الرئيسية / مقالات / مخاطرة المجتمع المدني

مخاطرة المجتمع المدني

الاربعاء 27 تشرين الثاني 2019

مجلة وفاء Wafaamagazine

يلفتك وأنت تتابع أحداث لبنان الحالية التركيز على عبارة المجتمع المدني حين السؤال عن الفاعل في كثير من الأحداث أو الناشر للأفكار والخيارات والأولويات، فيسهل حين تناول أي قضية أو حالة إحالتها إلى “المجتمع المدني”. المستمع عملياً لم يحصل على إجابة فعلية، وهذا مشابه لأن تقول رداً على سؤال: من جاء اليوم إلى دارك؟ بالقول: فلان ابن علان. ليس هناك إجابة، فاعل مبني للمجهول.

ليس المهم الحفر المنهجي والتاريخي حول المفردة هنا، ولا التأمل في قواميس تشريعها وترويجها، لكن لننظر إلى تداولها، إلى قيمتها الحالية الفعلية، حيث يكتسب هذا الاستخدام قيمة استراتيجية حاسمة، يحول الكلمة من مجرد جزئية لغوية، إلى عنصر اقتحام وتغيير اجتماعي.

المفردة القائمة على أساس التجهيل والتعمية تحمي نفسها بالتعددية والفوضى، فهذا المجتمع خليط ليس له شخصية بل عديد متكثر، وهذه طبقة ثانية للتعمية والتجهيل، فإذا سألت: من المجتمع المدني؟ سيقال هو كثير وليس واحد. وإن ذهبت أكثر ستجد طبقة ثالثة من التعمية في محاولتك لكشف الغموض وهي التنوع في الاتجاهات القائمة والمختبئة خلف تسمية واحدة موحدة. إذًا ثلاثة أستار من الغموض تحمي القوى المختبئة خلف هذه المفردة، لكن تحميها مماذا؟ خصوصًا عندما نتحدث عن مجتمع مفتوح، بحسب تسمية جورج سوروس لمؤسسته الداعمة لهذه الطحالب حول العالم، يتيح للدول الكبرى فرض حماية كاملة لمنظمات “المجتمع المدني”. فممَّ تختبئ يا ترى؟

غياب المحددات والهوية الشخصية يعطي لهذا التشكيل مرونة عالية في الحركة

هؤلاء الأفراد “المدنيون”، الذين تعرِّفهم وسائل الإعلام بهذا المسمى الغامض، هم من الطامحين للعب دور سياسي بعناوين غير سياسية، وفي عملية الانتقال من الاجتماعي إلى السياسي، في تلك المساحة بالذات، يحتاجون إلى الحماية الثلاثية الطبقات، حماية بالتحديد من تحمل المسؤولية، ليس هناك أحد لمحاسبتهم أخلاقياً أو سياسياً أو اجتماعياً تجاه فعالياتهم وأنشطتهم. السلوكيات والديناميات التي يطلقونها في البيئة الاجتماعية والسياسية تجري دون أعباء، إذ هم غير مضطرين لتحمل مسؤولية مواقفهم أو طروحاتهم أو علاقاتهم المحلية والدولية، والأهم أنه لن يكون هناك مساءلة حول تغير وظائفهم وتحولهم إلى فروع لشركة دولية تمولهم لعمليات ميدانية ليست مذكورة في أدلة عملهم أو تشريعاتهم، فهم يحضرون بصفتهم جزءاً من المجتمع العام.

  • حالة متفتلة لا ضوابط عليها

انتفاء إمكانية المحاسبة يدعمه الصبغة المحلية والأصلية للمفردة، وكذلك براءتها المدنية، فهي حالة تكتسب مشروعيتها من رماديتها ولا تسيسها الذي تهبها إياه المفردة، في حين أنها تستر علاقات دولية مع قوى كبرى تحرك وتمول. فهي منصات سياسية خارجية/داخلية تلبس الرداء المحلي والمدني الاجتماعي، تقدم نفسها فاعل خير بأموال الغير، لا أكثر، ويستمر هذا التستر حتى عندما تنضج الفرصة السياسية وتبدأ تلك المنظمات بتحريك الموارد والجمهور باتجاه سياسي محدد.

غياب المحددات والهوية الشخصية يعطي لهذا التشكيل مرونة عالية في الحركة، فيستطيع أن يحضر ويتواجد في ساحات مفتوحة لكل دخيل، ويتواصل مع أي جهة، فلا جمهور يحاسب ولا معايير سياسية ولا أخلاقية. هو حالة هيولانية سيالة متفتلة ولا ضوابط عليها، ولذلك يصلح أن يكون أداة تغيير وهدم وحتى تفجير بنى اجتماعية وقوى سياسية حينما تتاح الفرصة ويتشكل القرار لدى الممول، فهي تخترق تلك البنى في امتداداتها دون أن ترفع لافتة نقيضة، بل تحت شعارات الحياد، وحين يتاح لها التحرك تجيّر ذلك الاختراق نحو مشروع يحدده الممول.

يتمكن “المجتمع المدني” من طرح شعارات هامشية لا علاقة لها بالهموم الأساسية للجمهور

إذا أردت أن تكسر نظاماً أو توازناً في مجتمع ما، وتغير موازين القوى فيه دون أن يتمكن ذلك النظام الاجتماعي من معرفة وتشخيص الفاعل كي يكبحه أو يحاصره بالمحاسبة الاجتماعية، وأن تتحرك دون أن تطالك الأسئلة وتحاصر قدرتك على الاستقطاب واجتذاب الجمهور، فالمجتمع المدني أفضل وسيلة لذلك، فهو ليس جهة محددة، لا شخصيات، لا مسؤولية، لا محاسبة، مشروعية مفتوحة دون ضوابط ومحمية بالغطاء الدولي المعلن.

  • الشعار المفتوح

يتمكن “المجتمع المدني” من طرح شعارات هامشية لا علاقة لها بالهموم الأساسية للجمهور، وحينما ينقضّ على الفرصة السياسية يستطيع كذلك أن يرفع شعارات غير واقعية أو لا تنتمي إلى الحقل السياسي الممكن، دون أن يسأله أحد : كيف؟ لماذا؟ إلى أين؟ يمكن أن يشتغل في التحريك لا في رؤى واضحة يتحمل مسؤولية أهدافها وواقعية مساراتها.

الشعار المفتوح وغير المحدد يستخدم كذلك كوعاء للدمج والاستقطاب حيث بإمكانه أن يجمع بين من تموله سفارات قوى دولية كبرى، وبين الطامحين للنشاط السياسي، وبين الحانقين على الظروف السياسية والاجتماعية في مكان واحد، وبقدرة الكادر المدرب وتدفق التمويل وتجيير الرسائل الإعلامية المحلية والدولية لصالح طروحاته يشتغل على تبيئة وشرعنة مشروعه وخياراته وارتباطاته، وإعادة تشكيل الوعي الجماعي لهذا الخليط وفق أسقفه وأولوياته.

أن تكون مدنيًا يعني أن تكون ليبراليًا لك المشروعية في كل ما تشاء وكل ما يشاء الممول

المرونة المفرطة تتيح لهذا المسمى مجتمعاً مدنياً أن يطرح أهدافًا لا يريد تحقيقها بالأساس دون التعرض للمساءلة، فيصنع ثورة لا يريد الانتصار فيها، ولا طرح قيادة بديلة، كما أن التعددية الفوضوية داخل هذا الإطار لا تسمح له بتحديد برامج حقيقية ولا شروط سياسية لتحقيق التغيير المنشود، يمكنه جمع التغيير مع اللاتغيير، ليتمكن من التحرك نحو برنامج التفكيك الاجتماعي الذي يشتغل عليه، من خلال إتاحة المساحة والموارد لفئات شبابية طامحة أو معزولة.

  • معجزات “أنبياء” المجتمع المدني

من المعجزات التي ظهرت في أحداث لبنان الحالية والتي ابتدعها “أنبياء” المجتمع المدني هو أن تكون منظماته في نفس الحراك السياسي مع أحزاب تشكل أساساً في الحياة السياسية اللبنانية، أحزاب قدم نفسه مجتمعنا المدني مواربةً أنه يتحرك لكف يدها وسلطانها. وكيف لا يحصل هذا وهو مجتمع لا أحد يمثله على وجه التحديد، ولا مسؤول عنه ولا قيادة، هو مفتاح لحركة آخرين غير “مدنيين” حين تشاء الضرورة.
مضافاً إلى كل ما تقدم، فباعتباره جهة غير مسيسة وليست داخلة في صراعات محلية أو إقليمية أو دولية، فيستطيع هذا المجتمع الزئبقي الغامض أن يتواصل مع جهات “مدنية” كذلك، تابعة لفروع الشؤون الخارجية في الدول الكبرى، ويوفر لها إمكانية النفوذ والتحرك في المجتمع المحلي مقابل المال المتدفق، ذلك المال الذي يأتي مع المشاريع المنتظرة.

المجتمع المدني متحرر من كل القيم الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية، لأنه مفتوح على كل الخيارات، ويتقبل كل الأفكار، ومضطر للانسجام مع كثير من منظماته التي تدعو للخلاص من الأخلاقية من أساسها بكل مظاهرها وأشكالها. أن تكون مدنيًا، يعني أن تكون ليبراليًا، لك المشروعية في كل ما تشاء، وكل ما يشاء الممول.

المصدر: موقع العهد – هادي قبيسي