللبنانية؟)، ما عادوا «يحبّون» الفن والثقافة. همّهم في غير مكان اليوم. سرقوا، وها هم يبحثون عن بعض الزواريب للهرب في الظلام من دون ضجّة توقظ سكّان الحيّ… بالتأكيد من دون موسيقى.
بالعودة قليلاً إلى الوراء، نذكِّر بأن «البستان» توقّفت دورته المخصّصة لبيتهوفن (ذكرى 250 لولادته) قبل سنتَين، في منتصف الطريق تقريباً، بسبب وباء كورونا في بداياته. أمّا في عام 2021 فحلّ الصمت على المهرجان للأسباب المعروفة، ما أثار الشك في احتمال العودة هذه السنة. لكنه عاد. عاد بدورة مفاجئة إيجابياً لناحية المستوى. فالأمسيات يحيي معظمها نجوم صف أوّل في عالم الموسيقى الكلاسيكية الغربية، بالإضافة إلى المواعيد التي تطاول أنماطاً أخرى، على رأسها أمسية الفنانة أميمة الخليل التي تزيّن الدورة بالنغم المحلّي، وعرض «يومٌ لم ينتهِ» المتعدد الوسائط لعلاء الميناوي وفلاديمير كوروميليان وأحمد عامر (موعدٌ يسترجع انفجار المرفأ، وحضوره مجّاني). من عازف البيانو بوريس بيريزوفسكي العملاق قيمةً وجسداً، إلى زميلته كاتيا بونياتيشفيلي المتّقدة تقنياً وأنثوياً، إلى عازف الكمان رونو كابوسون الأنيق أداءً وشكلاً. من عازف التشيلّو فيكتور جوليان-لافريير العميق عزفاً وإحساساً، إلى السوبرانو جويس الخوري الكاريزماتية صوتاً وحضوراً، إلى قائدة الأوركسترا غلاس ماركانو المتمرّدة مهنياً وإنسانياً… هؤلاء وغيرهم سيجعلون كفاحنا أكثر صلابةً، في سبيل بلد طبيعي. طبيعي، لا أكثر.

أميمة الخليل تزيّن الدورة بالنغم المحلّي، إلى جانب عرض علاء الميناوي

من أي طريق عاد «مهرجان البستان»؟ يمكن القول إن للعراقة والمثابرة والمعاملة الحسنة والسمعة الجيّدة رصيداً كبيراً وثقلاً موزِناً، يمكن التعويل عليهما في ظروف مماثلة. فالمهرجان عاد إلى النشاط بفضل تاريخه بشكل أساسي. معظم الفنانين الذين لبّوا الدعوة إلى بلد مجهول ومنكوب، إنّما لبّوا الدعوة إلى بلد يعرفونه بفعل مشاركات سابقة. بمعنى آخر، الزيارة الأولى تفتح صفحة صداقة بين الداعي والمدعوّ. والصديق، كما تعلمون وكما اختبرتم ربّما، وقت الضيق. فثمة صداقة باتت تربط المهرجان (بناسه وتاريخه ومهنيّته)، بالغالبية الساحقة من الأسماء التي تحييه اليوم من خلال إحياء أمسياته. على تلك التلّة شاركوا أعلى لحظاتهم الفنية مع بشر، على علّات بعضهم المسمّى «مخملياً»، متى أتى الحديث عن الطبقة الاجتماعية التي جعلت من الموسيقى الكلاسيكية أكسسواراً ضرورياً لمزيد من الرقيّ. في حين أنّ الكلاسيك، كأيّ موسيقى محترمة، ليس سوى مادة صوتية تطير بنا إلى أبعد ما يكون عن المادّة، وهي من صنع عمالقة، بعضهم فقراء بالمادّة وأثرياء بكل ما تبقّى، على رأسهم ثلاثي التفاني والتعب والقهر والعَوَز (بيتهوفن) والديون (موزار) والكفاح في سبيل العيش (باخ): باخ، موزار وبيتهوفن.
في الشتاء القارس، بدأت أزهار «البستان» تتفتّح وسْط العواصف. هي براعم تحمل كل المقوّمات التي ستجعلها وروداً جميلة يوماً ما، كما كانت دوماً. لكن، متى؟

* مهرجان البستان: بدءاً من اليوم لغاية 13 آذار (مارس) ـــــ للاستعلام: albustanfestival.com