مجلة وفاء wafaamagazine
سمحت نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بولاية جديدة لإيمانويل ماكرون، على رغم أن ما يقارب الـ40% من ناخبيه صوّتوا له فقط لمنع مارين لوبين من الوصول إلى السلطة. أكدت النتائج، أيضاً، اتّساع القاعدة الانتخابية لمرشّحة اليمين المتطرّف، وكذلك تأثير التحدّيات الدولية والأوروبية على المشهد السياسي الداخلي الفرنسي. لكنّ هذه الحصيلة، في نظر العديد من الخبراء، ليست بذاتها مؤشّراً كافياً إلى شأن قدرة أحزاب ماكرون ولوبين وجان لوك ميلانشون على تحقيق نجاحات في الانتخابات التشريعية القادمة. حول الانتخابات الفرنسية وتداعياتها السياسية، أجرت «الأخبار» مقابلة مع بول بوكا، الأستاذ في معهد العلوم السياسية في ليون، ومع إيروان لوكور، عالم الاجتماع المتخصّص في شؤون اليمين المتطرّف والحركات البيئية
الاستنتاج الأوّل الذي يفرض نفسه بعد إعلان النتائج، هو ذلك الخاص بالتقدّم الكبير الذي حقّقته لوبين عبر كسب أصوات فئات وشرائح اجتماعية لم تكن موالية تقليدياً لليمين المتطرّف. يَذكر لوكور أن الجمهور الانتخابي لـ«الجبهة الوطنية»، الاسم السابق لـ«التجمّع الوطني»، كان يضمّ أساساً قطاعات من كبار السنّ، معظمهم لا يحملون شهادات جامعية متقدّمة، ولديهم التزام إيديولوجي وإمكانات مالية جدّية. غير أن لوبين، التي بدأت حياتها السياسية في تسعينيات القرن الماضي، اعتمدت استراتيجية تهدف إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للجبهة، عبر اجتذاب ناخبين جدد يرفضون أن يُصنَّفوا ضمن ثنائية يسار/ يمين، ويعتبرون أنفسهم «فرنسيين أوّلاً»، ولا يزالون يمثّلون، بحسب لوكور، حوالي 10% من جمهورها الانتخابي. «استقطبت لوبين هذه المرّة كتلة انتخابية ثالثة، أقلّ إيديولوجية، وأكثر شعبية، ومن دون انتماءات سياسية سابقة. هي تتألّف بشكلٍ رئيس من عاطلين عن العمل أو من صغار الموظفين، أشخاص لا يحملون شهادات جامعية، تمكّنت لوبين من إغوائهم نتيجة كراهيتهم الشديدة لماكرون. ظهر الأخير على أنه رئيس الأغنياء، ومرشّح النخبة البرجوازية المدينية المعولمة، وهو أمر صحيح نسبياً من منظور اجتماعي. الكثير من الفرنسيين، الذين تعاطفوا مع السترات الصفر، وعانوا من الأزمة الصحّية التي سبّبتها جائحة كورونا، ومن الذين شاركوا في الاحتجاجات ضدّ التطعيم الإلزامي، عبّروا بمعنى ما عن تمرّدهم ضدّ السلطة المركزية، عبر التصويت ضدّ ماكرون».
ad
يَلفت لوكور، أيضاً، إلى نسبة التصويت المفاجئة التي حصلت عليها لوبين في مقاطعات وأقاليم ما وراء البحار الفرنسية، حيث قام الناخبون المؤيّدون لميلانشون في الدورة الأولى، بالتصويت ضدّ ماكرون في الدورة الثانية. يعود هذا التصويت برأيه إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على خيارات الناخبين، وإلى حالة التشوّش والغضب السائدة، وشعور هؤلاء بقلّة الحيلة. «صوّت البعض ضدّ ماكرون استناداً إلى أخبار كاذبة جرى ترويجها عبر وسائل التواصل، كما حدث خلال حملتَي دونالد ترامب في الولايات المتحدة وجايير بولسونارو في البرازيل. لكنّ الغالبية صوّتت ضدّ ماكرون نتيجة امتعاضها من الإجراءات المفروضة بالنسبة إلى التطعيم الإلزامي. في جزر الأنتيل، انحصر التطعيم بدوائر محدودة بسبب معارضة القطاع الأعرض من الناس له. غير أن قسماً معتبَراً من هؤلاء مُنعوا من ممارسة مهنهم. نحن أمام رفض لماكرون لا يعني بالضرورة تأييداً لبرنامج لوبين»، بحسب لوكور.
مسألة الإسلام في فرنسا لن تُحلَّ قبل التوصُّل إلى منظور سويّ للعلاقة بين الجزائر وفرنسا
كان للقضايا الدولية والأوروبية تأثير أكيد على المسار الانتخابي نتيجة تزامنه مع الحرب الدائرة في أوكرانيا. «العلاقات بين بوتين وبعض المرشّحين غذّت سجّالات لم تكن لصالح الأخيرين. لا شكّ في أن قيام لوبين بالاقتراض من بنك روسي قد أفقدها بعض الأصوات خلال الانتخابات. ميلانشون تعرّض أيضاً للهجوم نتيجة لتحليلاته المؤيّدة للحكومة الروسية، ما حرمه من أصوات ناخبين اشتراكيين أو خضر. من جهة أخرى، فإن رئاسة فرنسا لمجلس الاتحاد الأوروبي انعكست إيجابياً على صورة ماكرون في بعض أوساط الناخبين»، وفقاً لبول باكو. من جهته، يشير لوكور، في هذا السياق، إلى أن «لوبين حاولت أن تحذو حذو فكتور أوربان، بزعمها أن التقارب مع بوتين ضروري لتجنُّب الحرب، لكنّها ألمحت إلى أن انتخابها سيعني تخفيضاً لأسعار النفط والغاز الروسيَّين بالنسبة إلى الفقراء من الفرنسيين، وقد يكون هذا الأمر قد أكسبها بعض التأييد».
لن تُحقّق أحزاب ماكرون ولوبين وميلانشون نتائج إيجابية في الانتخابات التشريعية، شبيهة بتلك التي حصلت عليها في الانتخابات الرئاسية. يحاول ميلانشون، وحزبه، «الاتحاد الشعبي»، بناء قطب سياسي جذري من خلال تشكيل ائتلاف عريض مع قوى يسارية أخرى، بينها جناح في حزب «الخضر». يعتقد باكو أن «هذه الاستراتيجية غير مضمونة النتائج، بسبب الخلافات الكثيرة بين القوى اليسارية، ولتراجع العدد الإجمالي للأصوات اليسارية في فرنسا». أمّا لوكور، فهو مقتنع بأن نجاح هكذا استراتيجية مشروط بتعامل ندّي من قِبَل حزب «الاتحاد الشعبي» مع حزبَي «الخضر» و«الاشتراكي». «القوّة السياسية الأولى في الميدان ليست الاتحاد الشعبي، بل الحزب الاشتراكي أو الخضر، لأنهما أكثر تجذّراً على المستوى المحلّي، ولديهما عدد أكبر من النواب المنتخَبين. ميلانشون نجح في رهانه على التحوّل إلى قائد سياسي خلال الحملة الانتخابية لأنه خطيب مفوَّه، ويمارس السياسة بطريقة أكثر فعالية مقارنة بغيره من المرشّحين، ولأنه تمكّن من اجتذاب التصويت المفيد خلال الدورة الأولى. 40% من الذين صوّتوا لصالحه لم يفعلوا ذلك نتيجة اقتناعهم بكلّ برنامجه، بل لإدراكهم أنه قد يكون قادراً على الوصول إلى الدورة الثانية. الأمر يختلف نوعياً بالنسبة إلى الانتخابات التشريعية. تحتاج الأحزاب التي تشارك فيها إلى شبكات محلّية ونواب مقنعين، ولا يملك حزب الاتحاد الشعبي عدداً كافياً من هؤلاء. من جهة أخرى، من المتوقّع أن يصل العزوف عن التصويت إلى نسبة الـ50%، خاصة في أوساط الشباب والفئات الشعبية التي صوّتت لميلانشون في الانتخابات الرئاسية». الفرصة الوحيدة المتاحة أمام حزب «الاتحاد الشعبي»، في نظر عالم الاجتماع الفرنسي، لتعزيز موقعه في المؤسّسة التشريعية، هي التوصّل إلى تفاهمات جدّية مع «الاشتراكي» و«الخضر». أمّا حزب «الجبهة الوطنية»، فقد «أثبتت التجربة التاريخية، لسنوات طويلة، أنه كان قوياً جدّاً، لكنه لم يستطع إيصال نائب واحد إلى البرلمان بفعل افتقاده للحلفاء».
استنتاج آخر يفرض نفسه، بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية، هو تعاظم «الإسلاموفوبيا» في فرنسا. هي تجلّت بوضوح في خطابات لوبين وإريك زيمور. لوكور يربط بين هذا التعاظم، وبين الموقع المركزي لحرب الجزائر في التصوُّرات السياسية السائدة في فرنسا. «آثار هذه التروما ما زالت قوية، وتؤثّر في التصوُّرات السياسية. بدأ جان ماري لوبين حياته السياسية بتشكيل جبهة الجزائر الفرنسية. زيمور هو ابن مهاجر يهودي جزائري اندمج في المجتمع الفرنسي، وحوَّل هذا الموضوع إلى مادة للمزايدة. العديد من القضايا المرتبطة بحرب الجزائر، كالأقدام السود، أو الحركيين، والتي لم تكن محطّ تفكير جماعي جدّي، بقيت كالأشباح التي تحوم ولا يمكن التخلّص منها. مسألة الإسلام في فرنسا لن تُحلَّ قبل التوصُّل إلى منظور سويّ للعلاقة بين الجزائر وفرنسا».