مجلة وفاء wafaamagazine
تشهد النسوية العربية اليوم كتابات جديدة تُعيد النظر فيها، وتفكّك معضلاتها مع السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي. في «يوم المرأة العالمي» (8 آذار/ مارس)، نقف عند بعض هذه المحاولات المهمة التي تتناول تاريخ النسوية العربية وتنظر إلى مستقبلها
ماذا تريد المرأة؟
ماذا تريد المرأة؟ كتب فرويد في رسالة لتلميذته ماري بونابرت، وتلقّفت نسويات هذا الاستفهام الذكوري الذي وصفه صاحب «تفسير الأحلام» بـ «السؤال الكبير الذي لم تتم الإجابة عليه ولم أتمكّن بعد من الإجابة عليه رغم ثلاثين عاماً من البحث في الروح الأنثوية». أخذت باحثات ومنظّرات هذا التساؤل الذي انبثق في الأساس من الرغبة، ثم أصبح سؤالاً حول مقاومة النساء للمجتمع الأبوي، وداعين إلى استرجاعه. إذ لا يمكن لأحد أن يملك الإجابة عليه أكثر من المرأة نفسها، بمعنى أن تكون المرأة موضع بحث ذاتها. خلال العقود الماضية، نُشرت كتب ومقالات وأوراق أكاديمية تحمل هذا السؤال عنواناً، وتحاول تقديم إجابات عليه من زوايا مختلفة.
أساطير التأسيس: الحاجة إلى نظرة أقل رومانسية
هذا ما فعلته الأكاديمية النسوية ميرفت حاتم، وهي تبحث عن «رؤية نقدية لاتجاهات مستقبلية للنسوية العربية». بدأت التفكير في المستقبل بدءاً من الماضي. تفكّك أستاذة العلوم السياسية في «جامعة هوارد»، في ورقتها المنشورة في الدورية الإنكليزية «شؤون عربية معاصرة»، الأساطير التأسيسية التي هيمنت وتهيمن على النسوية العربية إلى اليوم، على رأسها أنّ الرجال كانوا أول من فكر في تحرير المرأة. وتخصّ بالذكر قاسم أمين ورفاعة الطهطاوي، معتبرة أن «هناك حاجة إلى نظرة أقل رومانسية لهؤلاء الرجال ومناقشاتهم حول أدوار المرأة». فأحد الدعائم التي يقوم عليها الفكر النسوي في الأساس، هو إعادة الاعتبار للدور التاريخي للنساء ضمن متن التاريخ الأوسع السياسي والثقافي والاجتماعي.
تلفت حاتم إلى توصيفات أمين العدائية للنساء، فنساء الطبقة الوسطى «طفيليات»، والفلاحات «جاهلات»، و«النساء حيوانات أليفة وألعاب للرجال»، ما يوضح كيف «فقدن عقولهن وسمحن للرجال بالسيطرة عليهن بصفتهم سادة وأوصياء… ويمتلكن مهارات مكر وتمثيل متطورة».
تُشير حاتم إلى أن إعطاء هذه المكانة لدور الرجال في تحرير المرأة، يتجاهل الصحافة النسائية المصرية في القرن التاسع عشر، التي كانت تكتب فيها نساء من مصر وبلاد الشام ومن أديان وطوائف مختلفة، ومن أبرزهن هند نوفل، ولبيبة هاشم، وجميلة حافظ، ومي زيادة وفاطمة نعمت راشد وأخريات.
أما الأسطورة التأسيسية الثانية للنسوية العربية التي ترى حاتم بوجوب تفنيدها، فهي التي تنسب للحداثة الغربية الفضل في ذلك، لافتة إلى أن التعريف الحديث لتعليم المرأة، والأمومة، والأسرة حدث في سياق استعماري، وكان جزءاً من وسائل السيطرة على الشعوب الخاضعة من خلال قبولها لعالمية مشروع التحديث وتعريفاته لأدوار الجنسين.
بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني
بعد استقلال كثير من البلاد العربية وظهور أنظمة ما بعد الاستعمار، ظهر ما يسمى بـ «نسوية الدولة» التي تمثلت في الاتحادات النسائية. أمّمت الأنظمة في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والأردن، الأجندات الجنسانية لنساء الطبقة العليا والمتوسطة، وقدمت لهن حقوقاً موسعة في التعليم والعمل العام. وجعلت من اتحادات المرأة تجمعات تعمل فيها طبقة من النساء، ما أدى إلى شيء من التغاضي عن حقوق نساء الطبقة العاملة وأضعف القدرة على التفاوض مع المؤسسات الرسمية للحصول على المزيد من المكاسب القانونية والاجتماعية والسياسية للمرأة. ثمة نسخة قريبة من نسوية الدولة تبرز اليوم في بعض دول الخليج وإن بطريقة مختلفة.
اعتبر قاسم أمين نساء الطبقة الوسطى «طفيليات»، والفلاحات «جاهلات»، و«النساء حيوانات أليفة وألعاباً للرجال»
استخدمت سياسات الإضعاف والاحتواء هذه (ما زالت فاعلة لغاية اليوم)، لتحجيم الحركات النسوية ليس فقط في العالم العربي، بل أحياناً في أوروبا. في مطلع الثمانينيات مثلاً، كوّنت نسويات راديكاليات مجموعات للعمل على تحطيم الهرمية في العمل السياسي وتكوين جسر بين الحركة النسائية والهياكل العمالية. استجابت الحكومة لهذه المجموعات بأن حوّلتها إلى لجان عمل مع الدولة، وأصبحت مجموعة من الحقوقيات، اللواتي كن يعرفن بشراستهن، نسويات قطاع عام، يتقاضين راتباً للقيام بالعمل النسوي في أوقات الدوام الرسمية. في المقابل، بدأت رفيقاتهن من خارج هذه اللجان بالنفور منهن وأطلقن عليهن تهكماً لقب «فيموقراط» مع تراجع أدائهن والمكاسب التي كان يفترض أن يحققنها. وحين حلّت مارغريت تاتشر اللجان عام 1985، تفرّقن ولم يتمكن من العودة إلى العمل الجماعي بالنجاح نفسه الذي سبق التحاقهن بالوظيفة الرسمية. إحداهن تبرر في وثائقي «نساء غاضبات» أن الأمر متعلق بأنهن توقفن لسنوات عن أن يكن مناضلات. مع الوقت، أصبحن موظفات في عمل بيروقراطي يردن الحفاظ على رواتبهن، وقد فقدن بسبب ذلك مهارات النضال والمقاومة والمفاوضة، وتحولت الكتلة النسوية الواحدة إلى مجموعات مشرذمة فقدت الكثير من تأثيرها.
لسنا بعيدين هنا عن نماذج عربية معروفة، بدأت من النضال الحقوقي المستقل قبل أن تصبح جزءاً من المؤسسة الرسمية ويخفت صوتها، أو تلتحق بمنظمات المجتمع المدني، فتصبح لاهثة خلف برامج يقبل الممول الأجنبي دعمها، وتتحول أيضاً على طريقة نسوية الدولة إلى موظفة تحافظ على مصدر دخلها.
لم تستفد منظمات المجتمع المدني العربية الموجّهة لحقوق النساء، من تجارب كانت على مسافة نقدية من أجندة الممول. في تجربة العديد من الحركات النسائية لأميركا اللاتينية، مثلاً، انطلق العمل من تحليل شامل لدور الدولة في السماح باستمرار قضايا محددة والحؤول دون الخوض في سواها؛ ولمشروع التغيير الاجتماعي ووسائل تطبيقه، والدور الذي يجب أن تلعبه النساء والمجتمع لتحقيق هذا التغيير. خلصت هذه الحركات إلى أن حقوق المرأة لا يمكن أن تتحقق من خلال مناشدة دولة استبدادية، ولا من خلال عزل النساء في المنظمات النسائية غير الحكومية… بل من خلال توسيع دوائرها الانتخابية، والتحالف مع الأحزاب والتجمعات السياسية، وفتح قنوات تفاعلية أكثر، ولم تتبع استراتيجية واحدة بل نهجاً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً متعدد الأوجه.
ما فعلته المنظمات غير الحكومية، عربياً، أنها حددت من الفاعل في حقوق المرأة، فهي تصطفي مجموعة صغيرة تنتمي غالباً إلى طبقة معينة مؤهلة أكاديمياً غربياً، تتحدث لغات أجنبية بطلاقة وتلبي أجندة بعينها بغض النظر عن المخرجات، وتكتب تقارير مرضية للجهة المانحة، وتظهر جذابة شكلاً ومضموناً للإعلام. وهذه تختلف، مثلاً، عن المنظمات الشعبية واللجان التي كونتها المرأة الفلسطينية في الثمانينيات وكانت تصل مباشرة للمجتمعات المحلية ولديها عدد كبير من الأعضاء من كافة الطبقات، وتواصلها مع النساء والمؤسسات الفاعلة مباشر، وليس ضمن دوائر مغلقة من ورش العمل والمؤتمرات تعمل على مشاريع لها زمان ومكان محددين، ولا يمكن متابعة تأثيرها بعد انتهاء المشروع. كتبت أمل جاد ورقة مهمة بعنوان «أنجَزَة حركات النساء العربيات» The NGO-isation of Arab Women’s Movements أفاد منها هذا المقال ويمكن العودة إليها للتعمق أكثر.
تجنّب المسألة الكويرية
«المجتمعات في حالة الحرب والصراع غير جاهزة لمواجهة قضايا الجنسانية»، تشير النسوية والأكاديمية إيلين كتّاب في محاضرة افتراضية نظمها «المجلس العربي للعلوم الاجتماعية» العام الماضي. وتلفت إلى تجربتها كأستاذة في «معهد دراسات المرأة» في جامعة بيرزيت، حيث تواصلت «مؤسسة القوس للكويريين» في حيفا مع المعهد بهدف التشبيك والتعاون، فجاء رد المعهد بالرفض الذي تبرره كُتّاب بأنه «خوفاً من التحريض على المعهد وفقدان شرعيته»، فتأسيس مراكز دراسات المرأة عموماً في الجامعات العربية ليس بالأمر السهل، لافتة إلى أن الجنسانية أصلاً ليست موضع دراسة في مساقات المعهد إلى اليوم.
أخيراً، جرت مطالبات على وسائل التواصل الاجتماعي بإغلاق «مركز دراسات المرأة» في جامعة الكويت بسبب تناوله مواضيع الجنسانية والأدوار الاجتماعية. أما نظيرات المركز في الجامعات العربية في العموم، فلا بد أن تخفض رأسها وألا تظهر في الواجهة وتبقي على مواد التدريس محافظة لتمر بسلام تحت عين المراقبين.
أسهمت النسوية البيضاء في تصوير الإسلام كعقبة أمام النضال والحرية
ورغم أنّ مطالبات النسويات العربيات بدراسة النوع الاجتماعي وتدريسه في الجامعات قديم، فقد يفاجأ بعضهم حين يعرف أنهن طالبن بذلك في المؤتمر النسائي العربي في القاهرة عام 1944، لكن الأمر لم يتقدم كثيراً منذ ذلك الوقت لدواع وأسباب شديدة التعقيد تبدأ من السياسة ولا تنتهي عند اللغة. الأكاديمية هدى الصدة تلفت في ورقة «دراسات النوع في العالم العربي» إلى التحديات التي تواجه إدخال دراسات الجندر ووجود برامج ثابتة حولها في الجامعات العربية، رغم أنها دراسات رائجة على أجندة الممول وستلقى من يدعمها. تناقش الصدة آراء عدة منها أن تضمينها يحتاج إلى قرار سياسي أولاً. وتتطرق إلى التخوف من استعمال كلمة «جندر» نفسها، وتقصير النسويات في نقل المصطلحات النسوية بشكل ينسجم مع اللغة العربية ويقلل من الصدام مع المفهوم الذي يحدث بالضرورة، إذ يسافر من ثقافة غربية مهيمنة إلى ثقافة أخرى تابعة ويلفت إلى سيرورة النوع الاجتماعي.
في محاولة لكسر هذا الغياب أو التغييب، برزت مواقع عدة متخصصة في السنوات الأخيرة تقارب قضايا النسوية والجندر والكويرية وتحاول أن تردم جزءاً من الفراغ عبر مقالات طويلة وشهادات لتجارب شخصية وقصص صحافية وتعريفات وترجمات، منها مواقع «جيم»، و«كحل»، و«ويكي جندر». الأمر أنها منصات نخبوية أو يتابعها المهتمون فقط بهذا النوع من الكتابات والمعرفة. لذلك يظل تأثيرها محدوداً وتعطي انطباعاً بأن هذه المسائل معزولة بسلام في مواقع وحدها. ثمة مواقع أخرى تقارب مادة جندرية معقدة عبر تبسيطها لتصل لكل من يشاهدها أو يقرأها مثل الموقع اللافت «خطيرة».
في المقابل، ظهرت أو عادت إلى الظهور مجلات تستعمل قضايا الجسد والنوع للبهرجة الإعلامية وادعاء تقديم غير مسبوق وجريء، وطبعاً لفت أنظار الممول كما هي الحال في معظم الوقت. ولو كنا بصدد الحديث عن الغسيل الوسخ للنسوية عربياً، لأفردنا مساحة أكبر لهذا النوع من الكتابات والمنشورات. ليس الأمر هو الوقوف ضد المجلات الخفيفة والسلعية، فالسوق يسع الجميع، على ألا تقدم هذه المشاريع نفسها على أنها تحررية، فكتابة «قضيب» على غلاف مجلة مثلاً أمر قد يثير بعضهم لكنه بالتأكيد ليس ثورياً لأي كان.
نجنّا من «أبويّة» الأخوات
تتحدث دراسات المرأة اليوم عن أشكال مختلفة من النسوية. إلى جانب النسوية البيضاء، هناك النسوية السوداء، العربية، والعالمثالثية، والأفريقية. ورغم ما يوحي به هذا التنوع في الحركات النسوية، إلا أن مصطلح النسوية بحد ذاته، ما زال مرتبطاً بالصياغة التي وضعتها المرأة البيضاء تحت عنوان «الأخواتية» العريض. بدا لوهلة أن واقع النساء في العالم متطابق مع واقع المرأة الغربية، ولا بد من تبنيه. أمر بدأت نسويات من ثقافات مختلفة في تفكيكه ودحضه، ولا سيما الأفريقية، التي كشفت في تفكيكها للنسوية الكولونيالية أن الحتمية البيولوجية لم تكن في كثير من مناطقها، المعيار الذي توزع على أساسه الأدوار الاجتماعية، لكنه المعيار الذي أُدخل إلى هذه المناطق عبر الاستعمار بوصفه النسخة المتحضرة التي ينبغي لنا كلّنا استنساخها.
كذلك، أسهمت النسوية البيضاء في تصوير الإسلام كعقبة في النضال لتحرر المرأة، في حين أن مجموعة من أبرز النسويات الغربيات خضن نضالاً ضد موقف الكنيسة من النساء، وقدمن تأويلات جديدة للاهوت وأبرزهن ماري دالي، وإليزابيث فيورنزا وروزماري رادفورد، وأدركن ضرورة إعادة النظر وتفسير النصوص الدينية وليس الاكتفاء بمعاداتها.
هنا مثال آخر، تلفت ميرفت حاتم إلى الموقف الذي أخذته نوال السعداوي من الحجاب؛ تقول: «في الثمانينيات، عندما انتشر نمط اللباس الإسلامي، الحجاب، بين الشابات، صاغت السعداوي عبارة شائعة… لخصت موقفها السلبي تجاه هذا التطور. ووصفت نمط اللباس الإسلامي بأنه يعادل «حجاب على العقل» أظهرت هذه العبارة بالذات إلى أي مدى استوعبت هذه النسوية وجهة النظر الاستشراقية التي استخدمت لباس المرأة المسلمة لتلخيص وجودها بالكامل والمؤشر الوحيد على سلبيتها أو فعاليتها».
تُشير حاتم إلى أن دراسات ميدانية أجرتها كشفت عن أن النساء اللواتي يرتدين الحجاب يشاركن التطلعات التعليمية والعملية نفسها لنظيراتهنّ العلمانيات. وتضيف: «أظهر تفحصي للخطابين العلماني والإسلامي العامين حول الجندر أن كلاهما شدّد على أولوية دور المرأة في الأسرة. المثير للسخرية في وجهة نظر السعداوي التي تشوه سمعة نمط اللباس الإسلامي، أنها تحاكي المواقف المتعالية للنسويات الغربيات في الماضي والحاضر تجاه لباس المرأة المسلمة». مع ذلك، لا يمكن تجاهل أنّ الملابس استخدمت لقمع النساء أيضاً، وكثيراً ما فُرض نمط معين من الأزياء عليهن في جماعات مختلفة. فالقول بأن اللباس المفروض على المرأة في مجتمعات معينة لا يعبّر عن ثقافة الحجب والقمع ليس موضوعياً أيضاً.
يشهد الفكر النسوي العربي اليوم كتابات ومحاولات مختلفة لإعادة النظر فيه، للأسف معظمها جهود تنشر بلغات أجنبية ونادراً ما تلقى من ينقلها إلى العربية. مع ذلك، تبدو كما لو أنها كتابات تتدفق في نهر يحاول أن يشق طريقاً مختلفاً في أرض وعرة ملؤها عقبات الفصل بين النسوية المفكرة والنسوية الفاعلة على الأرض، وتفكيك أساطير التأسيس، ومواجهة الأكاديميا الذكورية، والحاجة إلى القرار السياسي الشجاع والغائب، وأجندة الممول الأجنبي، وسلطة الثقافة الغربية. نلفت هنا، على سبيل المثال لا الحصر، إلى كتابات مهمة لصبا محمود، أميمة أبو بكر، جين مقدسي، رفيف صيداوي، هدى السعدي، نهوند القادري، أمينة البندري، ريما حمامي، دينا جرجس، لاليه خليلي، نهى بيومي وزينة الزعتري وكثيرات غيرهن.